عامٌ عَلى الحَرب على غزة: تِلْكَ الأيامُ الثِّقال
لا يُمكنني الكتابة عن تجربة عامٍ مِن العدوان الإسرائيلي الهمجي الغاشم على قطاع غزة بِكَلمات موجَزة؛ عامٌ من القَهر والظلم، ومجازرُ بشِعةٌ وإبادة جماعية لمدنيين عزّل غالبيتهم من النساء والأطفال. كيف لي أن أكتب عن عامٍ مضى في سُطور قليلةٍ عن حربٍ مسعورة ظالمة اقترفها عدوٌ مُجرم مستخدمًا أعتى الأسلحة المحرّمة دوليًا ضد شعب أعزلَ وعلى مرأى من العالم ودون رادع إنساني أو وازع أخلاقي، يَقْتُلُ ويقصف ويدمّر الحَجَر والشّجر؟
عام مضى.. أيامٌ ثِقال لا نَحتَسبها مَن أعمارنا ولا نعرف كيف مرّت علينا، كانت الأصعب والأقسى، عِشناها وكأنها عالَمٌ مجهول لا نعَلم فيه مَصيرنا ولا ما ينتظرنا. سماءٌ ملبّدة بالطيران الحربي وقذائفَ وصواريخَ تَسقط في كلّ مكان؛ بيوتٌ تُقصف على رؤوس ساكنيها وأُسر تُمحى من السِجلات المدنيّة، أطفالٌ ونساء وشيخ وشباب ورجال جميعُهم مستهدفون لا يُفرّق بينهم عدوٌ غاشم، لا ذَنْب لهم إلا كونَهم فلسطينيين ومن أهل غزة.
*****
لكلّ أسرةٍ حكاية.. آلاف من القصص والحكايات تَسمعها مِن وراء كلّ باب، وسَتائر كلّ خيمة في قطاع غزة؛ يجمُعها الحَدَث، وتتشابَه، وإن كانَت في كلّ قصةٍ مأساةٌ قد تختلف بأحداثِها تختلف وأسماء أبطالها وَكَمّها وعُنوانها، هناك العديدُ مِن الأحداث لَم نَسمعها أو نُشاهدها وعَجِزت الكاميرات عن الوصول إليها لأسباب منها: تقطع الأوصال بين شمال قطاع غزة ووسطه وجنوبه، والهَجمةُ الهمجيّة الشرسة، وضَخامة الإجرام الذي لم يَشهده تاريخ.
*****
طوابير.. أنظر من أمام بيتي -قبل أن يدمّرُه العدوّ الغاشم- حيث كان مَمرًا لطوابير مِن السيارات والشاحنات والعربات والتكاتك وعربات الجرّ التي تَحمل عائلاتٍ لا تَعلم اتجاهها، وما هو مصيرها، ولا إلى أينَ هي ذاهِبة، ينزحون مِن الشمال إلى الجنوب دون أن يكون لهُم الحقّ في السؤال إلى أين نحن ذاهبون؟ لا يملكون شيئًا سوى ما يرتدون من ملابِس تستر عورتهم، تَركوا كلّ شيء وَراءَهم: أموال وبيوت وعمارات وفيلّات ومتاجر ومصانع، وأحيانًا أبناءٌ عنهم تائهون، أو شهداء لَم يُدفنوا. مَضوا إلى المجهول؛ إلى محافظات الجنوب كما طُلب منهم أو كَما وَجّهوهم بالانتقال إليها، وأنّها مناطق آمنة كما يدّعون ويكذبون... فـ "لا مكانَ آمن في قطاع غزة".
فَتَح أهلُ الجنوب بيوتهم وقلوبهم وعَظُمت بينهم المُساندة المجتمعيّة والوحدة الوطنية، ومَدّوا النازحين بما استطاعوا من مساعداتٍ وملابسَ وأدوات منزليّة وطعام عَلّها أيامٌ ويَعودون إلى بيوتهم.
وَكَأنّه حُلم!!!
*****
امتلأت البيوت ولم يَعُد فيها مُتّسِع لما يزيد على المليون نازحٍ في محافظة رفح؛ فإلى أَينِ هُم ذاهبون؟؟ امتلأت مراكزُ الإيواء في المدارس والجمعيات الخيرية والأماكن العامة ولَيس فيها مكانٌ فارغ، فيما النزوح في ازدياد. وفجأةً تعودُ بنا دائرة السنين إلى هجرة عام 1948، لم يَعُد أمام النازحين سوى مساحات من الأراضي ذات الرمال، ليلجأوا إليها عائدين إلى حياة الخيام التي لا تَحميهم من حَرّ الصيف ولا بَرد الشتاء، شتاءٌ شديد البرودة والأمطار تتساقط على رؤوسهم مِن خيمٍ قماشية بالية، وصيفٌ شديد الحرارة حيثُ حياة الجحيم التي يعيشونها مع انعدام مقوّمات الحياة داخل الخيمة وخارجها ونقص يشملُ كلّ شيء حتى المياه.
*****
لَن أنسى.. الكمّ الهائل من الرسائل والمكالمات وأحيانًا الزيارات ومناشَدات تطالبُني بتوفير بيوتٍ للإيجار وفَرشات وحرامات ومُستلزمات ضرورية لأسَر نَزحت دون أن تتمكن من حَمل أبسطِ احتياجاتها، وعاشَت في العراء حتى تتمكن من توفير بَعضٍ من الفرشات والأغطية لأطفالها أو تجهيز خيام هشّة تصنع من القماش لتَستُرهم وتعزِلهم عن الشارع، لم تكُن إمكانياتي المتواضعة تتيحُ توفيرَ جميع الطلبات، ولكن استَطَعنا بِكَرَم الآخرين والعلاقات والمؤسسات توفير العديد من الطلبات.
*****
مأساةٌ حقيقية. يموت الناس ببطء بَعد أن نجوا من الموت قصفًا لمنازلهم وبيوتهم، والوضع الإنساني أكثر خطورة، لا ماءِ ولا كهرباء ولا غذاء، وأسعارٌ جنونيّة في كلّ شيء حتى الفواكه والخضروات، لا خدمات بنكيّة ولا أموال نقدّية، لا يدخل عبر المعابر إلا القليل القليل من المساعدات لتحجيم عمل المؤسسات الإغاثية.
*****
الاجتياحُ المَحدود!
ما يزيد على مليون ونصف مواطن أصبَحَ تِعداد محافظة رفح خاصةً بعد النزوح من المحافظة الوسطى ومحافظة خان يونس المجاورة بَعد اجتياحها وتهجير أهلها، البيوت والشّوارع مكتظةٌ بالنازحين، وَمَعَ ذلك تتالى تهديدات يوميّة بالاجتياح على مَسمع العالم رغم التحذيرات الدولية والغربية من تداعيات اجتياح رفح التي لطالَما ادّعوا أنها مكانٌ آمن، حتى تضخّمت وأصبحت أكبرَ من قُدرتها على الاستيعاب.
لم يتغيّر شيء ولم تُسمع أصواتُ المنادين من الدول والمؤسسات الدولية بأن اجتياح رفح شيءٌ خطير لعدم وجود مكان آمن لاستيعاب قاطنيها، ورغم ذلك أُجبر الناس على النزوح قسرًا من رفح بعد التهديدات واجتياح الشريطَ الحدودي ومَعبر رفح.
نَزَحنا.. تَركنا بيوتنا وأثاثنا وأمتعتنا وكلّ ما نَملك على أمل العودة، وكما يقولون "اجتياح محدود" ولا حُدودَ لأفعالهم التدميرية أعداء الحياة والإنسانية، دمّروا البيوت والمدارس والمساجد والمرافق العامة حتى آبار المياه التي تُغذي المحافظة، ورغم مرور خمسة أشهر على اجتياح رفح لا يزالون يُدمّرون، وأهالي رفح -على أمل العودة- يَنتظرون.
الصورة: للمصوّر-الصحفي المقيم في غزة مجدي فتحي.
ليلى المدلل
صحافية، ومديرة مؤسسة ملتقى إعلاميات الجنوب في رفح.