الضائقة في المراهقة كانعكاس للطفولة

سن المراهقة هو مرحلة عمرية حرجة تتميز، أساساً، بالبحث عن الهوية الشخصية. فكل مراهق (ومراهقة) يبحث عن نفسه من خلال تجارب الحياة المختلفة التي يعيشها، وخاصةً مع أقرانه. في مرحلة الطفولة يكون كل تركيز الطفل منصباً بالأساس على المهام الملقاة على عاتقه، لكن مع بداية سن المراهقة تنشغل الفتاة والشاب بجميع التغيرات الجسدية التي تصاحبها تغييرات نفسية حادة. نحن نرى التغييرات الجسدية بشكل واضح لكن التغييرات النفسية التي لا تراها العين من الصعب أن نميزها أحيانًا. في مرحلة المراهقة يتغير التوازن النفسي ويصبح المراهق أكثر اندفاعية أو أكثر انطوائية. ويتعلق ذلك بأمور عدة، وفي مقدمتها البيئة الأساسية المحيطة مثل العائلة والمدرسة وتأثير كل منهما.

من خلال عملي كأخصائية نفسية أصادف في الكثير من الأحيان حالات لفتيات وفتيان في سن المراهقة يعانون من أزمات نفسية صعبة، قلق، ميول وأفكار انتحارية وغير ذلك. للوهلة الأولى نعتقد بأن هؤلاء الشبان والشابات هم في مقتبل العمر وأمامهم جميع الفرص والإمكانيات، لكن الحزن والألم النفسي يغمران حياتهم بسبب الظروف القاسية التي يمرون بها، حتى أنهم يصلون إلى حالة من الاكتئاب. اذًا، ما هي الأسباب؟ وكيف نحمي المراهقين/ات من هذه الانتكاسات.

الأسباب عديدة وهي تتعلق بظروف البيئة المقربة منذ الطفولة المبكرة، بصورة أساسية. فالطفولة هي أساس التطور العاطفي في شتى المراحل. تلبية الاحتياجات العاطفية الأساسية منذ الطفولة، مثل وجود شخص يساعد الطفل على تهدئة نفسه عندما تواجهه أية مصاعب (الأهل، عادةً) ويستطيع ان يعكس له صفاته المميزة كطفل، تؤدي إلى تنشئة ذات متزنة وصحية. لكن في حال عدم تلبية تلك الاحتياجات يكبر الطفل مع ذات هشة ويكون عرضة للانتكاسات والانكسارات خلال التعامل مع الأوضاع الضاغطة والأزمات. يمكن تلبية هذه الاحتياجات عن طريق تعزيز الطفل على الجهد الذي يبذله لتحقيق هدف معين ومساعدته على أن يهدأ عندما يشعر بصعوبة. يمكن تلبية هذه الاحتياجات في سن المراهقة كذلك ولكن من المهم تلبيتها منذ الطفولة. رغم تمرد المراهقين، إلا أنهم بحاجة ماسة إلى الأهل، رغم أنهم يظهرون العكس تمامًا.

بحسب الاحصائيات الأخيرة لدى الشؤون الاجتماعية في إسرائيل، تبلغ نسبة الأطفال والشبيبة في ضائقة في المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني 19%, بينما هي 12% في المجتمع الإسرائيلي بشكل عام. هذه أرقام ليست بسيطة، بل تدعونا فعلًا إلى التفكير عميقًا. إليكم بعض الأسباب التي تؤدي بالشبان والشابات لأن يكونوا في خطر:

  • درجة وعي والدي منخفضة: حين لا يميز الأهل بين احتياجاتهم واحتياجات أولادهم فيعاملونهم بناءً على رغبتهم هم كأهل، بطريقة تكاد تكون دكتاتورية، أو يعطونهم الحرية المطلقة لعمل كل ما يرغبون فيه ويلبون لهم جميع طلباتهم. في كلتا الحالتين لا يتوفر لدى الأهل التوازن الصحيح والواعي في التعامل مع أولادهم، مما يخلق علاقة باردة ومتباعدة بين الأهل والأولاد.

  • طبيعة فيزيولوجية منذ الولادة: كل شخص يولد مع موروث جينيّ محدد. وبحسب الأبحاث، هنالك أشخاص يولدون مع قدرة منخفضة على الشعور مع الآخر مما يجعلهم اكثر عدوانية وميلاً إلى تطوير صعوبات سلوكية عاطفية في المستقبل. عندما يكبر هؤلاء الأشخاص في بيئة داعمة متفهمة سيقلل ذلك بشكل كبير من نسبة تطويرهم للصعوبات السلوكية.

  • القدرة على ضبط النفس: ضبط النفس هي مهارة تتطور لدينا رويدًا رويدًا منذ الصغر. بحسب المحلل النفسي بولبي، فإن وجود شخصية تمنح الطفل الشعور بالأمان منذ الولادة قد تساعده على تطوير ضبط جيد للنفس، وهذه الشخصية تتمثل في الأم والأب عادةً. أما عندما يتعرض الطفل لسلوكيات صعبة من قبل الأهل ويشعر بعدم الأمان فهو يطور أسلوب تعلّق غير آمن مما يجعل ضبطه لنفسه صعباً جدًا ويفتقر إلى مرساة داخلية ثابتة. فإما أن يصبح مندفعًا ويبحث طوال حياته عن الأمان في جميع العلاقات، حتى لو كانت مضرة له، أو يصبح شخصًا ممتنعًا عن التقرب من الآخرين وقد تعلم أن يكبت مشاعره ورغبته في أن تكون له علاقات قريبة. المراهقون الذين يطورون أساليب تعلق غير آمنة معرضون للخطر بشكل كبير ولا يمكنهم تطوير آليات تساعدهم في ضبط أنفسهم.

  • التعرض للاعتداء أو التنمر بأشكاله: تعرض الطفل إلى الاعتداء سيولد عنده غضبًا كبيرًا ويجعل كل صعوباته العاطفية والنفسية تتأجج في مرحلة المراهقة. وكذلك تعرض الطفل للتنمر من قبل أفراد عائلته أو زملائه في المدرسة سيؤدي إلى تكوّن تصور ذاتي منخفض وسيعبّر عن ذلك، بالتالي، بواسطة الانعزال أو العنف الشديد. وفي الحالتين يكبر ليصبح مراهقًا في ضائقة.

هذه بعض الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى صعوبات سلوكية تجعل المراهق والمراهقة في ضائقة ويظهر ذلك من خلال سلوكيات يعرضون بها أنفسهم وغيرهم للخطر، مثل العنف، استعمال المخدرات والكحول، السرقة والجرائم بأنواعها.

كيف يمكننا ان نحميهم؟

من أهم الأمور خلق مساحة آمنة للحوار والتواصل مع الأهل. وفي سن المراهقة، من المهم أن يكون لدى كل مراهق شخص بالغ يعني للمراهق شيئاً ما، يمكنه مساعدته في تخطي تحدياته، بالإضافة إلى الأهل طبعاً. يمكن أن يكون الأهل أيضًا أشخاصاً ذوي معنى في حياة ابنهم/ ابنتهم، لكن جزء من وظائف هذه المرحلة هو البعد عن الأهل كي يطور المراهق استقلاليته. 

في أحد التدخلات العلاجية التي أجريتها مؤخرًا كأخصائية نفسية، توجهت إلي أم تعاني من سلوكيات صعبة جدًا لدى ابنتها المراهقة التي تعبر عن نفسها من خلال نوبات غضب وعنف شديد تجاه الجميع. من خلال الجلسات مع الأم بدأت تفهم ابنتها أكثر وأن ردود فعلها الصعبة تجاه ابنتها منذ الطفولة، مع طبيعة ابنتها "العنيدة" منذ الصغر، هي التي أدت إلى ما هي عليه اليوم. عندما بدأت تمارس معها الإصغاء الفعال، وهو الإصغاء للمشاعر ما بين السطور والحوارات المستمرة، حدث تغيير كبير جدًا. فقد قلّت نوبات الغضب بشكل ملحوظ وعندما شعرت المراهقة بحب أمها لها تغيرت في ردود أفعالها كذلك، وصارت أكثر سلاسة.

ما أحاول ان أقوله هو أن للأهل دورًا هامًا ومصيريًا في تغيير سلوك أولادهم ومساعدتهم على السير في المسار الصحيح. في الكثير من الأحيان عندما لا يعالج الأهل صدماتهم النفسية منذ الطفولة، فهم يكررونها مع أولادهم بطريقة لا واعية من دون أن يشعروا بذلك. لذلك، من المهم كسر هذه الدائرة السلبية عبر الأجيال وتطوير أنفسنا كأهل وأشخاص كي نتغلب على هذه الديناميكيات الصعبة التي تؤدي بالمراهقين إلى ضائقة كبيرة يصعب عليهم الخروج منها.

ميري أبو حنا

أخصائية نفسية تربوية مختصة في مجال علاج المراهقين، الأطفال، إرشاد الأهل والطواقم التربوية. في المراحل النهائية لنيل لقب الدكتوراة

رأيك يهمنا