أخجل من دمع أطفال غزة

 غزة تفضح عجزنا، تعرينا وعيون أطفالها تجعلنا نخجل من ضعفنا. رقعة صغيرة من الأرض، هزيلة بلا مقومات وبلا أسواروبلا حماية وبلا معادلات ردع، يطوّقها النار والدمار وجنون الانتقام. لكنها تظل متمسكة بالأمل وتقاوم، ترفض الانكسار والإذعان. تصمد ولا ترفع الأعلام البيض. حصار طروادة كان أسطورة من صنع الخيال. لكن صمود أهل غزة حكاية واقعية تكتب بالدم الحيّ والأجساد الطرية. لم يبخل أطفالها ونساؤها والشيوخ بالدم والأرواح، جعلوا بتضحياتهم تاريخها المجبول بالشهادة، تاريخ أمة.  

صمودها الاستثنائي والمكلف، يزيد الإسرائيليين حقدا ويفضح زيفهم وعنصريتهم. لم تعد أمنيتهم بأن يبتلع البحر غزة سرًا مكبوتا في ذواتهم. صارت تصريحات رنانة يجهرون بها من أعلى المنابر. لم يكتم وزيرٌ منهم ما يتمناه معظمهم بأن يباد القطاع. ولم يتوانَ آخر عن وصف أهلها بالحيوانات. وفاق جيشهم كل برابرة التاريخ بالتوحش والإبادة. وكلما زاد التوحش انقلبت الصورة في العالم. اسرائيل لم تعد ضحية كما تصور نفسها، بل صارت جلادا يجري التنديد بممارساته البشعة في شوارع نيويورك وباريس ولندن والعواصم العالمية. هذه الشوارع نفسها أظهرت بعد "طوفان الاقصى" والموجة الدعائية الإسرائيلية الموجهة، تعاطفا عارمًا مع إسرائيل وإدانة غير مسبوقة للفلسطينيين ولـ "حماس".

إسرائيل تمارس لذّتها بالقتل والانتقام، وكلما حققت أرقامًا قياسية في ارتكاب المجازر وإهدار الدم الفلسطيني، وانتشرت صور مآسي العدوان، كلما خسرت نقاطا في معركتها أمام الرأي العام العالمي لتبرير عدوانها، واتسعت حركة المقاطعة للداعمين لها، وارتفعت حدة المطالبة الدولية بمحاكمة قادتها المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات.  

أكثر ما يقلق واشنطن وتل أبيب، هو الصورة الدولية لإسرائيل، الجانبان لا يقبلان أيّ مس بها أو أي إدانة من مؤسسات أممية أو عالمية تحظى بالثقة والمصداقيّة. وكلما استمر تدفق نهر الدم وحرمان الفلسطينيين من الماء والدواء والغذاء كلما زاد الاشتباك الأممي الإسرائيلي، وتوسعت لائحة المغضوب عليهم من الكيان بِدءًا من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصولًا إلى عدد كبير من الدول الأوروبية واللاتينية.

نتنياهو دخل الحرب من دون أي خطط لليوم التالي سوى الانتقام واستعادة الهيبة التي لن تُستعاد إلا بالدمار الشامل، وحينها يتوّج حلمه بأن يكون ملكًا، ليس لإسرائيل، بل للجلادين، لذا تتسع فرصه لارتكاب المزيد من الأخطاء وحصد المزيد من الإدانات وتشويه الصورة.

هذا التحول في الرأي العام العالمي يبقى ظرفيًا وآنيًا إذا لم يُرفق بعمل دؤوب لتوظيفه وجعْلِه مثمرًا في خدمة القضية الفلسطينية التي تحظى أكثر من أي يوم مضى بفرصة استثنائية كي تعود إلى مكانتها المركزية والمحورية في الصراع الكبير على المنطقة.

كي لا تضيع دماء أهل غزة في بحر البكاء والدموع المُستذرفة على أطفالها، ثمة لحظة يجب ألّا تفوت من أجل تفعيل الحضور الفلسطيني في الخارج من أجل خلق حالة من التعاطف مع فلسطين وقضيتها مبني على طرحٍ منطقي سليم، بمنهج علمي وسياسي لمواجهة بروباغندا صهيونية قائمة على دعاية كاذبة تجعل من اللاجئين الفعليين أصحاب الأرض، ومن أصحاب الأرض لاجئين محرومين من حق العودة الى ديارهم.

ثمة الكثير من الشخصيات الفلسطينية التي حققت النجاح في الداخل وعلى مساحة القارات الخمس، وتحظى بالاحترام والمصداقية على المستويات الوطنية والعالمية، ولا تشكل حساسية خاصة لأي من الأطياف والتنوع الفلسطيني الديني والسياسي والأيديولوجي، وتتمتع بعلاقات واسعة وندية مع المنظمات الدولية والإقليمية والمؤسسات الاقتصادية الإعلامية والبحثية والقانونية والجامعات المرموقة والشركات الكبرى صاحبة التأثير، والمنتديات الدينية والثقافية الفاعلة في العالم. ومن بين هؤلاء يمكن اختيار أو انتخاب او اصطفاء مجموعة من الأسماء المشهود لها بوطنيّتها والشجاعة وإخلاصها للقضية والأهلية والكفاءة العالية في ميدانها ولا تمثل إحراجا لأي طرف فلسطيني وتطعم بشخصيات عربية مماثلة ومن أحرار العالم، تسمى مجلسا أو منتدى أو مجموعة ضغط تنبثق منها لجان متابعة واختصاص يتمتع أفرادها بالصفات نفسها. وليس على هذه المجموعة التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني الذي يجب أن يترك للهيئات المنتخبة بالاقتراع الشعبي أو بأي صيغة سياسية قد يتفق عليها وطنيًا بعد انتهاء الحرب.

قضية فلسطين، هي أيضا قضية عربية بامتياز، هي قضية كل العرب مهما حاول البعض التنصل منها هربا من المسؤولية. يوما خسرنا فلسطين خسرنا مكانتنا واستقرارنا وتوازننا. التجاهل العربي لقضية فلسطين لم يعزز اقتصادات الدولة التي فضلت ترك القضية لأهلها، صارت هي نفسها عرضة لأزمات أكبر. أخذت أيضا على حين غرة، وازدادت الاضطرابات فيها استعارا. وبعدما تركت فلسطين وحيدة، بات سهلا أن يترك العراق وحيدا، وأن تترك سوريا وليبيا والصومال والسودان واليمن ولبنان لمواجهة أمرهم المرير وحدهم. صارت فواتير الدم والنزيف أكبر بكثير من تلك التي بذلت من أجل فلسطين. خلت الساحات فاتخذت التدخلات الخارجية بعدا أخطر.  باسم الدفاع عن القدس المتروكة يتيمة توسعت لائحة المتدخلين، صاروا هم أهل القضية وبات أصحابها أغرابًا عنها. الاستعمار القديم - الجديد لم يرحل، اتخذ أشكالاً جديدة، تارة بالغزو المباشر وتارة بالغزو الثقافي واختراع البدع وتعميق التناقضات الداخلية دينية كانت أم إثنية. لجوء بعض الدول العربية نحو القطرية لم يحمها من التدخلات لا القديم منها ولا الجديد. ولن يحميها أيضا من الارتدادات الصاخبة المحتملة للتصفية المجانية للقضية الفلسطينية.

 العودة الى فلسطين تعيد للعرب تماسكهم وترابطهم وتاليا تزيدهم قوة خارجية ومناعة داخلية، ويعطي للجامعة مكانتها بين الكتل العالمية الكبرى. الابتعاد عن فلسطين لم يحرّر العرب ولم يخفّف أزماتهم الداخلية ولم يوفّر الرخاء لشعوبهم، ولم يحسن مكانتهم بين الدول، لا بل زاد أوضاع الأمة فداحة. لن يتحرر العرب ما لم تتحرر فلسطين. ولن تتحرر فلسطين من دون أن يتحرر العرب. الاثنان قضية واحدة لا تنفصم، هما مسار واحد وصيرورة مترابطة لا تسبق فيها مهمة المهمة الاخرى. صمود الفلسطينيين يظهر أن إيجاد حل لقضيتهم ممكن، لكنه وحده لا يكفي لاستعادة فلسطين، لا بد من أن يجتمع الجُهدان في اتجاه واحد. ولا يجوز أن يتحرر العرب من هذا العبء، هو أخف بكثير من أعبائهم الحالية.

ثمة فرصة يجب ألّا تضيع كما ضاعت سابقاتها. لأطفال غزة دين كبير علينا وعلى فلسطين وعلى العروبة جمعاء، ويجب ألا يضيع.   

أمين قمورية

صحافي لبناني

رأيك يهمنا