تجربة "في صوت"- مَرسَم 301

نظرًا للشعور بالفَقد والاغتراب الداخليّ والعجز، والشعور بالخطر منذ بدأت حرب الإبادة على فلسطين بعد 7 اكتوبر 2023، أصبح من الضروريّ أن نفكّر معًا لخلق مجموعة فنية في مساحة مشتَركة حرّة، يجتمع فيها الفنانون الشباب للتعبير عن رؤيتهم وبناء حوار فني واجتماعي متفاعل وبديل لثقافة "مواقع التواصل الاجتماعي" التي أصبحت تمثّل نزوحًا عن الواقع. 

تُمثّل تجربة "في صوت" لمرسم 301 في بيت لحم، نهجًا فلسفيًا واجتماعيًّا لإعادة تحليل الواقع وفَهمه بعمق أكبر بعد الشعور بالوحدة والتهشّم الذي يعانيه الفلسطينيين.

قد تبدو هذه المجموعة صغيرة، لكنها سرعان ما تنمو وتبذل كل جهودها بأن تبني نفسها كمجموعة متحرّرة من المؤسسة، والانضباط الذاتي في بنائها وتطويرها والتزاماتها نحو القضايا الإنسانية والوطنية الفلسطينية أولًا.

المكان

مَخزن تجاريّ بين مجموعة من المحلات التجاريّة في وسط المدينة (السينما، شارع جمال عبد الناصر)، على يَمين المرسم يقع مقهى كنّاشة الثقافي، وأمامه باعة الخضروات، وعلى يساره محل لبيع النظارات الطبية، ويقابله محل تلفونات وفندق الشَبْرد.

نظام المكان

يفتح المرسم بابه الزجاجي الكبير بشكل شبه يوميّ، على شارع عريض في وسط المدينة، يشبه لحدّ ما شاشة العرض؛ فيمرّ الناس أو يقفون أمام المَرسم بفضول يشاهدون ما يحدث في الداخل، من نقاش، واجتماع، ونقد، وعَرض تجريبيّ. 

انطلقت هذه التجربة ضدّ كل أشكال التقليد الفني، وبغرض الخروج من المرسم الخاص والمغلَق على أصحابه، ليكون مشهدًا مثاليًا في البناء الاجتماعي. ساعدت هذه العلاقة بين الفن والشارع أو بين الفن والحياة اليومية على تعريض الناس لتجربة مختلفة ومثيرة للاهتمام، إن كان من باب الفضول أو حب الفن، مما دفعهم لزيارة المكان والحوار مع الفنانين الشباب.

يتساءل الناس كيف يمكنهم الالتحاق بهذه التجربة؟ وفي الحقيقة لا شروط ولا قيود إلا أن تكون شغوفًا بالعمل، والالتزام بروح الورشة الجماعية التي تعتمد على التجريب والاستكشاف، بلا مقابل مالي.

سياسة مَرسم

يتبنى مرسم 301 سياسة الحرية المطلقة في الالتحاق بالورشة أو تركها، وتجاوز فكرة المعلّم أو المدرّب، من خلال بناء الذات الفنية والشخصيّة بمعزل عن أي مؤثرات خارجية، وأن يصنع هذا المكان ذاته اقتصاديًا وماليًا بما يمكن ترويجه من إنتاجات الفنانين الشباب والتي تعود للمجموعة في تسيير حاجاتها من مواد أو مواصلات أو مشروبات، ونتطلع مستقبلًا إلى قدرتها على توفير دخل ماليّ للفنانين من إبداعاتهم، دون الحاجة لتغيير مهنتهم من أجل كَسب رزقهم.

بداية الفكرة

بدأت الفكرة بدعوة مجموعة من الشباب الموهوبين، الشاعرين بالوحدة والعجز، والذين يعملون بشكل مستقل وغير منتظم، للتجمع والنقاش حول مشاكل الفنّ والحرب والعروض وغيرها، وقد عبّر بعضهم عن حالة الاكتئاب أو المعاناة الشخصية التي يواجهونها، ومن هنا كانت الفكرة أن نُعيد جَمْع الأفراد في مساحة مشتركة تكون فضاءً حرًا للتعبير، والإنتاج والنقاش.

بدأت اللقاءات بورشة مفتوحة لتقنيّة الحَفر والطّباعة على الخشب، مستندين إلى حاجاتهم إلى التعبير ودَور الفن في استعراض الذات الفردية التي هي جزء من المزاج الشعبي، ومن ثم نشر هذه الأعمال في الفضاءات العامة في الشوارع وعلى أبواب المحلات.

استمرت الورشة مدة ثلاثة شهور من العمل المتواصل، والاستكشاف والتفكير والتجريب. في أثناء هذه المرحلة استنفدنا المواد اللازمة للإنتاج، ومن أجل الاستمرار تم تنظيم يوم مفتوح في مخزن الورشة وعرض الأعمال للبيع، واستخدام الموارد في استكمال المشروع. وبعد الانتهاء من المرحلة الأولى تم افتتاح المعرض في 6 أكتوبر 2024 تحت اسم "في صوت"، لينتقل بعد ذلك إلى جاليري السلام في رام الله، باحثين عن فرص أخرى للعروض في مدن أخرى. 

نظام العمل

يعمل الفنانون في المرحلة الثانية من مسار البحث على إنتاج لوحات فنية، تعتمد إلى حدّ كبير على الاستكشاف والتجريب، وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب، نبحث عن طرق وأساليب جديدة في بناء الأعمال دون الاعتماد على الطرق التقليدية للإنتاج، مما دفعه الفنانين لتجريب مواد مختلفة وغير تقليدية للتعبير عن أفكارهم من جهة، واستكشاف المواد وإمكانية تطويعها لأعمال فنية من جهة أخرى، بحيث نعتمد سياسة التجريب والإبداع وتعلّم مهارات جديدة، ستشكل تجربة مُلهمة للعديد مِن الشباب في فلسطين.

في الوقت نفسه، اعتمد مرسم 301 تجربة الحفر والطباعة اليدوية كموضوع أساسي في بناء المجموعات الجديدة، وتم استقطاب مجموعة من الشباب الجدد للالتحاق بهذه التجربة، وانخرط الفنانون الشباب الذي اكتسبوا هذه المهارات في تعليمها المجموعةَ الجديدة، بحيث يكون أسلوب التعليم تفاعليًا جماعيًا دون مدرب تقليدي، ومن خلالها يتم النقاش والحوار والتطوير والنقد لنوع الأعمال وتوجهاتها. 

أثر التجربة

ساهمت هذه التجربة بتحويل المكان إلى مختبر للمعرفة والأفكار وتجريب التقنيات المختلفة، والاطلاع على التجارب قبل الإنجاز وأثناءه وبعده، مما ساهم في تخفيف المسافة بين الإبداع والإنتاج، مع الحفاظ على الأساليب المختلفة لكل فنان شاب عن الآخر، ودفعت التجربة المشاركين للتفكير النقدي حول المادة والموضوع، وكذلك الفن ضمن ظروفه وسياقاته الخاصة بالمكان، واعتبار هذه الحالة مركزية لفهم دور الفن من الناحية الفكرية والتقنية والشخصية، وهذا ما أثبتته التجربة من خلال استقطاب مجموعة متنوّعة من الشباب مِن خلفيات وأعمار مختلفة، من بينهم خريجو الجامعات أو من لا يزالون ملتحقين، أو موهوبين.

تبدو هذه التجربة مُلهمة للعديد من المهتمين، إن كان في مدينة بيت لحم أو خارجها، عبر قدرة هذا المشروع على تجاوز حدود المكان، ومتابعة العديد من المهتمين من مناطق مختلفة لما يحدث الآن، وفي مرّات أخرى محاولة استلهام البعض هذا النشاط وهذه الطاقة، وقدرتها على خلق حالة فنّية وحراك مستمر تحت الظروف كافة.

منذر جوابرة

 فنان تشكيلي، ينحدر من قرية عراق المنشية المهجرة عام ١٩٤٨، من مواليد مخيم العروب ويقيم ويعمل في مدينة بيت لحم، فلسطين. حاصل على شهادة البكالوريوس في الفنون من جامعة النجاح في نابلس (٢٠٠٣) وشهادة الماجستير في الفنون من جامعة دار الكلمة بيت لحم (٢٠٢٤). يستخدم جوابرة وسائط متعددة في اعماله مثل اللوحة، الأداء، التركيب، الرسم، الفيديو. يتبع أساليب متعددة في اعماله تتلخص في البحث الدائم عن تحول الطاقات الكامنة في المادة الحية والزمان والمكان والظروف مثل استكشاف الطاقة الجسدية للتعبير عن الحالة الإنسانية في ظروف قاسية أو مختلفة. يعمل جوابرة على تطوير تقنياته واختيار وسائطه بما يتلاءم مع المفاهيم التي يبحثها. أقام جوابرة 8 معارض فردية، من بينها: (حافّة، جاليري يوروبيا، باريس ٢٠١٩). (علّو، جاليري آلان نادو وفضاء صديقة، تونس، ٢٠١٧). (زمن مكسور، جاليري ون، فلسطين، ٢٠١٦). (ما يُعرف، دار الفنون، المغرب، ٢٠١٥). فلسطين (ما كان يُعرف، عرض متنقل في ٧ مدن، ٢٠١٢). شارك في أكثر من 40 معرض جماعي في فلسطين وحول العالم.

حصل منذر على جائزة بينالي الفن الآسيوي الثامن عشر في بنغلاديش عن عمله بعنوان "علّو". مثّل جوابرة في فيلم "اصطياد أشباح" للمخرج رائد أنضوني، الحائز على العديد من الجوائز، والذي يستعرض تجارب المعتقلين الفلسطينيين الناجين من التعذيب في السجون الإسرائيلية. 

شارك في العديد من الإقامات الفنية بما في ذلك إقامة Cite des Arts في باريس وفي Villa des Arts في المغرب، وفي Sadiqa Artspace  في تونس.

رأيك يهمنا