الجيل الفلسطيني الرابع، منتصب القامة الديجيتالي

نتج عن إقامة دولة إسرائيل عام 1948 بتر في استمرارية تسلسل المبنى الجغرافي وبتر للمبنى الأسري والاجتماعي والسياسي والثقافي والفكري، الذي كان في دولة فلسطين الكاملة حتى عشية النكبة.

يهدف هذا المقال إلى توصيف الجيل الرابع من الفلسطينيين المواطنين الباقين في دولة إسرائيل، لكنه يستعرض سريعاً مزايا الأجيال التي شكّلت المجتمع الفلسطيني منذ النكبة وإقامة دولة إسرائيل وحتى الوقت الراهن. هناك تأثير متبادل للعامة والنخب في كل جيل وبإمكاننا أن نتخيلها كمبنى هرمي. ولكن، هنالك مثلث صغير قائم في داخل كل واحد من هذه الأهرام، يشكّل فئة الجيل الفلسطيني السلبي، المنحني والمهزوم والذي له قادته، أتباعه وجنوده. هؤلاء يشكّلون عالم الإجرام القائم في المجتمع الفلسطيني الراهن.

تاريخ الجيل الأول، الثاني والثالث

الجيل الأول هو جيل "الباقون". وهو يشكّل 15% من مجتمع فلسطيني كامل بقي داخل حدود الدولة الجديدة. هم الناجون من الموت والطرد من الوطن الأم. هم من واكبوا النكبة واكتووا مباشرة منها بواسطة الاقتلاع، التشريد، الإفقار، فقدان أفراد أسرة، تفسخ أفراد الأسرة الواحدة عبر حدود عدة دول، فقدان المبنى الاجتماعي والثقافي القائم، فرض الحياة تحت نظام حكم وشعار ولغة وثقافة غريبة، العيش تحت وطأة الحكم العسكري لمدة 19 سنة متواصلة، ثم تعلم البدء من جديد.

الجيل الثاني هو الجيل المتآكل نفسياً. يمتاز بنشاطه السيزيفي غير المحدود. هو الجيل الذي تربى لدى أهل منكوبين على شتى الأصعدة، عمل كل عمره على إعادة بناء نفسه وأسرته ومجتمعه ومؤسساته. بدأ يبني من جديد بواكير الكوادر الأكاديمية والمهنية والحرفية والاقتصادية والسياسية. تعلم بناء أطر سياسية وحزبية جديدة، بعضها مختلط يهودي فلسطيني، وبعضها اقتصر فقط على الفلسطينيين (في حينه، تم -عمداً- محو التعامل مع مصطلح "فلسطين/ي" واستُبدل بمنهجية بمصطلح "عرب/ي"). طالب هذا الجيل بالمساواة في شتى بنود المواطنة وبإرجاع الحقوق المسلوبة وبإزالة بواقي آثار الحكم العسكري. كثّف هذا الجيل من النشاطات الفكرية والثقافية والحزبية وحارب الأسرلة ووصفها بالعمالة وعمل على إعادة التثقيف للفلسطنة. من جهة أخرى، واكبت هذه الفترة نشاطات مكثّفة لجهات يهودية عالمية وإسرائيلية للتدريب على "التعايش" الذي عنى في مضمونه تفهّم وتقبّل الفلسطينيين حاجة اليهود الإسرائيليين إلى الاستقرار والأمان ضمن حدود دولة إسرائيل. تراجعت هذه النشاطات تدريجياً ابتداءً من فترة الانتفاضة الأولى، ثم الانتفاضة الثانية وانقرضت تماما بعد هبة أكتوبر 2000.

الجيل الثالث: الجيل المنتصب القامة. هو الجيل الذي ولد لآباء وأمهات فلسطينيين، مواطني دولة إسرائيل. بعضهم مثقف يحمل شهادات أكاديمية، إسرائيلية أو غيرها، والآخر لم يتعلم بنفسه ولكنه آمن بأهمية التعليم كأداة لمواجهة نظام الدولة العنصري ولتوفير فرص المساواة مع المواطن اليهودي الإسرائيلي. هذا الجيل  تعلمّ عن قهر الأجداد وعن صعوبات الوالدين في إعادة إنشاء الذات رغم النكبة. هو نتاج لتربية الآباء والأجداد. أقام هذا الجيل الأحزاب الفلسطينية وأقام مؤسسات المجتمع الوطني ثم اعتمدها للتثقيف المدني من جهة ولنيل الحقوق من الدولة من جهة أخرى. وعلى عكس الأجداد، لم يعد بحاجة إلى تصريح من الحاكم العسكري حتى يصل إلى مكان عمله. وخلافا للآباء، لم يعد يبحث عن منحه فرصة عمل باعتباره "العربي الأول في مجال العمل"، بل اتسعت آفاقه وارتفع سقف مطالبه السياسية والقومية بحيث صار يستخدم الكفاءة المهنية ليطالب بالندّية في مكان العمل، سواء في المجتمع اليهودي أو في الشركات العالمية الموجودة في إسرائيل أو عبر البحار.

الجيل الرابع

بما أن المجتمع الفلسطيني في إسرائيل في حالة تغيّر مكثف ودائم، أسوة بالمجتمعات الأخرى في العالم خلال القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، فقد أفرز خلال السنوات العشرين الأخيرة، ومنذ أحداث أكتوبر 2000، الجيل الرابع.

أسمي هنا الجيل الرابع بـ الجيل المنتصب القامة الديجيتالي. ولد هذا الجيل وتلقى تنشئته الأسرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعد أحداث أكتوبر عام 2000. هذا الجيل، مثل جيل زِد  Generation) Z) والجيل التالي: ألفا (Alpha Generation)، له علاقة بنيوية مع التكنولوجيا منذ الولادة. يعيش العولمة في حياته اليومية البيتية والمدرسية وفي أماكن العمل ويمارسها عبر الانترنت وشبكات التواصل على أنواعها. يشبه الجيل الرابع نظراءَه في بلدان العالم في إدارة حياته بواسطة التكنولوجيا وشبكة المعلومات. هو انتقائي وعملي في اهتماماته. يهمه النجاح المادي ويبحث عن الطرق الأقصر والأسرع لتحقيقه. ثقافته العامة والسياسية والتاريخية والوطنية محدودة مقارنة مع الجيلين الثاني والثالث. نشاطه العائلي محدود بسبب التغيرات في مبنى ساعات العمل والنشاط الاجتماعي التي حصلت لأبناء وبنات الجيل الثالث، حيث زادت ساعات غياب الوالدين وانغماسهما في التزاماتهما المهنية وزاد انشغالهما من التواصل الاجتماعي عبر المنصات الديجيتالية أثناء وجودهما داخل البيت. 

  • عدد الإخوة والأخوات في هذا الجيل أقل منها في أسر الأجيال الأول والثاني والثالث وفي بعض الأحيان، لا يوجد إخوة أو أخوات نتيجة لاختيار الوالدين الطوعي. أما مفهوم "الصداقات" فتغيّر تماماً وأصبح الأبرز والأهم هو أصدقاء التواصل الانترنتي والألعاب الديجيتالية. وهذه المجموعة تعدّت حدود البيت (الديرة) أو الحي (الجيرة) أو الصف الدراسي أو البلدة أو الدولة لتشمل أصدقاء تواصل ولعب من جميع أنحاء العالم ومن كافة الفئات العمرية.

  • اللغة: تحكي هذه الفئة وتكتب العربية المحكية الصافية أو المدمجة مع لغات أخرى (هجينة). يجري التكاتب بواسطة استخدام أي من الحروف المتاحة، سواء العربية أو العبرية أو الانكليزية أو الإيموجي (الرموز التعبيرية الديجيتالية). تتعامل هذه الفئة مع اللغة العربية الفصيحة على أنها لغة أجنبية لا تفيدها في تعليمها العالي أو في علاقاتها المهنية، بينما تعتبر اللغة العبرية لغة عملية تفتح الأبواب في مؤسسات التعليم العالي وأماكن العمل. أما اللغة الإنكليزية، فتتعامل معها على أنها لغة التواصل الثقافية الإلزامية.

  • التعليم: أقامت هذه الفئة المدارس العربية الخاصة بهدف منح أولادها فرصاً أفضل للامتياز الدراسي. توقف إرسال البنات والأولاد إلى مدارس يهودية متميزة، نتيجة المعاناة النفسية والعاطفية والاجتماعية الصعبة التي عاشها أبناء الجيلين الثاني والثالث في تلك المدارس كأبناء للمجتمع الفلسطيني. أقيمت أيضاً بعض المدارس الثنائية اللغة التي ينخرط فيها أبناء وبنات هذه الفئة وهدفها إبراز التجربة الثقافية المشتركة وليس التعايش السياسي بمفهومه الإسرائيلي الكلاسيكي السابق. في الإجمال، هناك انخفاض في تأثير المدرسة وتأثير الوالدين على هذا الجيل.

  • العالم الثقافي: يشمل في الأساس الموسيقى والأغاني الشبابية، سواء كانت عربية أو عبرية أو عالمية (معظمها إنجليزية ولكن لا تقتصر فقط عليها). معظم مضامين هذه الأغاني هي تعبير عن "الفردانية" Individuation  أو عن المقاومة (الأسرية، أو الاجتماعية أو السياسية أو الجنسية).

  • عالم الألعاب الديجيتالية: يعتبر نشاطاً شرعياً أساسياً للتسلية. تجاوز هذا النشاط جيل الأطفال أو الشبيبة أو العزاب وتسرب إلى جيل أولياء الأمر أصحاب المهن والتخصصات الذين يبحثون عن "وقت خاص بهم" لممارسة الألعاب الديجيتالية، حتى لو كان هذا على حساب الوقت الزوجي أو الأسري.

  • النشاط الوطني والسياسي: يتميز بأنه انتقائي ومحدود. يوجد غياب ملحوظ للأطر الحزبية وهناك حضور باهت للأطر الدينية (الإسلامية والمسيحية والدرزية) ولحركات الشبيبة. تستخدم هذه الفئة المنصات الديجيتالية وشبكات التواصل بحرفية بهدف التعبير عن الاحتجاجات السياسية والوطنية ويكون جمهور الهدف الفلسطينيون في جميع أماكن تواجدهم، العالم العربي، اليهود في إسرائيل والعالم وفئات متضامنة أخرى من العالم الواسع. يسعى قادة هذا الجيل إلى إحصاء عدد الأفراد من العالم الذين اطّلعوا على المضمون الذي تم نشره ولا يسعون لتنظيم مظاهرات ميدانية وإحصاء عدد الذين يشتركون فيها، مثلما فعل أبناء الجيلين الثاني والثالث.

لا يوجد أي مندوب لهذا الجيل في لجنة المتابعة أو في البرلمان أو في قيادة أي حزب أو حركة فلسطينية.

  • النشاط الاقتصادي: أقامت هذه الفئة الكثير من الشركات في مجال الهايتك اعتماداً على طاقات وكفاءات فلسطينية أو إسرائيلية أو عالمية أو مدمجة. كما شجعّت المساواة الجندرية في أماكن العمل هذه. يشتغل خريجو الجامعات والفنانون في مجالات تخصصاتهم المتنوعة في أماكن العمل اليهودية التي تتيح لهم فرصاً أكبر للتخصص المهني والاكتفاء الاقتصادي. لا تعتبر هذه الفئة هذا بمثابة نزعة للأسرلة بل للنجاح المهني والمادي ولتحقيق الطموح الشخصي.

  • المجتمع المدني: هناك فئات قليلة أقامت مؤسسات جديدة للمجتمع المدني أو قادت حراكاً اجتماعياً يقود من هم في الجيل نفس أو الجيل الأصغر، أو الأكبر، سناً. 

يشترك أبناء الجيل الرابع في النشاطات الوطنية في الحالات التالية:

  • كونهم أبناء وبنات الأسر الناشطة سياسياً ووطنياً والتي حافظت على التنشئة السياسية والوطنية لأولادها بواسطة إشراكهم في المخيمات الوطنية التخصصية، الرحلات الهادفة للقرى المهجرة والمشاركة في مسيرة العودة السنوية.

  • تجنيدهم عن طريق القيادات الطلابية للمشاركة في الاحتجاجات والإضرابات والمظاهرات الكبيرة العامة بعد أحداث مأساوية، سواء تلك التي تحدث في مناطق السلطة الفلسطينية أو في إسرائيل (مثل الغارات المكثفة على غزة (2014)؛ إحراق أفراد عائلة دوابشة في الضفة الغربية (2015) أو أحداث أيار في الأقصى وفي أحياء القدس الشرقية والبلدات العربية داخل إسرائيل 2021).

  • تجنيدهم أنفسهم أو تجنيدهم لغيرهم عن طريق المنصات الديجيتالية. يتم نشر الحدث الذي يتضمن الخبر والصور والأفلام والمقابلات ويتم تعميمه خلال دقائق وبكثافة على مجمل الشبكات ووسائل الإعلام العربية والعبرية والعالمية.

  • استخدام الفن: ينشر أبناء الجيل الرابع الأفلام القصيرة ذات المحتوى الواحد المكثّف؛ يستخدمون أغاني الراب باللغات العربية والعبرية والانكليزية بهدف الانتقاد، الاعتراض، المقاومة والمطالبة كما يستخدمون شتى أنواع الفنون التشكيلية الديجيتالية.

  • يظهر تكتل الجيل الرابع في النشاطات الوطنية عقب أحداث المحن الشديدة بينما يعود التشرذم والفردانية في فترات الهدوء. 

المحنيون داخل الجيل الرابع

أفرزت الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والتي تفاقمت بعد محنة كورونا بشكل خاص، إضافة إلى الأوضاع الأمنية في البلدات العربية والتي برز فيها تقصير الدولة في تقديم الخدمات الضرورية، تأثيراً سلبياً للفئة المهمشة داخل الأجيال الثلاثة السابقة والجيل الرابع، وهم الفلسطينيون المحنيون. هم أفراد غير مثقفين، عانوا من التهميش الاجتماعي والمدرسي في المراهقة، عاشت عائلاتهم في ضائقة مادية وعانت شظف العيش. انخرط البالغون في العمل الإجرامي المنظم ونجحوا فيه مادياً ثم ضموا إليه "جنوداً" من كل الأعمار ليخدموا أهدافهم. يجد أفراد مهمشون من أبناء الجيل الرابع في هذه العصابات أماكن عمل توفر الدخل المضمون لمن يفتقر إلى أي تأهيل مهني. كما أنها توفر الحماية الزائفة لمن لا يستطيع الحصول عليها من مؤسسات الدولة مباشرة. كان من بين أفراد هذه الفئة من استغل أحداث هبة الكرامة في أيار 2021 ليمارس السرقات والنهب بهدف الربح المادي السريع، مما أثر على صبغ أحداث أيار بكونها أعمال زعرنة وإجرام بدل أن تكون نشاطاً وطنياً مُقاوِماً.

نظرة إلى المستقبل

يواجه المجتمع الفلسطيني في إسرائيل منذ بداية نشاط الحكومة الحالية في عام 2022 اقتراحات لقوانين عنصرية مكثّفة هدفها العودة إلى التعامل مع المجتمع الفلسطيني كما كان الوضع عليه إبان الحكم العسكري. يظهر هذا في اقتراحات القوانين التي تحد من حرية التعبير عن الرأي، أو تعريف الفلسطيني على انتمائه الوطني، أو الكتابة والنشر حول هذا، أو رفع رموزه الوطنية مثل العلم ومتابعة التضييق الشمولي عليه بواسطة التشديد على تعريف الدولة بأنها دولته. هناك حاجة لمتابعة كل هذا بنشاط سياسي وطني مدروس ومكثّف.

أقترح أن تنقل قيادات المجتمع الفلسطيني من الأجيال الأول والثاني والثالث إلى الجيل الرابع النقاش حول الأسلوب الأمثل لقيادة مستقبلهم كمواطنين فلسطينيين في إسرائيل. أقترح أن يختار أبناء الجيل الرابع قياداتهم، بحيث تكون عابرة للأحزاب والتيارات السياسية والدينية، وتشمل مجمل الفئات الاجتماعية والثقافية وأن تكون متساوية جندرياً. على هذه المجموعة مناقشة مضامين النشاط الوطني السياسي والإعلامي وأدواته. أقترح أن يكون هناك ممثلون عن قيادات الأجيال الأول والثاني والثالث حاضرين للمتابعة والتعلُّم والدعم لهذه النشاطات ولقراراتها. 

وكما هو مناسب للجيل الرابع، أظن أن مكان اللقاء لمثل هذا النقاش سيكون عبر منصة زووم أو ما يشبهها. 

أ.د. خولة أبوبكر

محاضرة وباحثة أكاديمية، معالجة زوجية وأسرية مؤهلة ومرشدة معالجين مؤهلة

ميخائيل دَاوُدَ
تحليل علمي رائع لحالنا وبجانبه رؤية مستقبلية واضحة يجب تبنيها من قبل جميع الفئات العمرية أساسها الوحدة بين جميع الفئات الاجتماعية والسياسية
الأربعاء 2 آب 2023
شاركونا رأيكن.م