قطاع غزة: تغييب العدالة المنظم

يعتبر قطاع غزة السّجن المفتوح الأكبر في العالم، والمفارقة أنّ السّجان فيه بعكس ما هو قائم في أي سجن، يتحلّل من أي مسئوليّة تجاه من يتولى سجنهم، بل ويفرض قيودًا مشدّدة على وصول الغذاء والدّواء إليهم ويمارس بحقهم حصارًا وعزلًا واضطهادًا وحرمانًا من حقوقهم الأساسيّة. ومنذ أن فرضت حكمها العسكريّ على الأراضي الفلسطينيّة في العام ١٩٦٧ تحكمت سلطات الاحتلال الإسرائيليّ، ولازالت، في حركة الأفراد والبضائع منه وإليه، وأنشأت نظامًا معقدًا من التّصاريح أتاح لها السّيطرة المطلقة على السّكان والتّحكم في تفاصيل حياتهم، وسعت بشكلٍ حثيث إلى تعزيز فصل قطاع غزة، وتعميق تفتيت الأراضي الفلسطينيّة، بحيث تتعامل معه كجغرافيا منفصلة تمامًا عن بقيّة تلك الأراضي، معمقةً من أزمات القطاع، ولاسيما الإنسانيّة التي تدهورت بشكلّ غير مسبوق.

إنَّ تفتيت وحدة الأراضي الفلسطينيّة هي عمليّة منظمة تحاول إسرائيل من خلالها تقويض حلّ الدّولتين فعليًّا، المدعوم دوليًّا، والقضاء على أي ممكنات لذلك. بل وتقوم بمحاولات حثيثة لكي الوعي الفلسطينيّ- نظريةً وممارسةً- لترسيخ فكرة استحالة تجسيد وحدة الأرض والشّعب والنّظام السّياسيّ.

تدفع إسرائيل بغزة الغارقة في مشاكلها المركبة من ماء وكهرباء واحتياج إنسانيّ لتصبح منفصلة بذاتها، و تجبر السّكان– عبر الانشغالات المتواصلة في الهموم اليوميّة- لتأمين الحاجات الأساسيّة– على توجيه الوعي قسرًا لجهة الرّكض خلف محاولات تأمين الحاجات الإنسانيّة الأساسيّة. تسببت هذه الإجراءات ولم تزل، وهي شكل من أشكال العقاب الجماعي التي يجرمها القانون الدّولي في عمليّة عميقة من التخليف المنظم (De-development) لكل جوانب حياة المجتمع، فأعاقت تطوره واحتجزت مستقبل أجياله.

إن المكانة القانونية لقطاع غزة باعتقادي، كانت ولا تزال، بأنها أرض محتلة اعترفت إسرائيل كقوة احتلال بذلك أم لم تعترف، ولم تغير التّطورات السّياسيّة من ذلك، سواء أكان تأسيس السّلطة أو الانفصال الأحادي عن قطاع غزة في العام 2005، أو سيطرة حركة «حماس» عليها. وهناك شبه اجماع دولي حول مكانة الأراضي الفلسطينيّة، بما فيها القدس، باعتبارها أرضًا محتلة، ومن ضمنها موقف اللّجنة الدّوليّة للصليب الأحمر، والأمم المتحدة بمختلف أجسامها. كما يبدو ذلك واضحًا في قراراتها وأعمالها المختلفة. وقد حاولت إسرائيل العبث بالمركز القانونيّ خصوصًا عندما قرّرت الانفصال أحاديًا عن القطاع في العام ٢٠٠٥ وإعلانها إنهاء المسؤوليّة عنه، وقد كان موقف المجتمع الدّولي ولاسيما اللّجنة الدّوليّة للصليب الأحمر بأنّ إسرائيل هي القوة القائمة بالاحتلال طالما تمارس السّيطرة الفعليّة والمؤثرة على معابر القطاع وحدوده. ما قامت به إسرائيل بتنفيذها خطة الانفصال عن القطاع هو منحها لنفسها السّيطرة المطلقة ليس على معابر القطاع وحدوده، بل سماءه وبحره وتفاصيل حياة السّكان فيه.

منذ العام ١٩٦٧ حتى اليوم تواصل اسرائيل الإصرار على رفض الاعتراف بالأراضي الفلسطينيّة كأراض محتلة وبكونها القوة القائمة بالاحتلال وبانطباق اتفاقية جنيف الرّابعة قانونًا عليها في رفض لموقف الاجماع القائم في المجتمع الدّولي، وهو ما أكدت عليه قرارات مجلس الأمن والجمعيّة العامة للأمم المتحدة مرارًا. جدير بالذّكر أنّ الاتفاقات الموقعة بين منظمة التّحرير وإسرائيل لم تعرّف الأراضي الفلسطينيّة بأنها أرض محتلة، وإن أكدت على وحدتها الإقليميّة، وتركت المركز القانوني دون حسم بما هو أقرب للموقف التّقليدي باعتبارها أرضًا متنازعًا عليها، ذلك كله لاينتقص من المكانة القانونية للأراضي الفلسطينية ولاسيما قطاع غزة وهو بحاجة إلى تظهير دائم في الفعل السّياسيّ والقانونيّ الفلسطينيّ.

كان من الخطأ الفادح قبول الفلسطينيين عدم تأسيس اتفاقية أوسلو على مرجعيات تنهي الاحتلال وتضمن حصول الفلسطينيين على حقوقهم وفقًا لقواعد القانون الدّولي وقواعد العدالة برأيي. وقد أسهم ذلك في بقاء الاحتلال بأشكاله الماديّة والقانونيّة؛ الأمر الذي تجسد في مزيد من الاستيطان والحواجز العسكريّة، والتّأسيس لنظام من الفصل التّام بين الضّفة الغربيّة وقطاع غزة. وعلى الرّغم من إقرار اتفاقية أوسلو من النّاحية النّظريّة، بأنّ الضّفة والقطاع يشكلان وحدة إقليميّة واحدة، وبعدم جواز المساس بسلامتها الإقليميّة، إلّا أنَ اسرائيل قامت من النّاحية الفعليّة بممارسة نقيض ذلك، إذ أسست نظامًا واضحًا من الفصل بين المنطقتين بالإجراءات الإداريّة والأمنيّة والسّياسيّة، ما أدى إلى الانفصال الأحادي الجانب عن قطاع غزة، وهي خطوة كانت تهدف إلى إنهاء حلم الفلسطينيين في إمكانيّة الحصول على دولتهم، من خلال سياسة دفع غزة جنوبًا نحو مصر، مترافقًا مع تكثيف الاستيطان في الضًفة وتحويلها إلى "كانتونات" معزولة.

من اللافت أنّ الارتباط بين قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في العام ١٩٦٧ قد تعزّز وتعمق بعد سيطرة الاحتلال عليها، وبقي الوضع كذلك حتى ما قبل الإعلان عن اتفاقية أوسلو، وتحديدًا في عام 1991 عندما أنشأت إسرائيل حاجز بيت حانون (إيرز) وبدأت تفرض طلب التصاريح لمن يرغب في زيارة الضّفة أو مناطق 48. وبعد انطلاق عمليّة أوسلو وتأسيس السّلطة الفلسطينيّة، بدأ العمل فعليًّا لإرساء قواعد الفصل بين الضّفة الغربيّة وقطاع غزة، الأمر الذي أكمله الفلسطينيون بأيديهم بعد أنّ انفصلت إسرائيل عن قطاع غزة من طرف واحد. ومن بين الحقائق التي تظـــهر مدى التّغيرات على هذا الصّعيد، أن المتوسط اليومي لعـــدّد المغادرين من القطاع عبر معبر بيت حانون باتجاه الشّمال في العام 2000 بلغ 26000 نسمة، بينما في العام 2011 بلغ المتوسط اليوميّ لعدّد المغادرين من القطاع عبر المعبر نفسه 170 شــخصًا فقط، معظمهم من المرضى الذين لا يتوفر لهم أي علاج في القطاع.

ويشير بيان مشترك، صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدّولية ومنظمة "هيومان رايتس ووتش" وجمعية العون الطّبي للفلسطينيين، وأطباء من أجل حقوق الإنسان في العام ٢٠١٨ إلى أنّ الفلسطينيين من غزة تخلفوا عن (11) ألف موعد طبي على الأقل خلال 2017، بعد أن رفضت السّلطات الإسرائيليّة طلباتهم أو لم ترد عليها في الوقت المناسب أو لم ترد عليها نهائيًا، ما تسبب في وفاة (43) فلسطينيًا، من بينهم (3) أطفال، و(17) سيدة في العام نفسه.

الكلمة المفتاحيّة في حالة قطاع غزة هي المحاسبة، فطالما بقيت اسرائيل تمارس تحللًا واضحًا من القواعد الأخلاقيّة والقانونيّة التي ارتضاها العالم لنفسه فقد يكون القادم أسوأ، حيث شنت اسرائيل أربعة عدوانات على القطاع في أقل من ١١ عامًا، ارتكبت خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة وفقا للقانون الدولي. إذ قصفت منازل على رؤوس ساكنيها ودمرت أبراجًا وبنى تحتيّة، وقتلت أطفالًا ونساءً ومدنيين في ظلّ حصار متواصل منذ ما يزيد عن أربعة عشر عامًا، ولا يزال القطاع وباقي الأراضي الفلسطينيّة المحتلة أبعد ما تكون عن الوصول للعدالة وتوفير الحمايّة للسكان المدنيين المحميين بموجب قواعد القانون الدّولي.


الصورة للمصور - الصحافي عبد زقوت."

نشر في منصتا يوم 1 آب 2021.

عصام يونس

مدير مركز الميزان لحقوق الانسان في غزة

رأيك يهمنا