"أولوية الراهن تسبق "اليوم التالي

 يعيش شعب فلسطين الفصل الأكثر كثافة من النكبة وباتت نهاية الحرب تشبه مقولة نتنياهو المكررة بـ"الانتصار على بعد خطوة" فكلما كان الانطباع بأنّ الأمور تنحو نحو النهايات يتكشّف أنَّ السراب هو الطاغي، وهو فصل قائم على اللا-أفق الإسرائيلي المفتوح لمن يسعى الى صياغة مصير فلسطين بجغرافيتها وشعبها باستبعاد الفلسطينيين وبإلغاء فلسطين.  بهذا المفهوم فإن "اليوم التالي" للحرب هو أيضا اليوم التالي للنكبة ومآلاتها. هل ستكون الحال أفضل؟ لا شيء مضمون وفقا للمعطيات الراهنة. تملك حماس ورقة الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين في غزة، ولا تملك ورقة إيقاف الحرب، بل هذه هي الورقة الإسرائيلية في حرب غير متكافئة بشكل سافر، وهي أيضا ورطة استراتيجية إسرائيلية عظمى، بعد أن أعادت دولة الاحتلال نفسها الى واقع احتلال كامل وحرب استنزاف ليس لها مخرجًا منها. وطالما استدام الاحتلال الإسرائيلي في أيّ موقع من جغرافية فلسطين وجغرافية احتلالاتها السابقة، كان الاستيطان، بينما لم تنزل مسألة التهجير عن جدول الأعمال سواء العلني أم المخفي للمنظومة الإسرائيلية.

في هذا الصدد من الأهمية باعتقادي التنويه إلى حدث قد يكون الأكثر مفصلية منذ إعلان الحرب على غزة، والمقصود إخفاق مشروع التهجير حتى وإن بقيت النوايا لتنفيذه. كان التهجير وتفريغ قطاع غزة من سكانه هو شعار الحرب الأول و"تغيير معالم الشرق الأوسط برمته".  كانت المعركة الفاصلة في هذا الصدد هي معركة رفح الأولى والمقصود المخطط لتحويل المدينة ومحيطها الى محطة لتجميع النازحين من غزة المدينة وشمال القطاع والمركز نحو تهجيرهم إلى سيناء ومن هناك نقلهم الى بقاع العالم في متاهات اللجوء والمنافي برعاية أمريكية بامتياز.

كانت إدارة بايدن أول من استخدم مصطلح "اليوم التالي" وذلك بالتزامن مع إعلان إسرائيل الحرب. واعتبرت الولايات المتحدة أنه اليوم التالي للحرب، دافعة القيادة الإسرائيلية إلى تحديد ما هو التصور السياسي لقطاع غزة، وعلى أساس ذلك تنبثق الأهداف واستراتيجيات الحرب. وأين ستنتهي وكيف وماذا بعد ذلك. 

مُذاك بات "اليوم التالي" على ألسن جهات عديدة بما فيها العربية والفلسطينية والإسرائيلية والدولية، ولكل جهة يومها التالي، وفي إسرائيل حيث لا يوجد أيّ اتفاق على أي تصور خارج العدوان، أيضا تعثرت في تحديد إطار لهذا المفهوم، فاعتبره نتنياهو اليوم التالي للقضاء على حماس وإبادتها وتحقيق الانتصار العظيم ثم اعتبر الانتصار "على بعد خطوة" لم يستطع تجاوزها، واعتبره غالنت وغانتس بضرورة إيجاد شريك فلسطيني محلي غير معادٍ لإسرائيل لا هو فتح ولا حماس، ووكيل للاحتلال ليقوم بتوزيع "المساعدات الإنسانية" الخالية من أيّ إنسانية، واعتبرته الرئاسة الفلسطينية والنظام العربي إنهاء الحرب على غزة وإبرام صفقة تبادل أسرى وهدنة تتحول إلى وقف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة والسعي الى سلطة فلسطينية تدير شؤون القطاع وفرصة لإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران67 "على أساس مبادرة السلام العربية"، وهو ما اعتبرته أوروبا سلطة فلسطينية "محسّنة القدرات" بعد أن أطلقت هذا المفهوم إدارة بايدن وسرعان ما تجاهلته، كما أن الاتحاد الأوروبي تحدث بلسان وزير خارجيته بوريل عن الحاجة إلى فرض حل الدولتين على إسرائيل. التيار الصاعد والمتسيّد إسرائيليًا أي الصهيونية الدينية والكهانية يرفض التعامل مع "اليوم التالي"، ويرى بالحرب دائمة ومستدامة وحين تنتهي في غزة ينبغي تطبيق النموذج على الضفة الغربية، وقبل ذلك استيطان قطاع غزة وهناك "المعتدلون العقلانيون" من تيار أقصى اليمين الذين لا يريدون استيطانَ كامل القطاع وإنما تقسيمه الى غزّتين شمالية إسرائيلية لغاية وادي غزة الذي يطلقون عليه محور نيتسريم، وجنوبية هي غزة الفلسطينية بكل نازحيها، والذين يتعاملون مع النزوح على أنه مؤقت ثم يعودون الى الشمال بينما درس النكبة يؤكد ألا نزوحا مؤقت لو اقتصر الأمر على نوايا اسرائيل.

رغم تفهم الحاجة الوظيفية لخطاب البطولة إلا أنه يغرّر في هذه الحالة، إذ أنها حرب غير متكافئة بامتياز. بل إن اسرائيل التي باتت قوة احتلال مستدام في كل قطاع غزة من أقصى شماله الى أقصى جنوبه وقد أسست لمنطقة عازلة شرقا وجنوبا، وبترت القطاع شمالا وجنوبا وغيرت معالمه السكانية الجغرافية، كما نجحت إلى حد كبير في تفكيك قدرات حماس السلطوية والعسكرية، الا أنها استراتيجياً تواجه هزيمة غير مسبوقة، إذ فقدت مواطن قوتها الاستراتيجية الداخلية والخارجية كما لم تحقق بقوتها العسكرية أيًّا من أهدافها التي حددتها في بداية الحرب. بل تتورط في حرب استنزاف يبدو أنها ستكون طويلة الأمد، إذ لا يوجد أيّ مسعى في الحكم او المعارضة نحو تغيير السياسة والتوجه نحو حل مع الفلسطينيين.

فلسطينيا، فإن تصور "اليوم التالي" هو إشكاليٌّ بحد ذاته، لشعب يمر في معركة وجودية يسعى أولا إلى وقف الحرب. حين تنتهي الحرب، أو حين تصبح "روتينا" بوتيرة أقل كثافة سوف ينكشف شعب فلسطين على كثافة الكارثة وعمقها وعلى الجيل الذي فقده وعلى الحالة المنكوبة التي من الصعب أن تتيح رؤية ما هو خارج الفوضى المهزومة، جيل من الأطفال ضاقت عوالم أحلامهم وباتت بحجم طنجرة فارغة يملؤها القهر والتضور من الجوع عساهم يعودون وقد وجدوا ضالتهم ببعض المعكرونة المغلية والتي باتت وليمة التجويع الإبادي. هذه الصور أبعد من اختزالها في شعار السياسة القائل بـ"إعادة الإعمار" وحيث السؤال هو إعمار ماذا ولماذا، وهي أيضا أبعد من حصرها في مساحات الثقافة والأدب إذا كانت الغاية هي درب بديل للهروب من السياسة، بل هي في صميم الواقع السياسي مع التنويه بأن الثقافة والأدب ليسا خارج السياسة. الصور المنقولة من غزة هي شكل مخفف للواقع المعاش، فالصورة لا تنقل الوجع ولا المرض ولا الحزن الدفين تحت أنقاض الإبادة الروحية، ولا شعور من يلفظ أنفاسه ولا شعور المقيمة تحت الأنقاض تنتظر الفناء الداهم. إلا أنني أنشدُّ الى مشهد طوابير أطفال الطناجر. فهي جميعا وغيرها الكثير سوف تلقي بأثقالها على "اليوم التالي" المنتظر حاليا وقد يطال انتظاره لسنين كثيرة، فاليوم التالي ليس تاريخًا معينا يحمل البشائر، بل حالة لا عودة فيها الى السادس من تشرين 2023. فلن تعود غزة كما كانت ولا الضفة ولا الداخل الفلسطيني، وفي المقابل لن تعود إسرائيل ومنظوماتها كما كانت وحصريا في تعاملها مع فلسطينيي 48.

لن نعود إلى حيث كنا نناور في مساحات هامش الحريات الضيّق والحقوق المبتورة، وللحقيقة لا نعرف جماعيا إلى أين سنعود أو إلى أين سنصل في اليوم التالي وما هي مواطن قوتنا ومواطن ضعفنا الجماعي، فلم يجرِ أي حوار ولو بالحد الأدنى بين مكونات الحركة السياسية بتياراتها المختلفة. لم تتغير معايير التعاطي مع السياسة فيما بيننا، في حين أنّ إسرائيل بكامل إجماعها قد غيرت جوهريا من معادلة القبول بوُجودنا السياسي ولو على مضض، وهذا يشمل نظرة الجهاز القضائي ممثلا بالمحكمة العليا.

علينا في الداخل الفلسطيني ألّا نخرج من حساباتنا بأننا قد عدنا الى مكوناتٍ من معركة البقاء والصمود على الأرض والتي تلت عام 1948. وهي معركة قد تكون الحاسمة تاريخيا في البقاء في وطننا والتي اعتبرته المؤسسة الصهيونية خطأ ينبغي تصحيحه في أول حالة حرب، وقد حاولوا ذلك في مجزرة كفر قاسم 1956، ومنذ ذاك الحين تراجعت مشاريع التهجير اضطرارا، لتعود وتطغى مع تحول التيار الصهيوديني المتسيّد في السياسة الإسرائيلية وبكل المنظومات، لتصبح الكهانية هي أداة التعامل مع فلسطينيي 48 والأسرى والقدس طاغية بشكلها السافر على الذهنية الإسرائيلية المهيمنة، تتقاسم الأدوار مع هيمنة الصهيونية الدينية الاستيطانية على الضفة الغربية نحو الضم والتهجير و"نقل نموذج غزة إلى الضفة"، وفي الحالتين وهما حالة واحدة توفر الدولة كل مقومات وأدوات تطبيق هذه المشاريع.

بتقديري إذا تجاوزنا الحالة الراهنة بتعزيز البقاء والصمود والحفاظ على بنية جماهير الشعب ووقف الحرب على غزة ولعب دورنا السياسي بالشكل الأقصى الممكن، وهذا بحاجة الى تعريف جماعي، نكون قد كسبنا إفشال مشروع تصفية وجودنا وتصفية قضية فلسطين، لنواصل مسيرة حافلة في واقع إسرائيلي لا يعترف بأيّ شرعية لعملنا السياسي، وهذا من شأنه أن يدفع، ومن باب المسؤولية العليا، الى حوار استشرافي هادف في سياق استحقاقات المخاطر المحدقة، وبين كل التيارات السياسية ولكل القوى والاجتهادات المعنية وفي مركزه الحركة الوطنية في الداخل يسعى الى استخلاص العبر من التحولات في المجتمع الفلسطيني وفي المجتمع الإسرائيلي، وإلى فك الحصار العنصري التصفوي المفروض على هذه الجماهير، وإلى حوار وطني فلسطيني شامل وهادف وفي محوره إنهاء الحرب وإنهاء الاحتلال والحل العادل.

اليوم التالي هو رهن اليوم الحالي ورهن كل لحظة تسبقه ورهن كل مسيرة التحرر الوطني للشعب الفلسطيني وقد صيغ في الثوابت الوطنية الفلسطينية، فليست إسرائيل هي سيدة التاريخ والمقررة لمصيره بل تبقى إرادة شعب فلسطين.


الصورة: للمصوّر عبد الرحمن زقوت.

أمير مخول

باحث في مركز تقدم للسياسات

رأيك يهمنا