ما بعد الحرب.. حربٌ أخرى
سألتُ صديقتي كيف لي أن أكتب عن مشهد اليوم التالي للحرب ولا زلنا في "عزّ الإبادة"، أجابتني: ما بعد الحرب حرب. نعم ستمر الأيام وستُمسي هذه الحرب من الماضي لكن حينها ستبدأ حرب أخرى، هي حرب الإدراك. في قلب هذه الإبادة ينشغل الغزّي بما يحصل فلا وقت لديه للانهيار، عليه أن يتحمّل أوزار الحرب ليكون جبلًا صامدًا أمام أبنائه. أما بعد الحرب ستزور تلك الأم قبرًا فارغًا لابنها الّذي تحوّل لأشلاء وتزرع فوقه ورودًا سُقيت بدماء الشهداء، سيدرك ذلك الطفل أنه فقد أمّا وحضنًا لا يضاهيه شيء في الكون، ستدرك الأخت الكبرى أنّها أصبحت أمًا لأخوانها وسيدرك ذلك الأب أنّ "شقا عمره" ذهب في ثوانٍ.
هكذا فقط أرى مشهد اليوم التالي للحرب
في اليوم التالي للحرب أرى سيلًا من العابرين يعودون لتفقد منازلهم المدمرة، أرى رجالًا محدقين في الفراغ ووجوه أمهات ارتسمت عليها صفحة من قهر وحزن، أرى فراغًا مروعًا وطفولة جافة في الجو، أرى صمتًا يطغى على المشهد، بينما معضلة اليوم التالي مستمرة سياسيًّا هكذا فقط أرى المشهد ولا أستطيع رؤية أي شيء آخر.
منشور الصحفي إسلام بدر
يقول المراسل إسلام بدر في رابع أيام عيد الأضحى: "لا أعرف كم بلغت أيام الحرب، لقد توقفتُ عن العد، ما أعرفه أنّ هذا الدرع هو لباسي منذ اليوم الأول.. أصحو فأرتديه وقبل النوم أخلعه وبعض الليالي نمت فيه، أعترف لقد كنت خائفًا. بفضل الله حماني الدرع من إصابة قاتلة.. بإبرة وخيط رقعت لي أمي الدرع من مكان الشظية عند الرقبة بعد أسابيع، لكن لا زال الأثرُ باديًا. لماذا أحدثكم عن الدرع؟ لأنني تمكّنت من غسيله أمس.. أخيرًا.. أعاد لي ذلك بعض لمعان لونه لكنه لم يُخفف من اهتراء قماشه.. في تخيلات ما بعد الحرب -لا أكثر منها- سأقوم بوضعه على حائط المنزل كتذكار".
استوقفتني الجملة الأخيرة الّتي بدأت "في تخيلات ما بعد الحرب"، تساءلت كيف يساعدهم توظيف الخيال على الصمود وعلى إعادة قراءة أنفسهم وواقعهم خارج سياق الحرب والقهر؟ شاهدتُ كثيرًا من أهالي غزة يقولون "سنعمّرها"، نعم هم يتخيّلون غزة ما بعد الحرب، غزة أخرى ليتمكنّوا من تربية الأملِ في "عزّ الحرب".
ما أكثر ما يخيف أهل غزة بعد انتهاء الحرب؟
"لا أريد أن أخاف الآن، لستُ خائفة، خوفي سيكون عندما تنتهي الحرب.." تقول الصحفية أمل من شمال القطاع وهي أم لستة أطفال، وتُضيف: "أخاف من عودة أهلنا النازحين في الجنوب، ومن بيوت العزاء الجديدة، من إخراج الرفات والجثامين من تحت الأنقاض، وأخاف من الأمل، اليأس والخيبة، أخاف من أن أقع مرة واحدة بعد كل هذا الأمل، أخاف من اسم جديد أفقده، يكون شهيدًا أو جريحًا أو مشلولًا، أخاف أن يترك الناس غزة ولا يعودون.. والله أخاف كثيرًا".
في مقابلة أخرى أجريتها مع الشاب موسى سالم (24) حول أكثر ما يخفيه بعد انتهاء الحرب، يقول: "سؤال جدّا صعب، إنّ أكثر ما يخيفني بعد الحرب هو مستقبلي، إلى أين يتجه؟ قبل الحرب جهزتُ شقّة لأتزوج لكنها قُصفت، سأعود إلى نقطة الصفر".
أمّا عن طريقة تعامله مع هذه المخاوف فيقول: "الصبر، أنا لا أشعر بالحزن لإنّه فعليًا رائحة الموت في غزة في كل مكان وزمان".
الجراح غير المرئية في اليوم التالي للحرب
يقول الأخصائي النفسي محمد السيد: "إنّ العقل البشري يتعامل مع الفقدان والصدمات النفسية الناجمة عن الحروب وغيرها أولّا عبر النكران، ثم الغضب ثمّ المساومة والاكتئاب وفي الأخير التقبّل. تُخلّف الحروب جراحًا وإعاقات مرئية وأخرى خفية، شخصيّا أقارب دومًا بين هذه الجراح. عادةً بعد الإصابة بالجراح المرئية هناك فترة "الحفاظ على البقاء"، التركيز فيها يكون على أساسيات الحياة والبقاء وليس على الخسارة، لذلك ما يحصل هو أنّه بعد مرور الأزمة والشدّة نواجه ما فقدنا وخسرناه والألم الّذي كنا مشغولين عنه. مثلًا عندما تفقد ابنًا لك، في اللحظات الأولى سيكون تركيزك على سلامة ابنك الثاني، ثم بعد تأكدك من سلامته تبكي على الأول.
الأخصائي النفسي محمد السيد
أما بالنسبة لمشهد اليوم التالي للحرب فيقول: "ما أتخيله في المشهد التالي للحرب هو ما تؤكده الدراسات أيضًا، بعد أن تضع الحرب أوزارها ستبدأ الجراح الخفية بالظهور والخسارات غير المرئية بالبروز (من اضطرابات نفسية، آلام، إدمان، حالات من الطلاق والتفكك الأسري…). للأسف فإنّ الحالة النفسية عقب الكوارث والأزمات دائمًا ما تكون أسوأ من فترة الأزمة نفسها. بالتالي سيحمل الجيل القادم عبئًا كبيرًا لمواجهته، سواء بالذكريات الّتي خزنها خلال العدوان أو من الآثار المترتبة للحرب كفقدان الأهل، مشاكل أسرية، الترميم الاقتصادي، التعايش مع فقدان شبكة الدعم الاجتماعي من رفاق وأقارب. إنّ العمل على برامج الدعم النفسي ضرورة ملحة لا تقل أهمية على مشاريع إعادة الإعمار، وللأسف هذه هي الحرب، خسارات جسدية ونفسية ولا منتصر فيها".
لا أعلمُ حقًّا كيف سيكون مشهد اليوم التالي للحرب سياسيًّا، لكنني على يقين من أنّ مشهدًا واحدًا لا خلاف عليه، وهي الحرب الأخرى الّتي ستبدأ، حربٌ في مواجهة الفقدان والجراح الّتي لا تلتئم.
الصورة: للمصوّر عبد الرحمن زقوت.