الفلسطينيون في إسرائيل والدعوة لحوار وطني شامل

 أكدت تطورات السنوات الأخيرة، بما في ذلك حيثيات الحرب في غزة والجرائم الاسرائيلية، أنّ المجموعات الفلسطينية التي راهنت على حلول فلسطينية مجزأة، لن تصل الى أي انجاز حقيقي، وقد ساهمت إسرائيل وسياسات حكوماتها، وخصوصا في العقدين الأخيرين، الى توضيح ذلك بشكل لا يقبل الشك. فهي التي أزالت الخط الأخضر، وهي من وضع غزة في سجن كبير، وهي من أقام وأسند وقوّى نظام التفوق العرقي - الابرتهايد، وهي من استمر في سياسات الاستعمار الكولنيالي في فلسطين التاريخية. وهي من وضح بسياساتها القومية والفاشية بأنّه لا مجال لحلول منفردة لجماعات فلسطينية مختلفة، وعبرت عن ذلك بوضوح في قانون الدولة القومية - 2018. وأن الفلسطينيين في إسرائيل، كما أخوتهم في اللجوء وفي الضفة والقدس وغزة، لن يستطيعوا الوصول الى أيّ إنجازات وطنية وجماعية كجماعات منفصلة، وبذلك فإن العودة الى العمل الجماعي والتنسيق الوطني في أطر جامعة، مع الحفاظ على التمايز النسبي، هو المفتاح لمستقبل فلسطينيّ، يحفظ الحق، ويعيد العدالة، ويوفر إطارا لتطور فردي وجماعي لعموم الفلسطينيين.

المبادرة الوطنية التي يتم نقاشها أخيرًا من قبل نشطاء فلسطينيين، والمعنية بالأساس في جمع طاقات فلسطينية منظمة في فصائل وأحزاب الى جانب نشطاء وأكاديميين وصحفيين ومراقبين في سياق مشترك، يتم التعبير عنه في مؤتمر وطني تسبقه لقاءات وورشات ونقاشات على منصات مختلفة، ويكون محطة في سياق متصل مع عدد كبير من المبادرات في الماضي، والتي حاولت الإجابة على ثلاثة أسئلة: أولا، من يقود الشعب الفلسطيني؟ ثانيا، ما هي أهداف النضال الفلسطيني, أي الى ماذا نصبو جماعيا كفلسطينيين؟ وثالثا، كيف نصل الى هناك؟ ما هي استراتيجيات النضال الفلسطيني؟ كيف نجند جهات عربية وعالمية وإسرائيلية؟ وكيف نحافظ على من خرجوا لجانبنا في مدن العالم منددين بالاعتداء الإسرائيلي؟ باختصار نحن أمام السؤال الوطني الأكثر أهمية على الإطلاق: كيف يمكننا أن نحوّل ما يحصل في سياق الحرب والتطهير العرقي في غزة إلى نقطة انطلاق تساعدنا على الخروج، ولو بشكل تدريجيٍّ، من مأزقنا الاستراتيجي والبنيوي، إلى مرحلة جديدة تكون بداية لتصحيح الظلم التاريخي الواقع على الفلسطينيين؟

هذه المبادرة تتسق جوهريا مع مبادرات سبقت الحرب الحالية، وأتت على خلفية ثلاثة تطورات مركزية. الأولى، تراجع إسرائيل عن الاستعداد لأيّ حل منطقي ومصالحة ممكنة مع الفلسطينيين، والثانية، تردي الحالة الفلسطينية داخليًا والانقسام وتحول السلطة الفلسطينية الى وكيل ثانوي للاحتلال وهيئة فاسدة ومفسدة للفلسطينيين، بالإضافة إلى تراجع قضية اللاجئين ومكانتهم. وثالثًا، تطورات دولية قلصت، الى حد الإلغاء، لوجود القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية. أهمها طبعا تطورات أدت الى تحولات في الاهتمام الدولي، مثل صعود تحدي الصين للغرب عمومًا وللولايات المتحدة خصوصًا، آثار الربيع العربي وتفاقم الإشكالات العربية المحلية، حرب روسيا وأوكرانيا، الخ. كل ذلك أتى بنشطاء فلسطينيين في "ملتقى فلسطين" و"المؤتمر الشعبي الفلسطيني" و"مبادرة إعادة بناء منظمة التحرير" و"مؤتمر فلسطينيي الخارج" و"مبادرة الدولة الواحدة" الخ من المبادرات الى التفكير في طرق وأفكار ممكن أن تعيد زمام المبادرة الى العمل الفلسطيني.

يركّز الحراك الأخير على دعوات صدرت على أثر اجتماع لإطلاق مبادرة النداء الفلسطيني في رام الله، وعلى خلفية ورشات لجهات مختلفة منها لـ"ملتقى فلسطين"، وصولًا إلى بيان صدر عن اجتماع بالدوحة خلال فبراير الماضي ووقع من قبل 1200 ناشط فلسطيني. دعا البيان الى المبادرة لحراك فلسطيني يأخذ بالحسبان حيثيات الحرب الإسرائيلية على غزة ونتائجها الكارثية، وينطلق من هناك للدعوة لترميم الوضع الفلسطيني، استراتيجيا من خلال إعادة بناء منظمة التحرير بحيث تمثل الكلّ الفلسطيني وتتوقف عن كونها أداة بيد ثلة قليلة من المسيطرين على القرار الوطني باسم منظمة التحرير، وبغير تفويض وطني من أيّ جهة كانت، كما يدعو البيان الى إقامة حكومة فلسطينية موحدة، تنضوي تحتها القوى الفلسطينية الرئيسة وتكون مرجعية لموقف فلسطيني موحد وكأداة للمساهمة في وقف الحرب الإسرائيلية على غزة والوصول الى وقف فعلي لإطلاق النار ومن ثم العمل على إعادة ترميم وبناء غزة والتعامل مع الآثار المدمرة للجرائم الإسرائيلية.

لا يوجد ما هو أهم من هذا المطلب الوطني في هذه المرحلة، والتي يتأكد خلالها ويوميا أن إسرائيل الفاشية والعنصرية لا تقبل بأقل من الاستمرار في جعل غزة غير قابلة للحياة، وفي قتل وتهجير ما أمكن من الفلسطينيين، في غزة وفي فلسطين التاريخية. وبداية أيّ مساهمة جدية تكون في ترتيب البيت الفلسطيني وفي توضيح، أو محاولة توضيح الإجابة على الأسئلة التي طرحناها أعلاه.  

لقد نتج عن الهجوم الإسرائيلي المستمر في غزة والقدس والضفة والداخل وضع الفلسطينيين بالغ التعقيد، أهم سماته تتمثل في معاناة إنسانية غير مسبوقة للغزيين تحديدا ولعموم الفلسطينيين في وطنهم التاريخي، فيما تراجع جديا أداء القيادات والنخب. فحماس والجهاد وفتح وباقي الفصائل ومنظمة التحرير وقيادة السلطة الوطنية وقيادات فلسطينيي الـ 48 بأحزابهم وأطرهم القيادية وعموم المجتمع المدني الفلسطيني لم يكونوا على قدر الحدث، ولم يقوموا بما هو مطلوب لوقف المجزرة التي تنفذها إسرائيل. هذه الخلفية تجعل من المبادرة الوطنية لإعادة ترميم البيت الفلسطيني، مهمة إجبارية، تستطيع أن تبدأ ببحث إشكال التعامل مع حيثيات الجرائم الإسرائيلية والحرب، كما أنها ضرورية كذلك في سياق التعامل الاستراتيجي مع الوضع الفلسطيني الذي تفاقم وترهل وغاب كفعل جماعي منذ صعود محمود عباس لقيادة منظمة التحرير والسلطة، وحتى قبل ذلك مع تفاقم تداعيات اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية. باختصار، نحن كفلسطينيين، وفي كل أماكن وجودنا، وبصرفِ النظر عن الحل السياسي العيني الذي ننشده، وعن خلافاتنا الفكرية والأيديولوجية والحزبية، وعن تقييم هجوم حماس ودوافعه وحيثياته، وعن تعامل منظمة التحرير والسلطة، نحن بحاجة لهذا الجهد لكي نعيد الاعتبار لدورنا ولنساهم مرة أخرى، بشكل جديّ، في بناء خريطة طريق لمستقبلنا كجماعة. ولنتذكر دائما أنه بالإضافة للآثار المدمرة لغياب فعل وطني جماعي فلسطيني في سياق الحرب والجرائم الإسرائيلية، فإننا لن نستطيع الحفاظ على "الإنجازات" المتمثلة في زيادة التعاطف العالمي مع الفلسطينيين وقضيتهم والشجب للجرائم الإسرائيلية، إلا إذا كنا أكثر تنظيما وحضورا، وهذا تماما ما تنشده المبادرات بهذا الخصوص، بغض النظر عن نقد هنا أو هناك لهذه المبادرة او تلك.

بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل، فإنّ الحرب وحيثياتها أثبتت مرةً أخرى مكانتهم الدونية، بل عمقتها أكثر، كما وضعتهم أمام تحديات سياسات إسرائيلية من الانتقام والمراقبة ومنع التظاهر، أي حجبت ما كان من "مواطنة" وجعلتهم عرضة لانتقام الدولة كما لعداء قطاعات شعبية إسرائيلية واسعة. كما أنّ الحرب وضّحت عمق المأزق الداخلي وقلة الحيلة والامكانية لعمل جماعي للوقوف أمام المخاطر المحدقة، بما في ذلك ضعف الاحتجاج وانهيار العمل الجماعي الفاعل، إلا في بعض مبادرات المجتمع المدني ومبادرات محددة للجنة المتابعة، تبقى أقل بكثير مما هو مطلوب. وبالطبع فإن أهم جوانب الوهن والضعف ظهرت في ضعف التضامن مع الغزيين، وضعف مبادرات دعمهم وإسنادهم ماديًا ومعنويا، محليا ودوليا. كل هذا بحاجة إلى مراجعة حقيقية وشجاعة، لم تبدأ بعد كفعل جماعي ومنظم، لكنها ضرورية لمستقبلنا وللخروج من حالة العجز في الحيثيات الخاصة.

لكن الأهم هو أن الحرب أثبتت مرة أخرى أن الفلسطينيين في إسرائيل هم ضحايا نظام التفوق العرقي، كما السياسيات المتفاقمة لحكومة اليمين الجديد الفاشي المتحكم في إسرائيل، وبهذا فإننا بحاجة الى التفكير والعمل على إعادة بناء مستقبلنا او تصورنا لأنفسنا بصفتنا فلسطينيين، وأن أحد أهم مخارج مستقبلنا نحو الأفضل، هو ليس بالتنكر الفعلي لعلاقتنا مع أبناء شعبنا، بل بالانخراط، والآن أكثر من أي فترة مضت، في جهود إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية والجهود الجماعية في سبيل تحقيق أسس الحياة الكريمة في وطننا. باختصار، نحن في الـ 48 لا نستطيع أن نكون متفرجين فقط على مساع لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، بل يجب أن ننخرط بذلك، مع عدم تجاهل حيثيات خاصة بنا. أن ننخرط بصفتنا معنيين مباشرة وليس كمساهمين من الخارج في فعل فلسطينيّ بعيد عنا. إنها فرصتنا التاريخية لإعادة الاعتبار لكوننا فلسطينيين فعلا، وليس بالتصريحات فقط، وكأن هذا ليس شأننا نظريا، بل عمليا يمسنا في كل جوانب حياتنا، وإبقاؤنا خارج الضوء في هذا لم ينفعنا في الماضي، بل أضرّ بنا وبحقوقنا ومكانتنا، واستمرار تجاهلنا لن يقدم حلا لنا كفلسطينيين، ولا كمواطنين في إسرائيل، ولا حتى إمكانيات الحل التاريخي الذي تشكلت ملامحه خلال العقدين الأخيرين في سياق واقع الدولة الواحدة، من النهر الى البحر.


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

بروفيسور أسعد غانم

محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا وعضو "ملتقى فلسطين"

رأيك يهمنا