وفي آذار يخَضر المدى ويزهر الإبداع
ما أفضل للأُم أن يبقى ابنها بالقرب منها في نفس البلاد أو نفس الحارة يزورها ويعتني بها، يرتشف القهوة معها كل صباح، ويرافقها للطبيب والترتيبات أم أن يخلدها في قصيدة وأغنية؟ أن يكون ابنا يعيش في قارة أخرى بعيدا، تنتظره سنوات من الحنين ليعود، لكنه لا يتمكن من العودة.
""يا هادي الطير في ظلام الليل تهديلي حبيبي وتنيموا طول الليل، يا هادي الطير ياللي عليك اعتمادي، ياللي تجيب النوم لعيون الاولاد… اصبحت يما انا في بلاد وأصبح احبابي في بلاد، وأصبح قلبي على الفُرقَة حطب وَقاد … يا كاتبين المكاتيب يا كاتبين الاوراق احنا افترقنا وسبحان المجمِع عاد"".
هي الأم الأُمِيَّة التي لا تقرأ ولا تكتب، هي البليغة في العتابا والمواويل الشعبية، يجيبها كاتب الأوراق والمكاتيب ابنها بقصيدة تزينت بلحن وأغنية خلدت هذا الحنين، ويهديها في سنين الانتظار عربونا عميقا من محبته لها، ينساب لحنا شجيا مؤثرا على عود مارسيل وبصوته ينزرع اللحن والشعر والأم في كل القلوب: ""ضعيني إذا ما رجعت وقودا بتنور نارك أمي وحبل غسيل على سطح دارك. لأني فقدت الوقوف بدون صلاة نهارك. هرمت فردي نجوم الطفولة حتى أرافق صغار العصافير درب الرجوع لعش انتظارك أمي"" نحفظها نرددها نبكي عندما نسمعها نهديها لأمهاتنا نحن إليهن، تنبعث الأغنية من كل موجة بث على وجه الأثير.
هكذا ولدت أغنية ستبقى خالدة لعمقها وبلاغة الشعر والإحساس وخلفية ولادتها، وبعدها ولدت أغان كثيرة من شعر درويش وألحان مارسيل. في مطلع السبعينيات كان لمارسيل الملحن اللبناني فضل كبير على إثراء مكتبة الأغاني الفلسطينية بمجموعة رائعة ترجمت حالتنا كفلسطينين من خلال قصائد درويش، قضيتنا، جمال بيئتنا، الحب، الحياة، النضال، والإصرار، لذلك من الصعب أن نقول إن درويشا اشتهر بالأغنية الفلسطينية وإنما اللبنانية بداية ومن ثم الفلسطينية.
المدخل للموضوع هو أغاني مارسيل لقصائد درويش، ""سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح""، ""أتعلم عيناك أني انتظرت طويلا كما انتظر الصيف طائر؟""، ""كل حقول القمح، كل العيون، كل القبور البيض، كل المناديل التي لوحت كانت معي لكنهم أسقطوها من جواز السفر""، ""وأنا ضعت بريتا سنتين وهي نامت فوق زندي سنتين""، ""أُسميك في السر أرسُمُ في الصمت عينيك، عيناك تاريخ""، ""في البال أغنية نامي لأكتبها وشما على جسدي""، ""تكبر، تكبر نسيمك عنبر وأرضك سكر""، ""يطير الحمام يحط الحمام أنا لحبيبي وحبيبي لنجمته الشاردة""
قصيدة درويش تناديني غنني! كنت أحفظ قصائده عن ظهر قلب ""آه يا جرحي المكابر وطني ليس حقيبة"" قبل أن أحولها لأغنية أغنيها، ""وأنا لست مسافرا إنني العاشق والأرض حبيبة""، قصائده مموسقة، وتفعيلتها مدروسة، تنبض بالموسيقى والمفردات المرهفة على أذن المتلقي، يسهل دخولها للحن والوتر، هو الذي تزخر استعارته ومواضيع قصائده بالموسيقى، تتحدث قصائده إليّ ""كما يتحدث ناي إلى وترٍ خائفٍ بالكمان"".
راودني سؤال هل حقا تُسمع الأغاني الفلسطينية؟ هل هناك اهتمام بالأغنية الفلسطينية غير التراثية؟ هل فعلا يشعر الفنانون والجمعيات المنتجة للسهرات الغنائية بواجب لإنتاجها؟ أم أن خوف التسويق وخوف الجديد غير المألوف يجعلهم يترددون في الإنتاج الجديد لكلمات وألحان وأصوات وعازفين من بلادنا؟ أسهل أن نبيع بطاقات بنجاح لحفل ترديد وإعادة أغاني أم كلثوم أو جوليا بطرس أو حفل حتى لأغاني كاظم الساهر وألحان بليغ حمدي، أو إعادة وإعادة وإعادة التراث؟ وأفكر يا لحظنا أن محمود درويش كتب شعرا جديدا بليغا استثنائيا ولم يعد إصدار دواوين أشعار المتنبي وأشعار الأخطل الصغير وأحمد شوقي! ويا لحظنا أن فيروز والرحابنة أنتجوا أغاني جديدة وكاظم الساهر أنتج أغنيات جديدة.
لماذا الخوف عندنا من دعم وإنتاج المنتوج المحلي الوطني المتمثل بأغنية، بينما كنت أهجس بالمقال والتساؤل عن حال الأغنية وأنا اتناول قهوتي في أحد المقاهي في قرية مجاورة، رافق قهوتي وتفكيري الهادئ"" play list"" المطعم، شعرت بتناقض واضح بين إيقاع الأغنيات الصاخب التي بثها المطعم ب full volume ونفسيتي نحو الكتابة عن الشعر والأم وآذار. البلدة فلسطينية، رواد وأصحاب المطعم فلسطينيون، اللغة عربية، لكن الأغاني أجنبية صاخبة جدا وأحيانا عربية بكلامها لا بلحنها، الأغاني العربية لم يتخللها عزف شرقي ولا نغمة شرقية. الكلام عربي، مصفوف على إيقاع غربي وآلات غربية حادة مع تشويه للصوت الإنساني بتأثيرات إلكترونية، الكلام بدون معنى ولا هدف.
""الغزالة رايقة للناس الحلوة رايقة"" طيب، طيب حلوة ونغشة ومنيحة للرقص، طيب وبعدين؟ كم من الممكن أن تندفع هذه الأغنية من كل حدب وصوب مع مؤثرات Auto tune؟
ياااه ساق الله أيام ""لما قلبي دق تلات دقات العريقة"" وين راحت؟ ""وطبطة"" ساق الله أيامها... ارتشفت قهوتي، أردت الاستمتاع بها، ""أهواك وأتمنى لو أنساك"" تنبعث بعد هروب الغزالة الرايقة، لا، لا تحسبوا أن أهواك أتت بصوت العندليب الأسمر، كلا وإنما بصوت مغن آخر، صوت مُمَوه داخل مكدوس مرصوص محشور داخل طبقة من الإلكترونيات المتشنجة الحادة، حنك المغني رخو إن جاز التعبير وهواه في أهواك فاقد لحرارة الحب ولوعة التمني لو أنساك.
""وأرچع تاني"" لمقالي الذي من أجله خرجت لتغيير جو وتغيير طاقات، تذكرت لقد أحب محمود درويش عبد الحليم كثيرا، لكن الأماكن الترفيهية والمراكز التجارية باتت لا تبث عبد الحليم وإحساسه العالي ولا مارسيل بأغانيه العميقة لكلمات درويش ولا أي أغنية فلسطينية من أغانينا تنبعث من أكثر الاماكن اكتظاظا بالناس. أية غربة نعيشها في الوطن.
كيف ستحيا الأغنية الفلسطينية وما الذي يجب أن نفعله كي تنتشر وتتعزز أكثر؟ ونحن نحتفل في يوم ميلاد الشاعر وآذار الأرض والمرأة والأُم، يزداد الحنين للدفء، ولخبزها، ولقهوتها، ولأصالتها، ولانتمائها، الحنين لأغنية تلمسنا ك""لمسة أمي""، كأننا كمجتمع هرِمنا نحتاج أغنية كالأُم ترد نجوم الطفولة والأمل والحلم، الحنين للأغنية العميقة التي تشبهنا يزداد، البحث عن الأغنية كبحث عن بيت آمن وسط الضجيج المحيط، ووسط العنف والدمار، ووسط العلاقات المتفككة والخوف من الآتي.
ليس كل جديد هو دليل على تقدم وليس كل جديد سيئا وليس كل ""تريند"" وصرعة متسرعة دليل تقدم ومواكبة للعصر وانعكاسا لرغبات البشر، فالأغاني والفنون متحيزة للجمال ولإحداث هدوء في الصخب وصخب في الركود... فالأرض حبلى وشعبنا ولاد وخلود الأغاني من عمق صيرورة ولادتها وفي آذار يخضر المدى ومعه الإلهام للإبداع.