عِندَما تَأخُذ المُوسيقى بِيَد المَنكوبين..

يَصعب على المَرء أن يتخيّل أن يكون للفنون – وتحديدًا الموسيقى- في أوقات النَكَبات ذلك الدّور المميّز في تخفيف العبء الرهيب الذي يَعيشه الناس ويَبحثون فيه عن جُرعة ماء تطفئ ظَمَأ أولادهم. لكنّ للموسيقى قُدرتها الرّهيبة، ليس فقط في تَخفيف هذا العبء، بل في تَوحيد مَشاعر الجماهير وأَصواتها وحِراكها، وبالتالي انصهارها في نَغَم واحد موحَّد يُعطيها الإحساس بالجماعة والقوّة والقدرة على تحمّل الأعباء التي ما كان أحدٌ قادرًا على تحمُّلها لو كان وَحدَه. فمُنذ بداية تاريخ الإنسانيّة وإلى يومنا هذا، أَدرَكَ أَجدادُنا تلك القُدرة الفائقة للإيقاع والموسيقى والأغاني التي كادت تُشبه "السّحر"، وقد استخدَمَت كافّة القوى السياسية والعسكرية والدينية أيضًا هذه القُدرة كَعامل أَساسيّ فاعلٍ في تَوحيد صفوف الجماهير حَولها، وتَحميسها، وبالأخصّ في أزمان الصِراعات والحُروب. فالتّعبير الموسيقيّ القائل "طُبول الحَرب تُقرع"، الذي عَرَفته كافة شُعوب العالم وثقافاته عَبر التاريخ، لم يَأت مِن فَراغ، كذلك الأناشيد الوطنيّة لكلّ دولة والتي مِن شأْنها أن تَبعث المشاعر الموحِّدة في نفوس الجَماهير. وفي المُقابل هناك العَديد من الموسيقيين والمُغَنين ممن دَفَعوا حياتَهم ثمنًا لأنّ هناك مِنَ الحُكام مَن رأى فيهم تهديدًا لوجوده، كونهم امتلكوا القُدرَة على جَذب اهتمام الجَماهير وبثّ رَسائل وطنيّة أو سياسيّة لا تَنسجم مع مَصالح الحكام. أذكر المُغني التشيلي الشهير "فيكتور جارا" الذي أَعدَمه جنود الحاكم العسكري "بينوتشيت" في سانتياغو بعد أن اعتقلوه في العام 1973 عَقِب الانقلاب العسكري الذي قام به -بمساعدة المُخابرات الأمريكية- على القُوى اليساريّة التي فازت حينها في الانتخابات. وهناك الكَثير مِن الرّوايات الشّبيهة في عالمنا العربيّ أو حتى تَحت الاحتلال الإسرائيلي التي لا مَجال لِسَردها في هذا المَقال لأسباب معروفة. والعكس صحيح أيضًا، وهو أَنّ القُوى السياسيّة وتحديدًا الحاكِمة منها، تَعمل دائمًا على دَعم مغنين موالين لها مِن أَجل جَذب الجماهير وتقريبها منهم.

وأيضًا، تتمتع الموسيقى بصفة إضافيّة تجذب اهتمام مَن يتعمّق في دراسة التاريخ ويَعمل على توثيقه، فهي أَشبَه بالصُور الفوتوغرافية أو المُلصَقات، لَها القُدرة على توثيق الأحداث التاريخيّة لتتداولها الجَماهير وتردّدها فتدوم للأجيال القادمة. في تاريخنا الموسيقي الفلسطيني أذكر أغاني المغنيّ الفلسطيني "نمر ناصر اليافاوي" الذي وثّق بأغنية أحداث ثورة الـ 1936 وكذلك نكبة الـ 1948، و "توفيق البرجاوي" الذي غنّى أغنيه "أَبكي عَليكي يا فلسطين" في أربعينيات القَرن الماضي وغيرها، لتنشأَ بَعدها وبَعد النكبة مئات الأغاني الّتي تُعبّر عن الحالة الفلسطينية وتوثّق أحداثها، مثل أناشيد الثّورة وأغاني "أَبو عَرَب" وغيرهم. تُوفّر هذه الأغاني مادة مهمّة ومُوثَّقة لإعادة تكوين صورة واقعيّة للأحداث والأوضاع السياسية والوطنيّة التي واكَبَت حَياة الفلسطينيين عَبر عشرات السنين، مِثل الأُغنيات التي نَشَأت في الانتفاضة الأولى وتَحتَ ظروف صَعبة وبتقنيّات مَحدودة.

وهكذا نَشَأَت وتَنشأ في كلّ وَضع وطنيّ خاص عشرات الأغاني الجديدة التي تُمجّد المُستجدات، اليوم مثلًا صَدَرت أغانٍ تُمجّد أحداث "طوفان الأقصى" والمقاومة الفلسطينية وتُحَيي الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني أمام آلة الاحتلال والقَتل مِثل نَشيد "سَلام لغزّة" الذي كتب كلماته فؤاد سروجي ولحَّنه سهيل خوري. كذلك نرى أيضًا أن هناك أغنيات وطنيّة قديمة تَرى النور وتشتهر مِن جديد، مِثل فلسطينيات فيروز أو أغنية عبد الحليم "خَليّ السِلاح صاحي" وغيرها، أو حتى بَعضَ الأُغنيات التي لم تشتهر عند نشأَتها قَبل عَشَرات السنين لِتَحظى اليوم -وضِمن الظروف والمُعطيات الجديدة- بمدىً جديد، مثل أغنية "عَنيد أنا" التي غنّتها فرقة الفجر قَبل 35 عامًا.

ولا بدّ هنا مِن الإشارة إلى عامِلَين إضافيين مُهمّين:

أولًا، الدور الذي تَلعبه التقنيات الرقميّة في عصرنا هذا، الذي مِن شأْنه أن يوفّر لآلية الإنتاج الموسيقي وسائل كثيرة تُسَهّل عملية التسجيل والعَزف ومَزج الأصوات، عمليًّا على جهاز كمبيوتر أو "لابتوب" في المنزل، وقريبًا بمساعَدَة الذكاء الاصطناعي، دون الحاجة إلى مُعدّات وموسيقيين واستوديوهات.. إلخ، كما كان عليه الحال قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، حيث كانت عمليّة إنتاج الأغاني مُكلفة ومعقَّدة إلى حدّ ما. وهذا يوفّر الإمكانيّة لفئة واسعة مِن المَوهوبين والمُغرَمين بالموسيقى أن يُنتِجوا أعمالهم بأنفسهم ويبثّوها إلى العالم.

ثانيًا: تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الأغاني والموسيقى المسجلة بشكل غير محدود، لكنّه غير منظَّم، وتتيح المَجال لكافة أَشكال الموسيقى والأغاني، وَبِغَضّ النَّظر عمّن أَنتَجَها أو كَتَبَها، أن تُسمع في أيّ وقت وأيّ مكان، وأن تشتهر أيضًا.

لكنّ الأهم مِن هذا كلّه، هو أنّ القضية الفلسطينيّة أصبَحَت اليوم الرّمز الأهمّ في العالم لإنسانيّة البشرية. فبعد الهجوم غير المسبوق وغير المبرر بهذه الشّراسة على غزة وقطع الماء وتجويع البشر والأطفال، بات كلّ إنسان يمتلك كرامة في هذا العالم يرى في ما يَحدث في فلسطين مرآة لنفسه وإنسانيّته. تحديدًا الجيل الجديد، أصبح يرى أن مستقبَلَه باتَ مهدَّدًا جراء تصرّفات الجيل القائم على الحُكم، وفي ظِلال الحُروب العسكرية والديون والحروب الاقتصادية وتَلويث البيئة.. إلخ. أصبَحَ يَرى في فلسطين رمزًا له ولوجوده المستقبلي، وإلّا ما كان طُلاب أَعرَق جامعات العالم شاركوا في الدّفاع عن قضية فلسطين التي عَمِل الغَرب الرأسمالي عَبر سنين على إبقائها قضيّة مَحَليّة جغرافيًا.

وهكذا أَصبَح للقضية الفلسطينية مدى عالمي وامتداد دولي كان له انعكاس أيضًا في العديد من الإنتاجات الفنيّة والموسيقيّة لفنانين وموسيقيين من شتى أنحاء العالم، واشتهر في ظلال العدوان الإسرائيلي عَدد مِن الأغنيات عن فلسطين بلغات أجنبية، أشهرُها أغنية Viva viva Palestina. كما تزَيَّن عدد من الموسيقيين العالميين الكبار برموز وشعارات تحيي إنسانية القضية الفلسطينية، أمثال Roger Waters  و  Eric Clapton و فرقة  Coldplayوكثيرون غيرهم.

وبهذا يكون للثقافة، وتحديدًا الموسيقى، مكانة خاصة في حياة الإنسانية وتوثيق حياتها وتاريخها. فهي بمثابة الأُم لتلك الشعوب التي تَكتب وتَكتب التاريخ.

د. بشار شموط

مهندس صوت فلسطيني وخبير في مجال الأرشفة الرقمية المرئية والمسموعة. تخصص في التاريخ السمعي والبصري لفلسطين وتراثها الثقافي ونشر عدة مقالات وكتاب في هذا الموضوع وساهم في إنشاء معهد الإعلام في جامعة بيرزيت، ويعمل بجانب وظيفته الأساسية في الأرشفة الرقمية في ألمانيا كأستاذ محاضر زائر في مجال الصوت وتكنولوجيا الإعلام في مؤسسات مختلفة في فلسطين والشرق الأوسط

إنصاف دعّاس
مقالة غنية بالمعلومات القيّمة كُتِبت بطريقة علمية وبأسلوب سَلِل. الدكتور بشّار شمّوط مُبدِع كالعادة
الخميس 8 أيار 2025
رأيك يهمنا