الأُغنية الفِلسطينيّة الآن.. مِن تَحت الرُّكام إلى الفَضاء العالَمي

في خِضَم الدمار الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، بَرَزَت الأغنية الفلسطينية كصوتٍ يعبر عن جِراح شعبٍ يواجِه أبشَعَ أنواع العنف، حاملةً في الوقت ذاته رسالة مقاومة لا تُقهَر. لقد تجاوزت هذه الأغنيات دورها الفنيّ التقليديّ لتصبح وثائق حيّة تسجل أحداث الحرب، تواجه الرواية الإسرائيلية المزيَّفة، وتنقل صوت الفلسطينيين إلى العالم أجمع، في زمنٍ باتت فيه الحقيقة تُصاغ وفقًا لموازين القوة لا وفقًا لما يجري فعلًا على الأرض.
ظلّت الأغنية الفلسطينية على الدوام جزءًا أصيلًا مِن نضال الشعب الفلسطيني، غير أنها اكتسبت في هذه الحرب أبعادًا غَير مسبوقة. فبعد أن كانت تركّز على شَحذ الهِمَم الداخلية، تحوّلت إلى جسر تواصل مع العالم، بلغة فنيّة عالميّة تَفوّقت في كثير من الأحيان على حواجز الترجمة. الأغنيات التي تَخرج من تَحت الأنقاض تَحمل بين طيّاتها قصصًا حقيقية عن أطفالٍ قُتِلوا، وأمهاتٍ فَقَدْنَ أبناءَهن، وبيوتٍ دُمِّرت فوق رؤوس أهلها. في لحظة بدا فيها كلّ شيء مهددًا بالاختفاء، صارت الأغنية الفلسطينية ملاذًا للذاكرة، تَحفر أصواتها في وجدان المستمعين وتَحفظ تفاصيل يوميات تحت القصف لا تَستطيع الأخبار وَحدها توثيقها.
تميّزت هذه الأغنيات بقُدرتها الفريدة على تَوثيق اللحظة الراهنة بصدقٍ يلامِس الوجدان، وبتجرّد مؤلم في بعض الأحيان. واصل الفنانون في غزة، رَغم انقطاع الكهرباء ونَقص المعدّات وتدمير البُنية التحتية، إبداعَهم مستخدمين أدوات بسيطة، مِثل الهواتف المحمولة والحواسيب المحمولة القديمة، ليخلقوا أغانيَ تنبض بالحياة من قلب المأساة. هذه الأُغنيات العَفَوية، التي تَفتقر في كثير من الأحيان إلى التقنيّات المتطوّرة، تَحمل قوّة تعبيرية هائلة لأنّها تَنبع من صميم الواقع المُعاش، ولأنّها لا تتصنّع البطولة، بل تعكس هشاشة البَشَر في مواجهة المَوت، وإصرارهم على الغِناء برغم كلّ شيء.
مِن بين الأَنماط التي بَرَزت بعد الحَرب الأخيرة، كانت أغاني "الهيب هوب" التي قدّمها شباب فلسطينيون بلغة احتجاجية صارِخة، توازي في شدّتها ما يعانيه الناس على الأرض، إلى جانب الأغاني الشعبيّة العَفَوية التي انتشرت انتشارًا واسعًا. مَزَجت هذه الأغاني بين الألحان التُراثيّة والكلمات المعاصرة التي تَحكي سيرة الشهداء أو تَسْخر من آلة الحرب. لم تَكن هذه الأغنيات مجرّد ألحان عابرة، بل تحوّلت إلى ظواهر ثقافية عالميّة، حيث حقّقت ملايين المشاهَدات على "يوتيوب" و"تيك توك"، وارتبطت بآلاف الفيديوهات التذكاريّة التي توثّق لَحَظات الوداع، أو تنقل لحنًا سُجّل داخل خيمة نزوح أو غُرفة إسعاف.
وقد أسهم متطوعون، سواء من فلسطينيي الشّتات أو مناصرين عالميّين، في ترجمة كلمات الأغاني إلى لغات مختلِفة، مما ساعَد في كَسر الحِصار الإعلامي المَفروض على غزّة، وأتاح لجمهور عالميّ أن يتفاعل معها ويَفهم سياقها. تحوّلت بعض الأغنيات إلى شعارات تُردَّد في المظاهرات، وأخرى دُرِّست في وُرش فنيّة في أوروبا وأمريكا اللاتينية كأمثلة على الفنّ المقاوم في زمن الإبادة.
غير أن هذا الانتشار الواسع لم يَمُرّ دون مقاوَمة. فقد واجه الفنّ الفلسطيني نظامًا قمعيًّا رقميًّا ممنهجًا، من خلال حَذف الأغاني من منصّات مثل "يوتيوب"، أو إخفائها عن نتائج البحث في "فيسبوك" و"تيك توك"، وحتى تقييد الوصول إلى الحسابات التي تَنشرها. لم يكن هذا القمع الرقمي مجرّد خلل في الخوارزميات، بل جزء من محاولات متكررة لإسكات الصوت الفلسطيني، وخاصة عندما يكون هذا الصوت جاذبًا، مؤثرًا، وقادرًا على منافسة الرواية الإسرائيلية في الفَضاء العام العالمي. وهنا جاء الردّ الفلسطيني على طريقة الفنان المقاوم: عبر ابتكار وسائل جديدة للنشر، مثل تَشفير الكَلَمات المفتاحيّة، تقطيع الفيديوهات وإعادة رفعها بطرق يصعب على أنظمة الذكاء الاصطناعي رصدها، وتوزيع المُحتوى عَبر شبكات لامركزيّة من المُتضامنين.
لا تقتَصر أهميّة الأغنية الفلسطينية اليوم على مجرّد التوثيق، بل تَمتد إلى كونها أداة فعالّة في اختراق العُزلة الإعلامية التي تَفرضها إسرائيل. فهي لا تَنقل فقط ما يحدُث، بل تفرض على المستمع، حتى لو لم يكن معنيًا بالسياسة، أَن يتفاعل. الأغنية الفلسطينية قادرة على تحويل مأساة معقدّة إلى مشاعر أوليّة يفهمها الجميع: الخوف، الفقد، الأمل. ولهذا فَهي تُترجم وتُردد، وتتحوّل إلى مادة للنقاش والتأمل، وأحيانًا إلى أداة ضَغط.
لكنّ الأغنية الفلسطينية تواجِه حربًا مزدوجة. فبينما تحاول إسرائيل، التي تدرِك جيدًا قوة الأغنية كسلاح في معركة الرواية، قَمع هذا الفنّ المقاوِم عبر استهداف المؤسسات الثقافيّة بالقصف، وملاحقة الفنّانين، والضغط على المنصات الرقمية، فإنها في الوقت ذاته تمارس شكلًا آخرَ مِن العدوان: سرقة التراث الموسيقي الفلسطيني ونسبه إلى الثقافة الإسرائيلية. وهذا النوع من الاعتداء الرمزيّ لا يقلّ خطورة عن القصف، لأنه يسعى إلى مَحو الهوية وتجريد الشعب من تاريخه وروحه.
رغم كلّ هذه التحديات، تبقى الأغنية الفلسطينية صامدة، تتعاظم قوّتها كلّما اشتدت محاولات إسكاتها. إنها تُثبت يوميًا أنها أكثر من مجرّد فن، بل هي شكل متكامل من أشكال المقاومة. ويظلّ مستقبل الأغنية الفلسطينية رهينًا بقدرتها على تطوير أدواتها لمواكبة التحدّيات المستجدة، فهي بحاجة إلى دعم تقنيّ لتحسين جودة الإنتاج رغم ظروف الحصار، وشبكات تضامن عالميّة لنشرها على نطاق أوسع، وحماية قانونيّة دولية تَمنع سرقة التراث وتكفل حقّ الفنانين الفلسطينيين في التّعبير.
لكن يَبقى التحدّي الأكبر، كما كان دومًا، هو الحفاظ على صِدق التعبير، وعلى ذلك الرّابط العضوي الذي يَجعل الأغنية الفلسطينية نابعة مِن الناس ولأجلهم. ففي النّهاية، تبقى الأغنية الفلسطينية شاهدًا حيًا على أن إرادة الحياة والإبداع لا تُقهَر. إنها تذكّرنا بأن التاريخ لا يكتبه المنتصرون وحدهم، بل يكتبه أيضًا أولئك الذين يرفضون الصّمت، ويُصرّون على أن تظل كلمتهم حيّة تتردّد عبر الأجيال.

محمد يعقوب حمودة
مِن مؤسسي فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية ومغنّيها الأول. شارك بالمهرجانات الفنية المحلية العربية والعالمية.
ساهم في إدارة وتطوير معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى -جامعة بيرزيت. عمل سنواتٍ طوال مع وكالة الغوث الدولية خدمة للاجئين الفلسطينيين.