عَودة ترامب: العالم العربيّ في مَمَرّ ضيّق

 اختصارًا للكلام وتلخيصًا له، فإن خيارات العالم العربي – بأنظمته وهيئاته ومنظماته المحلّية والإقليمية- للرد على التحديات المحتملة لفترة الرئيس الأمريكي ترامب الثانية، تتمثل في واحدة من الآتية: إما الاستسلام والتعاطي الكامل أو الجزئي مع الاشتراطات والضغوط والإملاءات، وبالتالي نحظى جميعًا بهزيمة ماحقة وساحقة ولا قرار لها، وإما المواجهة الكاملة أو المتدحرجة أو المدروسة أو المتعقّلة، وذلك من خلال تفادي الضغوط أو امتصاصها أو إعادة تدويرها أو المسارعة في تقديم الاقتراحات والمبادرات أو وضع البدائل على الطاولة.

 ولأن ذلك يحتاج إلى شرح طويل، فأقول إن المواجهة تقتضي المسارعة إلى التنسيق الكامل بين مختلف الأنظمة العربية مهما كان بينها من خلافات واختلافات، ذلك أن ترامب الذي يفوز للمرة الثانية في لحظة استثنائية في التاريخ الأمريكي والعالمي، لا يبشر بالضرورة بإنهاء الحروب إلا على حسابنا، ولا يأتي بحلول سحرية إلا من خلال القضاء على أحلامنا، ليس هناك ما يدل على أن الرجل يأتي وهو أكثر خبرة أو تجربة أو تعقلًا، وليس من الضرورة أن نعتقد أنه رجل تسويات وصفقات، فيسارع إلى عقد صفقات معنا.

تتم الصفقات بين الأقوياء ومع أطراف مُتشابهة في المصلحة والضرر، وعالمنا العربي ليس قويًا وليس طرفًا يشبه الأطراف الأخرى.

أعود إلى خياريّ الاستسلام والمواجهة. خيار الاستسلام قابل للتحقّق بشكل كبير، إذ إن كلّ نظام سيرغب أن ينجو بِرَقَبَتِه دون النظر إلى الأطراف الأخرى، حيث كلّ طرف لديه مخاوفه وهواجسه ونقاط ضعفه وجوانب هَشاشته، خيار الاستسلام خيار أسهل وأقل ضررًا، ولذلك من الممكن أن يقع أمام أعيننا تمامًا، ولنا أن نتصوّر كم هي الخسائر التي ستلحق بنا، نحن الفلسطينيين، بمعنى اختفاء -أو التخلي عن- حلّ الدولتين العتيد الذي يتحول إلى مستحيل كلّما تقدّمنا في الزمن، وكذلك إمكانية ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها والتهجير القسري والطوعي أو كليهما في القطاع والضفة والقدس، واستمرار الاحتلال بديلًا عن التسوية وتعميق الانفصال بديلًا عن المصالحة، والبحث عن أجسام وهيئات محلية بديلة عن الهيئات الجامعة. الاستسلام يعني أن مشروع الاحتلال سيأخذ ما يريد من تمويل وشرعيّة ودوام، والاستسلام يعني العودة إلى المربع الأول للصراع، الأمر الذي يعني بوضوح تفكيك أرض الشعب الفلسطيني وتفكيك أواصره وموحّداته.

الاستسلام يعني تطبيعًا مجانيًا وانتصارًا إسرائيليًا غربيًا على منطقتنا وشعوبها بالكامل.

أما المواجهة  المعتدلة المدروسة والمتدرجة فتعني برأيي الإصرار على الرؤية العربية لحلّ صراعات المنطقة جميعها، وعدم السماح للعدوانية والتوسع والتطرف من التقدم والانتصار، هناك مقترحات عربية متعددة، ولا أريد عرضَها أو حتى إبداء الرأي حولها، فهي في نهاية الأمر تعبير عن مرحلة تاريخية معينة تخلو من القدرة والقوة والنفوذ وربما الإرادة السياسية الحقيقية للاستفادة من معطيات الواقع ومقدرات الأمة، هناك مقترحات عربية كما قلت، سعودية ومصرية وأردنية وإماراتية، وهذا محور الاعتدال والقدرة الاقتصادية والدبلوماسية الهادئة ذات النفس الطويل والثقيل. برأيي أن هذه هي لحظة اختبار أخرى لهذا التيار ليثبت نفسه، ويكون بديل المحاور الأخرى التي انتقدها وحاصرها طيلة الوقت. أعتقد أن هذه هي اللحظة المناسبة لأن يقدم الاعتدال نفسه قادرًا على المرونة والتعاطي مع المخاطر والتحديات غير المسبوقة، لديه مقولاته وأدواته وبدائله، لا يكفي هذا التيار أن ينتقد أو يعترض دون أن يمتلك البديل السياسي والفكري حتى يحقق التمثيلية والشرعية والموثوقية.

  هذه هي لحظة اختبار هذا التيار لوقف شلال الدم في غزة ولبنان، وكَسر هذا التوحّش غير المسبوق وكَسر هذه الدائرة المجنونة من الدم والنار.

ولا نقول هذا الكلام جزافًا أو اعتباطًا أو تزلفًا لأحد، إذ إن مجيء ترامب أو انتخابه رغم كل ما يجرّه معه من ملفات جنائيّة وعنصريّة ما قد يقود إلى حروب داخلية وخارجية، فإن تيار الاعتدال العربي مدعو إلى المواجهة العاقلة، القوية، الهادئة، وإلا فإن الهزيمة ستكون عامة وطامّة، ومن لم يعتبر مما جرى على مدى 400 يوم من المذابح التي لم تهز ضمائر الغرب الاستعماري أو قلوبه، فإن من الحري أن نتوقع ذلك من إخوتنا وأشقائنا. الخطر داهم وشديد والقلوب وصلت الحناجر تمامًا.

د. أحمد رفيق عوض

رئيس "مركز القدس للدراسات المستقبلية" في جامعة القدس

معين شلولة
رؤية دقيقة وشفافة ومسؤولة حفظ الله د. أحمد
الثلاثاء 3 كانون الأول 2024
رأيك يهمنا