عِنْدَما تَتَداعى جُدرانُ البَيت: كَيفَ نَحْرُسُ أَحلامَ أَطفالِنا؟

 في عالَمَنا، تُحيط بكلّ طفل أربعة جُدران تحميه مِن قَسوة الحياة، وتمنحه مساحة آمنة ليبني أَحلامه ويَنمو بثِقة. لكن ماذا يَحدث عندما تتصدّع هذه الجُدران أو تنهار تمامًا؟ عندما يُصبح البَيت مصدرًا للخوف بدلًا من الأمان، والمدرسة ساحَة للعنف بدلًا من التعلُّم، والشارع مسرحًا للصراعات بدلًا مِن اللعب؟ إضافة إلى الحروب المُستَعِرة، والنزاعات المتفاقمة، والفقر المُدقع. يشهد أطفال اليوم انهيارًا متسارعًا للجُدران التي كان مِن المفتَرَض أن تحميهم. كلّ صَدْع في هذه الجدران يترك ندوبًا عميقة في نفوسهم، وكل انهيار يَدفِن تَحته حُلمًا كان يمكن أن يتحققّ. إنها قصة أحلام محطَّمة وآمال مدفونة تحت أنقاض ما كان يُفترض أن يكون حيزًا آمنًا.

الجُدران الأربعة: عندما يتحوّل المَلاذ إلى حُطام مِن الحِجارة والفولاذ

إنّ المَلاذ والحيّز الآمن للطفل ليس مجرّد تصميم هندسي من الحِجارة والإسمنت، بل هو بِناء نفسيّ وعاطفيّ يتشكّل من الحب، والثقة، والطمأنينة، والشعور بالاستقرار. عندما تكون هذه الجُدران النفسيّة سليمة، يَنطلق الطّفل من داخلها ليستكشف العالَم بشغف وثقة. لكن عندَما تتصدّع هذه الجدران، يتبدّل كلّ شيء.

تَخَيَّل طفلًا يعود إلى منزل مهدّم بفعل قذيفة، أو آخر يخشى الرجوع إلى بيته خوفًا من عنف والديه، أو ثالثًا فَقَد مدرسته وأصدقاءَه بسبب التهجير القسري. ماذا يتبقى مِن أحلامه عندما تتحوّل الجُدران التي تَحميه إلى مصدر خوف وأَلَم؟

أنقاضُ الطّفولة: تّأثيرات انهيار الحيِّز الآمِن وانعكاساته

عندما يَنهار الحيّز الآمن للطفل، لا تنهار مَعه جُدران ماديّة فحسب، بل تتحطّم معه آليات نفسيّة أساسية تُشكّل هويّته ومستقبله:

1.    انهيار الثّقة والأَمان النفسيّ: حين يَعيش الطّفل في خَوف دائم، تتآكل ثِقَته بالعالم مِن حوله وبنفسه، مما يؤدي إلى قَلَق مزمن واكتئاب قد يرافقه طوال حياته.

2.    تَهاوي المستقبَل التعليمي: كيف يمكن للطفل أن يركّز على تعلم الحروف والأرقام عندما تكون حواسه مشغولة بترقّب الخَطَر؟ إن فقدان الحيّز الآمن يَدفِن تحته فرصًا تعليميّة كان يمكن أن تغيّر مسار حياة صاحبها.

3.    تَحَطّم الهويّة والانتماء: يفقد الطفل المقتَلَع مِن جُذوره بسبب الحرب أو النزوح أكثر من مجرّد منزل؛ إنه يفقد جزءًا من هويته وإحساسه بالانتماء.

4.    تصدّع العلاقات الإنسانية: سيواجِه الطّفل الذي يختَبِر فقدان الثّقة في سنّ مبكّرة بِمَن يفترض أنهم حُماته، صعوبةً في بناء علاقات صحيّة مستقبلًا، متنقلًا بين جدران العُزلة أو العدوانية.

5.    تَداعي الصحّة الجسديّة: تترك التوتّرات المُزمِنة والصّدمات النفسيّة آثارها على الجسد أيضًا، من اضطرابات النّوم إلى ضعف المناعة وصولًا إلى أمراض متنوّعة في المستقبل.

6.    تهشُّم نوافِذ الإبداع والخَيال: كيف للخيال أن يحلّق عندما تكون الطائراتُ الوحيدةُ التي يَراها الطّفل هي تِلك التي تُلقي القنابل؟ إن انحسارَ مَساحَة الأَمان يقيّد الإبداع والخَيال، ويحوّل الطفل مِن صانع أَحلام إلى مجرّد باحِثٍ عَن النّجاة.

7.    تَشَظّي القِيَم الأخلاقيّة: في عالَم يتعلّم فيه الطفل أن البَقاء للأقوى، قد تنهار منظومة قِيمه وأخلاقه، ليُصبح العنف والاستغلال وسائل بقاء مشروعة في نَظَره. 

إِعادَة البِناء: كَيف نُرمّم الجُدران ونُحيي الأَحلام؟

رَغم فَداحة الدّمار، يبقى الأَمل في إعادة البِناء. مِثلما يُعاد إعْمار المُدن بعد الحروب، يُمكن ترميم الحيّز النفسيّ الآمن للطفل بالصّبر والالتزام:

1.    بَناء حِصن داخليّ: تَعزيز قُدرة الطّفل على التكيّف مع الظُروف الصّعبة ومواجهة التحدّيات مِن خِلال أنشطة تبني ثِقَتَه بنفسه وتُنمّي مهاراته.

2.    ترميم جُدران الثّقة: إعادة بناء ثِقة الطفل بالعالم من حوله من خِلال علاقات ثابتة ومَوثوقة مَع بالغين داعمين، سواء كانوا من أفراد العائلة أو المُعلّمين.

3.    تأَسيس أَعمِدَة بَديلة للدّعم: في حال فُقدان الأُسرة أو تفكّكها، يُمكن للمجتمع المحلي والمؤسسات الاجتماعية تشكيل شَبَكة أَمان بَديلة تَحتضِن الطّفل.

4.    إِنشاء واحات آمِنَة: تَخصيص مساحات آمنة في المدارس، والمراكز المجتمعيّة، أو المخيّمات، حيث يمكن للأطفال أن يعبّروا عن مشاعرهم ويستَعيدوا شيئًا من طفولَتهم المَسلوبة.

5.    بناء جُسور التّواصل: تَشجيع الأطفال على التّعبير عن مخاوفهم ومشاعرهم مِن خلال الفنّ، واللعب، أو الحوار، مما يخفّف من وطأة الصَدَمات النفسيّة.

6.    استعادَة أُسس الهويّة والانتماء: مساعَدة الأطفال على الاحتفاظ بتُراثِهم وثَقافتهم، مَع تسهيل اندماجهم في بيئاتهم الجديدة.

7.    تَدعيم سَقف الحِماية القانونيّة: تعزيز القوانين والسّياسات التي تَحمي الأطفال من العُنف والاستغلال، وضَمان تطبيقها بِصَرامة.

نَوافذ رقميّة للأَمَل: دَور وَسائل الإِعلام ومنصّات التّواصل الاجتماعي

في عَصر المَعلومات، تتحوّل وسائل الإعلام ومنصات التّواصل الاجتماعي من مجرّد أدوات ترفيه وتواصل إلى نوافذ يُمكن من خلالها إعادة بناء جدران ونوافذ الأمان المُتَهدّمة:

1.    منصّات للتعبير: توفير مَنبر للأطفال المتضرّرين لمُشارَكَة قِصَصهم، مما يَكسر حاجز الصمت.

2.    شَبَكات دعم افتراضية: بناء مجتمعات رقميّة تمنح الأطفال إحساسًا بالانتماء، خاصة للمَعزولين جغرافيًا.

3.    بدائل تعليميّة: تَوفير فرص تعليميّة عبر الإنترنت للأطفال الذين فَقَدوا مدارسهم.

4.    جُسور للمساعَدات: تسهيل وصول المنظّمات الإنسانية للأطفال المُحتاجين.

5.    منصّات للإبلاغ عن الانتهاكات: توفير آليات سرّية وآمنة للإبلاغ عن حالات الإساءة.

6.    مساحات للتّعبير الإبداعي: إتاحة فُرص للأطفال للتّعبير عن مشاعرهم من خلال الفنون المختلفة.

للخِتام - حُماة الأَحلام

عندما تَتَهدّم الجدران التي تحمي أطفالنا، لا تتحطّم معها طفولَتهم فحسب، بل يَتَهدّد مستقبل المجتمع والعالَم بأكمله. إن إعادة بناء هذه الجدران ليس خيارًا، بل ضرورة ملحة لإنقاذ جيل من الضَّياع والتّهميش.

كلٌّ مِنّا - أَهل، معلّمون، مُربّون، صنّاع سياسات، إعلاميّون، ناشطون رقميّون، مؤسسَّات مجتمع مَدَني - مَدعوّ لأن يكون "حامي أَحلام"، يُساهم في تَرميم الجُدران المحطَّمة، ويَفتح الأبواب والنّوافذ أمام أَحلام جديدة.

إن مستقبل أطفالِنا المحاصَرين بين الجُدران المهدَّمة والأحلام المحطَّمة يتوقف على قدرتنا اليوم على منحهم الأَمان الذي يستحقونه، ومساعدتهم على بِناء قُدُراتهم الدّاخليّة، وتسخير كلّ أدواتنا التقليدية والرقميّة لخلق شَبكة حماية متكاملة لهم. فقط عندها يمكننا أن نضمن لهم، ولنا جميعًا، غدًا أكثر إشراقًا وإنسانية.

نسرين حمصي جبارين

مستشارة تربوية ومرشدة في مجال العائلة والوالدية

سكينه سليمان
جدا مؤثر ومعبّر . واقع وواقعي،سيئ للغايه لدرجه انه صعب على هاي الاطفال انها تحلم بمستقبل به أمان ...يجب القلق والعمل على حمايه هاي الاطفال ... كلي فخر وتقدير للصديقه الغاليه نسرين على مجهودها بهاذا المقال الواقعي والداعم للاطفال الأبرياء المسلوب طفولتهن ....ليكون رساله وتنبيه لمستقبل مخيف ....اذا لم يخلق شبكه وأدوات تقليديه والرقميه لحمايتهم ....
الثلاثاء 1 نيسان 2025
روض زعبي حسن
رائع وملائم للمشاعر ، واداة مساعدة للتعامل
الثلاثاء 1 نيسان 2025
سهير تلاوي هريش
طرح جدا مهم وتوقيت أهم بحاجه الى تسليط الضوء على هذا الموضوع بزحمة الحياة ...وان لا نقبل بالتسليم
الثلاثاء 1 نيسان 2025
رلى شهاب مستشارة تربوية ومرشدة في مجال العائلة والوالدية
رائعة نسرين كالعادة وصف دقيق لواقع أليم ومحزن ولكنك دوما تنيرين درب الامل وتعززين الحصانة النفسية فينا كأشخاص مهنيين وذوي تأثير على المجتمع من خلال قوى المسؤولية نحو تغيير أفضل وغد أجمل . اشكرك على المقال الرائع وبالنجاح والتوفيق
الثلاثاء 1 نيسان 2025
شهيرة شلبي، مستشارة تربوية
مقالتك عزيزتي نسرين تحمل عمقًا وأملًا جميلا.. فعندما يُطرح الواقع بموضوعية مقرونة بحلول، يصبح التغيير ممكنًا… فحماية الأطفال اليوم ليست مجرد التزام أخلاقي، بل استثمار في مستقبل أكثر إشراقًا وإنسانية للجميع!! ويبقى الأمل بأن الغد قد يحمل معه نورًا جديدًا لأطفالنا، يحمي أحلامهم ويصقل هويتهم ليحبوا الحياة رغم التحديات..
الثلاثاء 1 نيسان 2025
رأيك يهمنا