الحرب على غزة كحرب عالمية
منذ بداية الحرب اقترحت أن نوسّع زاوية النظر إليها بدل الذهاب وراء الجزئيات والتفاصيل والتمحور حولها. صحيح أن جيتو غزة هي نُقطة صغيرة على ساحل فلسطين التاريخية إلّا أن الحرب عليه هي موضوع عالمي في ثلاثة مستويات على الأقلّ. في مستوى اندراجها ضمن صراع إقليمي دوليّ حول الموارد الطبيعيّة لا سيّما الطاقة وخطوط الملاحة والموانئ علما بأن سواحل غزة منطقة غنيّة بالغاز الطبيعيّ. في مستوى السجال عبر الشبكات والمنصات الإلكترونية على مدار العالم. في مستوى علاقات الشعوب والمواطنين بالأنظمة والدول وفي مستوى علاقات الثقافات المتصارعة. وأخيرًا، في مستوى جدول أعمال المنظمات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الإنسانيّة. وهو ما نراه يحصل ويتفاعل دُفعة واحدة في نقطة واحدة هي غزة. وهي ليست وحدها في هذا الإطار. فلدينا أوكرايينا ولدينا العمق الأفريقي والعراق وسورية واليمن وبحر الصين ـ كلّها نقاط تُجسّد مستويات مختلفة من الصراعات أبرزها الصراع الكوني حول الموارد، تحت الأرض وفي الجغرافيا.
في طيات هذه "الصراعات" طبعًا سعي الفلسطينيين إلى التحرر ونيل حقّهم في تقرير مصيرهم في وطنهم. وهو الذي ينبغي ألّا يغيب عن أعيننا في كلّ تحليل للحرب كي لا يغيب عدل القضية الفلسطينيّة ومطلبها الحقّ. ومع هذا ينبغي أن نرى مجريات الحرب في المستويات الدوليّة لا سيّما على الساحة الثقافية عبر منصات التواصل والشبكات التي تلفّ العالم وتشبكه في معارك لا تقلّ شراسة عمل هي الحرب على الأرض. في رأينا، أن هذه المعارك كلّها محكومة لثلاث عوامل أساسيّة وهي: اللاسامية والإسلاموفوبيا والتيّارات النقديّة الثورية في العالم. إن اتساع النقد الشعبي للحرب ولسياسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني عبر العالم يجعل إسرائيل الرسمية وحلفائها يتهمون المنتقدين باللاسامية ـ أي بالعداء لليهود بوصفهم يهودا. على جهة مقابلة من هذا فإن إسرائيل الرسمية وأوساط اليمين العالمي تحاول اشتقاق موقفها من نزعات الإسلاموفوبيا المنتشرة في مجتمعات غربية وسواها. وذلك للتحريض على غزة والفلسطينيين وحقوقهم بدعوى أنهم ينتمون إلى ثقافة إسلامية عنيفة ترفض التعايش و"تعتدي" على إسرائيل! ضمن فكّي الكماشة هذه تتحرّك تيارات نقدية يسارية وثورية في العالم نُصرة للشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لهجمات فاقت تلك في الحرب العالمية الثانية ضد المُدن والمدنيين. جزء من هذه التيارات تأخذ قضية فلسطين كقضية اختبار للحكومات وللمنظومة الدوليّة النازعة إلى نيو ـ كولونياليّة بغطاء العولمة وسيروراتها التي تدكّ الدول وحقوق الشعوب وتستولي على مواردها. ينعكس هذا السجال الثقافي ـ السياسي ـ الأخلاقي في الشبكات حول العالم. ويبدو أن الكفّة فيه رجحت لصالح فلسطين الأمر الذي يُفقد الجانب الإسرائيلي أعصابه فيزيد من الضغط على الحكومات الحليفة لمزيد من الضغط كأن تشترط الحكومة الألمانية منح الجنسية بإقرار طالبها بحقّ إسرائيل في الوجود! إذن هي في مستوى ما حرب بين المركز الغربي الرسميّ على ما يعنيه من إرث استعماريّ عنيف معادي للشعوب وبين شعوب وثقافات عدّة لا تزال تعاني من آثار الحقبة الاستعمارية أو من سياسات غربية معادية.
على مستوى الإقليم تشكّل حركة حماس المُمسكة بزمام الأمور في غزّة جزءًا من المحور الإيراني. بمعنى أنها تلعب ضمن المشروع الإيراني الساعي إلى امتلاك قدرات نووية وازنة والسيطرة على الموارد الطبيعيّة بما فيها المواقع الاستراتيجيّة في الإقليم. ومن هنا فإن الحرب على غزّة تُغذي أسباب الفعل العسكريّ على الحدود الإسرائيلية مع لبنان وفي البحر الأحمر بأيدي قوات الحوثيين في اليمن. لقد اجتمع مجلس الأمن الدولي ثماني مرات في شهرين للبحث في الحرب على غزة. وقد فشل في كلّ المرّات في اتخاذ قرار يوقف الحرب التدميريّة أو حتى في ضمان وقف النار لتقديم الإغاثة الإنسانية لسكان الجيتو. بمعنى أن الحرب هي شأن دوليّ بامتياز وأن الولايات المتّحدة الأمريكية معنية ـ بحسب مواقفها وتصويتها بفيتو على كل الاقتراحات المقدمة لوقف الحرب أو لوقف النار ـ تريد للحرب أن تستمرّ ضمن رؤيتها للغايات الاستراتيجية من هذه الحرب ومنها رغبة إسرائيل غير المعلنة بالسيطرة على حقول الغاز البحري قبالة غزة واقتطاع مناطق من الجيتو لأغراض اقتصادية كإقامة قناة مائية مع البحر الأحمر كمنافسة لقناة السويس وأهداف ديمغرافية أبرزها تدمير حاضرة فلسطين الجنوبيّة.
لقد أثبتت المنظومة الدولية بشقيّها العام ـ الأمم المتّحدة ـ والإقليمي ـ منظمة الدول الإسلامية وجامعة الدول العربية ـ الفشل في معالجة الحرب ونتائجها لا سيّما في إغاثة سكان غزة. كما أننا لا نستطيع أن نتوقّع أي شيء من حكومة اليمين الإسرائيلية ولا من النُخب المناهضة لها خاصة وإنها اصطفّت باكرا للمشاركة في الحرب. من هنا نقترح رؤية الصراع الإقليمي والكوني على الموارد كعامل يُمكن أن يؤثّر على اتجاه الحرب. وهو صراع بين أمم وكُتل وقوى لا نعرفها أحيانا ممثلة بتحالفات ومحاور ودول عُظمى تعمل خارج نطاق القانون الدولي والقنوات الدبلوماسيّة. وقد تسلك طريق مجموعات المافيا غير المحكومة سوى لقانون الربح والخسارة والعنف غير المنضبط ولا يخضع لمواثيق أو معاهدات اجترحها المجتمع الإنساني إثر فظائع الحربين العالميتين، الأولى والثانية. لقد تحررت هذه القوى من وثاق هذه المواثيق وهو ما نرى نتائجه الكارثية في غزة. وممّا يزيد الطين بلّة حقيقة أن القرار الوطني ومفهوم السيادة الوطنية في العالم قد انحسرا كثيرا لصالح القرار الفوق وطني ـ مراكز العولمة وقواها ـ الأمر الذي جعل دولا وحكومات تختفي من الحسابات تكتفي بتصريحات بائسة ـ مصر مثلًا ـ وتنسحب من المشهد كلّيًا. قد يكون في تظاهرات جماهيريّة في الكثير من عواصم العالم بُشرى لأهل غزة. حتى يحصل هذا على هذه التظاهرات المعادية للحرب المؤيّدة لحقوق الفلسطينيين (وليس لحماس) أن تتكثّف وتزيد. أو أن الضغط الاقتصادي الحاصل في العالم وفي إسرائيل والإقليم بسبب الحرب واحتمالات تمددها قد تُحاصر الحرب ومُحدثيها.
مرزوق الحلبي
حقوقيّ ومستشار استراتيجي ومنسّق المجموعة الفلسطينية في الداخل للتفكير الاستراتيجي ومتخصّص السياسة في دول الشرق الأوسط