الاستراتيجية السياسية للمملكة العربية السعودية في المنطقة: تخميل الواقع ولجم التغيير
بدأت المملكة العربية- السعودية تلعب دوراً سياسياً ودبلوماسياً بارزاً في المنطقة منذ سنوات الخمسين من القرن الماضي، هذا التطور تزامن مع الطفرة النفطية التي أكسبت المملكة مكانتها وقدرتها على التأثير في الساحة الإقليمية على وجه الخصوص. لوجود الأماكن المقدسة في الحجاز ايضاً أهمية في تعزيز مكانة المملكة عربياً واسلامياً. مع الانطلاقات الأولى للدبلوماسية السعودية، يمكن القول إن السياسة السعودية قامت على ثلاثة محاور رئيسة:
1. التّصدّي للأنظمة الثّوريّة – التّغييريّة منذ الناصرية وحتى الثورة الإسلامية في إيران.
2. التّحالف الاستراتيجي مع الولايات المتّحدة.
3. السّعي لإيجاد حلّ مقبول دوليًّا للقضيّة الفلسطينيّة: تقرير المصير دون التحرير.
هوبسيانية النظام السعودي في الداخل والخارج
قامت سياسة المملكة العربيّة السّعوديّة في المنطقة على مدى عشرات السّنين على نزعة محافظة - معادية لأيّسياسات تغييريّة أو ثوريّة في المنطقة. أثار اندلاع الثّورة في إيران وتأسيس نظام الجمهوريّة الإسلاميّة رُعبًا فيالأروقة الحاكمة في المملكة وسارعت المملكة إلى التّهييج ضدّ الثّورة الإسلاميّة متّكئةً على / معوّلة في ذلك علىركيزتين تحملان من التّناقض أكثر من التّوافق. الأولى هي أكذوبة الأمن القومي – العربيّة وضرورة حماية البوّابةالشّرقيّة للعالم العربي من خطر التّوسّع والتّمدّد الفارسي نحو البلاد العربيّة لا سيّما في ظلّ إطلاق ما سُمّيَ آنذاكتصدير الثّورة الإسلاميّة إلى مناطق أخرى في المنطقة. أمّا الرّكيزة الثّانية فكانت التّأكيد على الطّابع الوهابي – العقدي للمملكة من باب طرح الوهابيّة نقيضًا سُنّيًّا لما أعتُبر الرّاديكاليّة الشّيعيّة وفي هذا السّياق جاءت تسمية حاكمالمملكة بخادم الحرمين الشّريفين. منذ اندلاع الثّورة بدأت المملكة تُؤكّد بشكل منهجي على الطّابع الوهابي للنّظامالحاكم في محاولة واضحة للجم المدّ الثّوري القادم من الشّرق والحفاظ على التّماسك الدّاخلي للحلف العريق بينالتّوأم الوهابي والسّعودي. فنحو الدّاخل تبثّ المملكة المزيد من الوهابيّة المكفّرة للشّيعة بصرف النّظر عن توريثها أوخمولها ونحو الدّاخل بدأت المملكة تجييش الذّاكرة التّاريخيّة الّتي تستحضر الفتوحات الإسلاميّة لبلاد فارس رغماختلاف السّياقات والإرهاصات والظّروفات وشيطنة النّموذج الإسلامي القادم من بلاد فارس والّذي هو في نظرالمملكة ليس إلا مشروعًا انتقاميًا فارسيًا مبطّنًا برداء الإسلام ومطعّمًا بالحقد التّاريخي للفُرس على العرب ومملكتهموحضارتهم. وفي هذا السّياق جاء تجييش العراق البعثي ليكون خط المواجهة والبوّابة الشّرقيّة للعالم العربي، هذه البوّابة الّتي يجب أن تُوصد في وجه الغزاة الفُرس. فجاء هذا التّحالف اللّا أيديولوجي واللّا-طبيعي بين البعث الثّوري والقومي – عروبي وبين ممالك الخليج الّتي لطالما اعتبرت بعث العراق خطرًا عليها وفوجئت من إرهاصاته القوميّة والبعثيّة.
إن انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية عام 1988،ـ بانتصار العراق ولجم المشروع الثوري للجمهورية الإسلامية، منح المملكة برهة مؤقتة من الهدوء الذي عاد وتعكر مع الغزو الأمريكي للعراق واسقاط نظام البعث وتغلغل إيران الحاصل في بغداد من خلال تسليط حلفاء ايران من شيعة العراق في بغداد. مما زاد الطين بلة كان انطلاق المشروع النووي الإيراني الذي بات يؤرق بال المملكة. لهذا القلق السعودي ما يبرره على أرض الواقع, فالمملكة باتت محاصرة من كل الاتجاهات.
السّعوديّة تنظر من حولها فتجد أنّها مُحاصرة من إيران في العراق – إيران تعيش بالعراق وتُهيمن على القوى الشّيعيّة الحاكمة هناك. في اليمن بات الحوثيّون الزّيديّون في قبضة الحرس الثّوري أمّا سورية فإنّ إيران والمليشيّات الشّيعيّة المحسوبة عليها بات الأمر النّاهي في عدّة مواضع في سورية. ولبنان يحكم هيمنة حزب الله على القرار السّياسي في الدّولة اللّبنانيّة وتنظيمه العسكري الّذي يعتبره الكثيرون امتدادًا للحرس الثّوري – الإيراني. هذا طبعًا عدا عن المشروع النّووي – الإيراني، فالسّعوديّة في حرص إيران أكثر من إسرائيل.
لطالما كانت العلاقات التحالفية بين سورية وإيران عاملاً أساسياً في توتير العلاقات بين سورية ودول الخليج, خصوصاً السعودية ولعل الدعم اللا-محدود الذي قدمته دول الخليج للثورة السورية وللمعارضة السورية جاء من باب إضعاف إيران ونفوذها، أكثر منه إظهار العداء لنظام البعث او التضامن مع الثورة السورية. إلا أن الأمور تغيرت بعد معركة حلب وانتصار النظام وحلفاءه على المعارضة غيّر المعادلة من جديد. هذا التحول في مسار الأحداث في سورية دفع المملكة الى انتهاج نهج مسايرة الواقع والانفتاح على الخصوم فجاء استئناف العلاقات مع ايران موازياً لعودة سورية للجامعة العربية. خطاب الأسد في القمة العربية أكد على دور الجامعة كمرمم للجروح لا كمعمق لها إلا أنه في الوقت ذاته أكد على التدخلات الأجنبية في شؤون سورية بمعنى رفض إملاءات عربية لفضّ التحالف مع ايران. فضلت المملكة السعودية الانفتاح على سورية رغم تحالفها مع إيران على ترك سورية بالكامل في أحضان إيران. تحاول المملكة في الواقع الانفتاح على خصومها لجزء من محاولة شاملة لإعادة فرز موقعها ودورها في المنطقة.
إنّ ذهاب المملكة العربيّة السّعوديّة إلى استئناف العلاقات الدّبلوماسيّة مع إيران لا يعني في أي حال من الأحوال إزالة لكلّ عوامل التّوتّر أو استبدال الشّك والعداوة بالصّداقة والثّقة. إنّ استئناف العلاقات الدّبلوماسيّة مع إيران عام 2023 والسّماح بعودة سورية للحضيرة العربيّة هو في حقيقة الأمر مقدّمة وتمهيد لتمرير اتّفاقيّة التّطبيع مع إسرائيل أو على الأصحّ إخراج العلاقات مع إسرائيل من السّر إلى العلانيّة ومن الخفاء إلى العلن. وتبقى العداوة المشتركة لإيران في صلب العلاقة المتنامية بين السّعوديّة وإسرائيل.
جاء استئناف العلاقات الدّبلوماسيّة مع إيران وفتح الباب أمام استعادة سورية لمقعدها في الجامعة العربيّة كخطوة تهدف إلى إيجاد نوع من التّوازن ما بين الانفتاح على إسرائيل والحفاظ على موقع المملكة في العالمين العربي والإسلامي من خلال هاتين الخطوتين.[1] الدّبلوماسيّة السّعوديّة تجاه إيران لا تعني بأي حال من الأحوال تغيير جذري في السّياسة السّعوديّة الّتي تُعتبر الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران مع ما يرفق بذلك من برنامج نووي مُبطّن بالسّلميّة وسياسة تمدّد وتوسّع في الدّول العربيّة على أنّه تهديد استراتيجي ومباشر لأمن المملكة واستقرارها بل ولوجودها في المنطقة. في سياق مواجهة هذا الخطر دفعت السّعوديّة بعراق البعث لشنّ حرب الثّماني سنوات على إيران (1980-1988) وتحفّظت السّعوديّة على مشروع الغزو الأمريكي للعراق ولو تشارك به ولم تكن أراضيها نقطة الانطلاق. في السّياق جاء الدّعم السّعوديّة للثّورة في سوريا ضدّ نظام البعث من الباب ذاته أي إضعاف محور إيران الّذي سمّاه الملك عبد الله الثّاني الهلاك الشّيعي – لأنّ إسقاط البعث في سورية سيضعف إيران إقليميًّا وسيساهم في محاصرة حزب الله لبنانيًّا. المنطق ذاته يحكم الاستراتيجيّة السّعوديّة تجاه اليمن حيث تعتبر المملكة أنّ الدّور الإيراني الدّاعم لجماعة أنصار الله انّما يأتي في سياق صنع إيران من تحصيل موطئ قدم في شبه الجزيرة العربيّة لأنّ تحصيل حاصل بهذا الحجم يعني وجودًا إيرانيًا في شبه الجزيرة وغرز إبرة في خاصرة المملكة نفسها.
إنّ الحرب الّتي أطلقتها المملكة العربيّة السّعوديّة ضدّ جماعة أنصار الله – تحالف قبائل الحوثيين الزّيديين في اليمن جاءت في الأساس بسبب الارتباط الحاصل والمتنامي بين إيران والحوثيين. تحاول المملكة تصوير تدخّلها العسكري على أنّه من باب لجم إيران وصدّ محاولات التّشيُّع في العالم العربي إلّا أنّه في الحقيقة محاولة من جانب المملكة منع إيران من تأسيس موطئ قدم في شبه الجزيرة العربيّة لأنّ الأمر بمثابة مقدّمة لتهديد أمن المملكة وحتّى إسقاط نظامها.[2]
إنّ إعادة العلاقات الدّبلوماسيّة مع إيران والانفتاح على سورية وفتح باب التّعاون مع الصين وروسيا يأتي في سياق ما يمكن أن يُسمّى إعادة ترتيب وفرز العلاقات الخارجيّة للمملكة على أساس الانفتاح على الجميع دبلوماسيًّا والتّمسُّك بالقواعد الثّابتة الثّلاث للاستراتيجيّة السّعوديّة في الفترة الحاليّة ألا وهو مواجهة السّياسة الإيرانيّة في المنطقة، الحفاظ على التّحالف الاستراتيجي مع الولايات المتّحدة والسّعي إلى تطويره من خلال معاهدة تحالف عسكري والمضي قدمًا نحو التّطبيع مع إسرائيل والإرساء لمرحلة جديدة في المنطقة يكون التّطوّر الاقتصادي ورفاهيّة الشّعوب هو عنوانها.
الرغبة في التطبيع والتمنع عنه
لم تكن المواقف المعلنة والبيانات الحماسية يوماً معياراً للمواقف الحقيقية للدول العربية تجاه إسرائيل والصراع العربي-الإسرائيلي. هذه المقولة تنسحب على المملكة العربية- السعودية كما تنسحب على غيرها من الدول العربية. رغم أنّ المملكة العربيّة السّعوديّة التزمت بقرار القمّة الّذي عُقِد في بغداد عام 1978 القاضي بطرد مصر من عضويّة الجامعة، إذعانًا للمواقف الصّادرة عن العراق الّذي حاول تبوُأ مكانة مصر في موقع القيادة الرّيادة في العالم العربي. إلّا أنّ المملكة كانت أوّل من حاول توظيف الواقع الجديد من أجل طرح مبادرة سلام قامت بالأساس على مبدأ مقايضة الأرض بالسّلام! تضمن مبادرة ولي العهد البنود الآتية:
خطّة الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد السّعودي، 7 آب/أغسطس 1981
1- انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلّة بما فيها القدس.
2- إزالة المستعمرات المقامة بعد عام 1967.
3- ضمان حرّيّة العبادة وممارسة الشّعائر الدّينيّة لجميع الأديان في الأماكن المقدّسة.
4- تأكيد حق الشّعب الفلسطيني في العودة وتعويض من لا يرغب في العودة.
5- إخضاع الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة لفترة انتقاليّة تحت إشراف الأمم المتّحدة لفترة لا تزيد عن بضعة أشهر.
6- قيام الدّولة الفلسطينيّة المستقلّة بعاصمتها القدس.
7- تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام.
8- قيام الأمم المتّحدة أو بعض الدّول الأعضاء فيها بضمان تنفيذ هذه المبادئ.
الانطباع الحاصل من هذه المبادرة هو محاولة من جانب المملكة صياغة مشروع حلّ عربي للصّراع يقوم على مبدأ التّسوية واعتماد الشّرعيّة الدّوليّة أساسًا لهذا المشروع.
اصطدمت مبادرة الأمير فهد برفض إسرائيلي وتحفّظ فلسطيني إلّا أنّ ذلك لم يُعدّل سياسة المملكة. فبقي الأمر على حاله بمعنى أنّ المملكة بقيت على موقفها الدّاعم دبلوماسيًّا وماليًّا لمنظّمة التّحرير من جانب والتّأييد لمساعي التّسوية من الجانب الآخر. تجلّى هذا الموقف في أعقاب حرب الخليج الأولى وانعقاد مؤتمر مدريد حيث أيّدت المملكة وبقوّة مساعي التّسوية. لم يتبدّل موقف المملكة بعد انهيار عمليّة أوسلو واندلاع الانتفاضة الثّانية، انتفاضة الأقصى عام 2000، بل إنّ المملكة ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما طرحت مبادرة السّلام السّعوديّة على القمّة العربيّة المُنعقدة في بيروت لتصبح مبادرة السّلام العربيّة الّتي تمّ اعتمادها عام 2002 وباتت مبادرة جامعة الدّول العربيّة الّتي حظيت بالإجماع العربي ومثّلت تجسيدًا حيًّا للتّحوّل العميق الحاصل في مواقف الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، ذلك التّحوّل من منطق اللّاءات الثّلاث لمؤتمر الخرطوم عام 1967 لمنطق الحل العادل والشّامل والمتّفق عليه بين الدّول العربيّة وإسرائيل.[3]
بدأ التحّول عن الموقف المتمسك بحل القضية الفلسطينية كشرط للسلام مع إسرائيل مع توقيع المعاهدات الابراهيمية بين إسرائيل وبعض دول الخليج. فمن الواضح أن المعاهدات مع الإمارات والبحرين ما كانت لتكون لولا الضّوء الأخضر السّعودي.
الجديد في المبادرة السعودية أنها رسخت مبدأ التسوية على اعتبارات توازنية مثل اشتراط الحل العادل لمسألة اللاجئين الفلسطينيين بالتوافق أي موافقة إسرائيل عليه. تعديل المبادرة في مسألة اللاجئين جاء من باب منح ضمانات لإسرائيل للقبول بالمبادرة. يُضاف إلى ذلك أن تأكيد الصفة الجماعية للتسوية أي أن أي حل للقضية الفلسطينية سيؤدي حتماً الى سلام شامل بين إسرائيل والدول العربية. يمكن القول إن المملكة ومنذ توقيع معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر عام 1979، عدّلت موقفها من حيث مساندة الموقف الداعي الى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وتنحية خطاب التحرير الكامل جانباً.
يبدو أنّ السّعوديّة لن تنتظر قيام دولة فلسطينيّة حتّى تُطبّع علاقاتها مع إسرائيل. ذلك أنّ السّعوديّة كغيرها من دول ما يُسمّى اسرائيليًّا "معسكر الاعتدال" باتت تعتبر القضيّة الفلسطينيّة بمثابة عبءٍ أكثر من اللّازم وعقبة لا مسؤوليّة يجب تجاوزها لاعتبارين: الأوّل هو تفضيل المصالح الذّاتيّة - الفئويّة للمملكة على مسألة الالتزام تجاه القضيّة الفلسطينيّة أو الشّعب الفلسطيني، والثّاني إعادة فرز الأولويّات من حيث التّحدّيات والمخاطر الّتي تواجه المملكة. فالواقع الحاصل في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003 والتّغلغل الإيراني الحاصل في اليمن وسورية ولبنان إضافةً إلى المشروع النّووي – الإيراني، يُموضع إيران وطموحاتها النّوويّة والإقليميّة على رأس أولويّات المملكة بدلًا من الالتزام تجاه القضيّة الفلسطينيّة، لا سيّما وأنّ القضيّة الفلسطينيّة باءت عبئًا وأنّ التّيّار الإسلامي في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بات في موقع المتحالف مع إيران والمتّهم سعوديًّا بالخروج عن الإجماع العربي. بناءً عليه فإنّ اندلاع الحرب في غزّة في أعقاب السّبت الأسود قد يُعيق اتّفاقيّة التّطبيع بين المملكة السّعوديّة وإسرائيل، إلّا أنّ قطار التّطبيع انطلق مع توقيع اتّفاقيّات إبراهيم بين إسرائيل من جهة والإمارات والبحرين من الجهة الأخرى – ما كان ليكون لولا الضّوء الأخضر الحاصل من المملكة السّعوديّة.[4] إن الانفتاح على إيران جاء قطعاً من باب التودد للخصم لا الانفتاح عليه ومن باب "تخجيل" نظام الجمهورية الإسلامية وتخفيف وطأة انتقادها قبل حصول التطبيع مع إسرائيل. بهذا المعنى, فإن الانفتاح على إيران وإعادة سوريا إلى الحضيرة العربيّة لم يكن صدفةً إنّما مرتبط بالسّعي لاتّفاق مع إسرائيل. [5]
الاحتماء بالقوي: المتغير الثابت في الكيانية السعودية
أرسى اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز بن سعود والرئيس الأمريكي روزفيلت عام 1945, قواعد التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والمملكة العربية والسعودية وقام هذا التحالف على قاعدة توفير الحماية الأمريكية للمملكة مقابل توفير المملكة قواعد عسكرية للولايات المتحدة في شبه الجزيرة العربية وتعهد المملكة بمنح الولايات المتحدة اليد الطولى بكل ما يتعلق باستخراج النفط وتسويقه. جاءت السياسة الأمريكية في المنطقة متناغمة مع المصالح السعودية، خصوصا بكل ما يتعلق بالتصدي للمد الشيوعي ولجم الأنظمة والآيديولوجيات الثورية في المنطقة في حقبة سنوات الخمسين والستين. صحيح أن التباين كان واضحاً فيما يتعلق بالمواقف من القضية الفلسطينية، خصوصاً المواقف المعلنة. إلا أن هذا التباين لم يعرقل يوماً تعزيز التعاون والتحالف بين العم سام والمملكة العربية- السعودية. يضاف إلى ذلك أن المواقف المعلنة من الدول العربية لا يعكس على الدوام مدى الالتزام تجاه القضية الفلسطينية. تقاسمت المملكة العربية- السعودية مع الولايات المتحدة الجهود الرامية الى تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية في المنطقة: جاء الهدف الأول على رأس أولويات الولايات المتحدة التصدي للمد الشيوعي والنفوذ السوفياتي في المنطقة. حيث سارعت المملكة إلى توظيف النص الديني للإسلام من أجل تصنيف الشيوعية والاشتراكية على أنها حالة تكفيرية- إلحادية. أما الهدف الثاني فكان تضافر الجهود لمحاصرة الناصرية والبعثية في المنطقة، أيضاً من خلال توظيف النص الديني ووضع الإسلام كإطار فكري في مواجهة الناصرية والبعثية على اعتبار أنهما حالتان للقومية العربية- العلمانية- المجردة من الدين. أما الهدف الثالث فكان التوافق الحاصل في الحفاظ على تدفق النفط من شبه الجزيرة العربية إلى الغرب، الأمر الذي يصب في مصلحة الطرفين من حيث أن عوائد النفط عززت اقتصاد المملكة وفتحت الباب أمام الازدهار الاقتصادي وفي الوقت ذاته أمنت الطاقة السوداء المحرك الأساسي لاقتصادات الدول الغربية- الصناعية. بقيت هذه الأهداف على مدى عقود طويلة وتحديداً منذ عام 1945، القواعد الأساسية التي قامت عليها العلاقات الامريكية- السعودية. [6]
ساندت المملكة العربية السعودية الولايات المتحدة في الساحة العربية، الإسلامية والدولية. نذكر في هذا السياق مشروع الحلف الإسلامي الذي كان فكرة أمريكية وحظي بدعم مطلق من المملكة التي طرحته في مواجهة الناصرية في منتصف الستينات وحظي هذا المشروع آنذاك بدعم المملكة الأردنية- الهاشمية ونظام الشاه في إيران، إلا أنه لم يترجم على أرض الواقع ولربما كان تأسيس منظمة "مؤتمر الدول الإسلامية" بمثابة استمرار لهذه الفكرة. جاءت مساهمة المملكة واضحة ومؤثرة في مساندة الولايات المتحدة في دعمها للمجاهدين الأفغان في حربهم ضد الغزو السوفياتي. ألقت المملكة بكل ثقلها بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان من خلال توفير الدعم السياسي والمادي للمجاهدين. يُضاف إلى ذلك أن المملكة فتحت مكاتب لتنجيد المتطوعين من البلاد العربية للمشاركة في مشروع جهادي ضد الشيوعية والماركسية. سوّقت المملكة لمشروع تجنيد المتطوعين العرب على أنه مشروع جهادي ودفاع عن بلاد المسلمين من الغزو الشيوعي- الكافر. كان الدعم السعودي للولايات المتحدة مؤثراً في تشكيل جبهة إسلامية- عريضة معارضة للغزو السوفياتي لأفغانستان وفي دعم المجاهدين الأفغان سياسياً, مادياً وعسكرياً.
قلنا إن المواقف المعلنة من الصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية لم يكن بالضرورة موقف وفاق بين السعودية والولايات المتحدة، ذلك أن المملكة كانت تردد ما يُردد عربياً من الالتزام الأخلاقي والديني والقومي لدعم الشعب الفلسطيني في معركته، إلا أن مشاركة المملكة جاءت بالأساس من خلال تقديم الدعم المالي لمنظمة التحرير – الفلسطينية ودعمها في المحافل الدولية. بدأت الأمور تتبدل منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، حيث سارعت المملكة لطرح مبادرة ولي العهد فهد بن عبد العزيز ومنذ ذلك الحين التزمت المملكة بمشروع التسوية ووفرت للولايات المتحدة كامل الدعم في مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو. يمكن القول بشكل عام إن المملكة العربية- السعودية التزمت ولا زالت متمسكة بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وإن أبدت انفتاحاً تجاه الصين وروسيا. إن تحالف المملكة مع الولايات المتحدة هو من أسس الكيانية السعودية ورغم الازدهار الاقتصادي والتسلح والازدياد في عدد سكان المملكة، تبقى المظلة الأمريكية للمملكة عاملاً محورياً في وجودها ولا يبدو في الأفق ما قد يغيّر هذه المعادلة في المستقبل القريب.
خاتمة
تقوم الاستراتيجية السياسية للمملكة العربية- السعودية في ثوابتها على مفهوم الحفاظ على الكيانية الوجودية للمملكة، ومن هذا المنطلق تنبثق السياسات السعودية في المنطقة، فكلها تصب في الحفاظ على كيانية المملكة لأنها نفسها تفتقر الى المقومات الذاتية- الوجودية.
إن التصدي للأنظمة الثورية كما هو التحالف الثابت مع الولايات المتحدة هما في نهاية المطاف مطيتان للدفاع عن وجود المملكة. إن تخميل الواقع والتخوف من التغيير ورفض المناهج الثورية لهي صفة طاغية للأنظمة المحافظة والسعودية في صميمها حالة محافظة بحكم ارتكازها الى الوهابية والنزعات الحنبلية. ينخرط الموقف السعودي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في السياق ذاته بالدعوة إلى التسوية دون المواجهة. شهدت السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ سيطرة الأمير محمد بن سلمان (MBS), كما يفضل هو ان يُسمّى, تغييرات جذرية في السياسة الداخلية للمملكة إلا أن الثوابت السياسية المتعلقة بالسياسة الخارجية لم تشهد إلى الان تغييراً جذرياً ولا زالت المملكة على قناعاتها بأن التصدي لإيران ولجم تمددها ونفوذها في المنطقة هو ركن من أركان السياسة السعودية. إن السّمة الحاصلة للسّياسة السّعوديّة مؤخراً هي التّوازن في العلاقات الخارجيّة: الانفتاح على الصّين وروسيا مقابل بناء تحالف استراتيجي مع الولايات المتّحدة. أما المحور الّذي يُدير السّياسة السّعوديّة فلم يتغيّر: التصدي لمشروع ولطموحات الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. إن التّطبيع مع إسرائيل، شأنه شأن الانفتاح على إيران وإعادة مقعد سوريا كلّه ينصبّ في بناء مشروع محاصرة إيران. فإذا كان التشديد على الصبغة الأيديولوجيّة – الوهابيّة جزءاً من مواجهة الثّورة الإسلاميّة، فإن حرب العراق على إيران وحرب السعودية على اليمن كما هو التّحالف مع أمريكا وإسرائيل تتمة لما تعتبره السعودية ضرورة وجودية للتصدي لمشروع التّوسّع الإيراني. إن المملكة العربية- السعودية في العقد الأخير تحاول إعادة ترتيب أوراقها الداخلية والخارجية من خلال تطبيق سياسة انفتاح على الصعيد الداخلي وسياسة بناء نظام إقليمي جديد يهدف الى تجاوز التمأزق المستمر للقضية الفلسطينية من جانب أول ومحاصرة النظام الإيراني من الجانب الآخر. لم تتمكن المملكة العربية من تحقيق إنجازات تعزز مكانتها في لبنان كما فشلت المراهنة على الثورة في سورية. أما الوضع في العراق فإنه يزيد المملكة يأساً بحكم هيمنة حلفاء إيران على الحكومة المركزية في بغداد ولعل عملية عاصفة الحزم التي شنتها على الحوثيين في اليمن دلالة على حالة الجزع التي ألمّت بها جراء ما تعتبره تدخلاً ايرانياً سافراً في شبه الجزيرة العربية. على ضوء هذه التحديات لجأت المملكة الى الانفتاح على روسيا والصين, إلا أنها في الوقت ذاته تسعى بشكل دؤوب إلى بناء تحالف إقليمي بغطاء أمريكي، لعله يكون بارقة أمل للمملكة بعد سنوات عجاف في الساحة الإقليمية.
[1] איראן הזמינה את מלך סעודיה לביקור במדינה, נתניהו: שואפים לנרמל היחסים, הארץ, 17 באפריל 2023.
[2] Fabian Blumberg, “The Yemen War: Actors, interests and the prospects of negotiations” Konard Adenauer Stiftung: Regional Programme Gulf States, Policy Report (October 2019), pp. 1-14.
[3] Elie Podeh, ““From Fahd to ‘Abdallah: The Origins of the Saudi Peace Initiatives and Their Impact on the Arab System and Israel,” Gitelson Peace Publications, No. 24. Jerusalem: The Harry S. Truman Institute for the Advancement of Peace, 2003.
[4] אלי פודה, "אחת ממטרות חמאס במלחמה הייתה לטרפד את הנורמליזציה עם סעודיה" מיתווים (אוקטובר 2023), עמ' 1-2.
[5] אלי פודה, "הנורמלזציה פנים רבות לה: דגמים ביחסי ישראל- ערב" עדכון אסטרטגי, כרך 25, גיליון 1 (מרץ 2022), עמ' 47- 65.
[6] Najam Rafique, “The Changing Nature of US-Saudi Relations” Strategic Studies, Vol. 24, No. 1 (2004), pp. 14-38.
استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]
الصورة للملكعبـــدالعــزيــز ينجز وحــــدة تاريخية و يؤسس علاقتنا الدولية.
د. يسري خيزران
مؤرخ, ومحاضر جامعي، وباحث في معهد ترومان- الجامعة العبرية.