الحَربُ مِنْ وَرائِنا، الحَربُ مِنْ أمامِنا، الصُمودُ الواعي والبَقاءُ أولَوِيّة
لماذا أعلن قادة إسرائيل في السابع والثامن من تشرين الأول/ اكتوبر قَبل عام أن الحرب "ستدوم سنوات عديدة"، وأنها "ستغيّر وَجه الشرق الأوسط"، وأن "غزة لن تعود كما كانت"؟
لم يكن الأمر تنبؤًا، ولا مُجرّد نوايا أو رغبة من رَغَبات غريزة السياسة الانتقامية المهزوزة، بل كان الحديث عَن خطّة جاهزة منذ زَمن، وتم إخراجها من دُرج مخططات هي أبعدُ مَن أن تكون مخططات نتنياهو أو أقصى اليمين من الليكود وحلفائه، بل هي مخططات الدولة، ولو أرَدنا الدولة العميقة، وما الإجماع القومي الصهيوني حَولها سوى مؤشر على سِعَة الوحدة القومية وعمقها وراء هذا المخطط القائل إن إسرائيل لا تُغيّر سُلوكها واستراتيجياتها وفقًا للتحولات في المنطقة العربية وإقليميًا بل تسعى إلى "تغيير وجه الشرق الأوسط"، وهذا ما يَقع في صُلب فكرة الحرب المفتوحة والمستدامة، وحتى تصبح غزة فيها حدثًا ثانويًا وفقًا للرؤية الإسرائيلية.
في روتين الحرب، وحصريًا حرب الإبادة، قد يبدو الناس أقلّ حساسية لمعاناة شعبهم، أو أن العجز هو سيّد الموقف. فيما مَضى، كان حدثٌ "بسيط" يكفي كَي تقوم المظاهرات والاحتجاجات وتَعُجّ وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. حاليًا، وبعد عام، يُقتل المئات معًا في لحظة ويتمّ تَجويع شَعب حتى الموت، ومنعِه مِن العلاج حتى الموت، وتعطيشه حتى الموت، ويكتفي الناس بمشاهدة التلفزيون وتقاريره ويخشَون من القيام بأي فعل. كان يكفي سابقًا أن يُعلن أسير في سجون الاحتلال إضرابًا مفتوحًا عن الطعام حتى تصدح أصوات الاحتجاج الشعبي في الشوارع، بينما بات التجويع حتى الموت والتعذيب والإذلال والأمراض الجِلدية والداخلية القاتلة هي روتين يوميّ يوازيه روتين غضبٍ وقهرٍ مكبوتَين. لقد سيطر كاتمُ الصوت القسريّ والقاهر على الناس، وذلك بقوة القانون العدواني وبقوة القمع وتحوُّل كلّ مؤسسة في الدولة، أمنيّةً كانت أو مدنية أو قضائية أو أكاديمية، إلى محكمة ميدانية هي المُدعي وهي القاضي وهي المنفِّذ لحكم الانتقام. كان يَكفي أن تجتاح قوات الاحتلال مخيم جنين بضعَ ساعاتٍ حتى نغضب جماهيريًا ونحتَج وتتوافد الحِراكات إلى المخيم للاطلاع على هول الجريمة وإسناد الأهل، لكننا حاليًا اعتدنا ولم يَعُد ما كان يستوقفنا ذا شأن يَشغلنا. كنّا ننشغل جماعيًا في مواجهة الجريمة ومنظومتها وسياسة الجريمة وتفكيك المجتمع، بينما حاليًا بات الصمت هو المجلجل، مقابل انتعاش الجريمة الوظيفية سلطويًا التي طوّرت أدواتها وسطوَتها وسوقَ أسلحتها الذي وسّعته الحرب على شعبنا. مع مرور الوقت، أصبح كَبْت المشاعر حالة من قتل المشاعر الإنسانية الأساسية وفَشَلِ استحقاقات الأخلاقيات في السياسة والفعل الجماهيري.
ليس في هذا بالضرورة لَوم لأحد، ولا أدري إن كان بالإمكان القيام بما هو أكثر، ليس للتعبير عن المشاعر وإنّما من حيث الأثر ولأجل وقف حرب الإبادة. جَعَل هول الحدث مِن أي ردّ فِعل جماهيري يبدو كأنه خارج السياقات، أحد الأسئلة التي تراودني هو: كيفَ ننهض مِن هذا المكان الذي هو ليس سُباتًا وإنما تَسليم ولو مؤقت بحقيقة أن منظومة القَهر قد نالت مِنّا الكثير؟ لقد كَوَت الحرب وَعيَنا نحن الفلسطينيين في مختلف جغرافية البقاء واللجوء القسري، حيث إن المستهدف الأساسي هو ليس مواقِفَنا بل وجودنا وأينَما كان.
عام كامل قد مَرّ ونحن نُفتّش عن أجوبة، وعن المخرج، ومِن أين نبدأ وماذا نسأل؟ ونَتَلمّس إدراك الحالة التي تولّد حالات أكثر خطورة في كلّ حين. قد يتطلب الأمر أن ندرك الواقع الذي لا نَستطيع تغييره راهنًا وأن نَفْهَم إسرائيل ونواياها وماذا تخطّط لنا نحن الشعب الفلسطيني، وضِمْنَ ذلك لَنا حصريًا في الداخل. مِن تجربة السجون، إنّه حينَ يُدرك الأسير كُنْهَ القَهر وغايته تَخفّ حدّته لأن المناعة الداخلية تتعزز، ربما نَحن بحاجة إلى المناعة الداخلية الموجودة حقًّا في هذا الشعب بمختلف جغرافياته في الوطن والشتات. إلا أن هذه المناعة لا تأتي مِن تلقاء نفسها فحسب، بَل تَحتاج إلى فعل سياسي واجتماعي ومجتمع مدنيّ في إسناد مقوّمات الصمود، وكذلك في وَقف الحرب. بأن نفتّش في ساحتِنا عن مَواطِن قوّتنا وهي كثيرة، وساحتُنا هي ليست الهامش الذي تمنّ علينا المنظومة الحاكمة به، بل ساحتُنا هي حيثما نقرّر أن نعمل محلّيًا وفلسطينيًا شاملًا وعربيًا وعالميًا، وفي أيّ مجالات نريد.
حين نحتجّ، حتى ولو في مظاهرات متواضعة، وفي ساحتِنا المحلّية الخلفيّة في هذه البلدة أو تلك، فنحنُ لا نُسهم فعليًّا في وقف الحرب على غزة، بل نُسهم في حماية وَعينا، وهو شأنٌ مُهمّ في ظلّ قَهر يستهدف الوعي والنوايا والأفكار. ثم تَحضُر الأسئلة الكبيرة: هل سيكون بمقدور إسرائيل تصفية قضية فلسطين ووجود شعب فلسطين في وطنه في ظلّ الحرب وذهنية الإبادة والكهانية المتسيّدة؛ وهل إذا توقّفت الحرب ذات يوم بَعيد ستزول هذه الذهنية؛ والأسئلة كثيرة.
في عام مِن الحرب الفتّاكة بشعبنا، عُدت أكثر مِن مرّة إلى رواية النكبة والمرحلة التي تَلَت العام 1948 مباشرة، ومعنى معركة البقاء والصمود، التي كما اعتقد، لم تَخُض جماهيرُ شعبنا معركةً أهمّ منها، لأنها شكّلت الأساس الذي نقوم عليه حتى اليوم بكل الدّور الذي قام به هذا الجزء مِن شعب فلسطين. لكن بالنسبة لشعبنا كلّه فهي نكبة واقتلاع وتهجير وسلبُ وطن. معركة البقاء هي مَعْلم جوهري في مسيرة شعب فلسطين، والتي جاءت مِن قلب التشتيت والاقتلاع وفصل الجغرافية عن الشعب. فعليًا تحوّل شَعبنا المجزّأ إلى مجموعات لا تملك أي منها سيادة على أي جزء من الوطن، كما وتبلور النضال الفلسطيني مِن هذه النقطة القائمة على مبدأ الروافد، بحيث يمدّ كلّ رافد نهرَ العودة والحقّ والتحرر وتقرير المصير. ومِن حينه بات كلّ إنجاز لأي جزء من أجزاء الشعب الفلسطيني هو إنجاز للكلّ الفلسطيني. منذ تلك المرحلة، رَفَد فلسطينيّو الـ 48 معظم الشعب وحركة التحرر الوطني الفلسطيني وثقافة الصمود والبقاء والتحرر والحقّ، بخيرة ما نجحوا في إنتاجه بنضالاتهم. باتت التوقعات مِنهم وباتت توقعاتهم من أنفسهم أنهم مطالبون بالمزيد والمزيد، وهذا ما حصل لغاية الفصل الأكثر كثافة من النكبة الحاصل في غزة منذ عام، وهو ما قد يُفسِّر حالة صدمة العجز، إلا أن الوَعي العام هو أنه مؤقت وقَسري.
ما يستحق التوقف عنده في هذا الصدد هو هبّة إغاثة غزة التي حَصلت في صيف هذا العام، ولن أتوقف عند الإغاثة بحدّ ذاتها، ولا الإخفاقات التي رافقتها، بل سأتوقف عند سلوك الناس، إذ رأت بالإغاثة تعويضًا عن القصور السياسي الإجباري، وعن الإخراس القاهر للصوت والمشاعر والنوايا. وكانت التفاعلات أشبه بفتح سدٍّ مِن المشاعر والإرادة مُستعصٍ على الفَتح. ومِن دلالاتها أن الناس عمومًا حين صمتت لم تفقد المعيار الأخلاقي حتى ولو نالت حرب الإبادة مِنه مؤقتًا، ولم تتخلّ عن معركة البقاء والصمود المتفاعل من أجل ذاتها وهي تفكّر بغزة، وفي هذا أساس يُبنى عليه.
لم تنته الحرب على شعبنا، بينما مآلاتها -بدلًا مِن احتمالات الصحوة إسرائيليًا- هي التوسّع على كامل الجغرافية الفلسطينية في الضفة والقدس والداخل والتوسّع إقليميًّا، وهي أبعد مِن حصرها في حرب نتنياهو وحلفائه فحسب، بل بالإجماع القومي الصهيوني المتحوّر نحو أقصى اليمين والكهانيّة. إنها تُعيد التاريخ الموازي للنكبة فلسطينيًا وتكملته في النكسة عربيًا وإقليميًا.
لم تنته الحرب، والآن تبدأ حربُ التكمِلة وبتأييدٍ شعبي جارف. عندما تتصاعد الحرب في الشمال تصبح غزة ساحةً خلفية ويُراد لها ضمن خطة الحرب أن تموت وحيدة أو بالأحرى تُقتل، وأنظار العالم تتجه إلى المكان الذي تُقرع فيه طبول الحرب والـ إف35.
حقيقة ثابتة في مشهد حرب الإبادة، وهي أنه لا توجَد ترسانةُ حربٍ في العالم، ولا ذهنية تدميرية قادرة على تجاوز قضية فلسطين والحقّ الفلسطيني.