أن تكتبَ عن محمود درويش، فهذا اجتراءٌ على سيّدِ الكتابة، وفارسِ القول، وسليل البلاغة ...وأن نكتبَ عنه بلغة الغياب، فهذا ولوجٌ لفضاءٍ محذور، كان هو ذاته قد حرِصَ على أن يسدّه في وجوه الطامحين للغته، حين سبقهم في استحضار الغياب، وكأنه لم يكن مطمئناً لما سيقوله الرواة في محافل الكلام، فآثر أن يصوغه رؤيا واستشرافاً لزمنٍ آتٍ كان قد سيّجه ببلاغة العبارة وصنوج الإيقاع:

تُنْسى، كأنّكَ لم تكُن تُنسى كمصرعِ طائرٍ..

ككنيسةٍ مهجورةٍ.. تُنسى كحُبٍ عابرٍ

وكوردةٍ في الليل.. تُنسى..

لا تعتذر..:71

يُدركُ درويش قطعاً مدى تأثيره في حياة الناس، ومقدارَ وَقْعِ كلماته على الآخرين..غير أنه يخاطُبُ ذاته التي طالما ألحّتْ عليه بأنه كغيره ماضٍ إلى كونٍ آخرَ، وأن مقامه على هذه الأرض عابرٌ، وأن رمالَ النسيان سُرعان ما تحثو على كلماته أكداساً من التراب..تعاوده هذه الذات المِلحاح لفرطِ حساسيتها من ""الرحيل"" وهو الذي رثى نفسه مرّاتٍ ومرّات فِعلَ مالك بن الرّيب حين أسرعت إليه المنية في ""وادي الغضا"" ، غير أن رثاء محمود درويش لنفسه كان على امتداد عقود والحضور المُلحّ للأجل كان يرافقه أياماّ وليالي طويلة لكن ذلك لم يكن بمثابة ""وسواس"" يقطع الطريق عليه، بل حوّله إلى رؤيا روحية تحمِلهَ إلى مدارجِ فلسفة الأنا الجمعية التي تراود الزمن وتحِلُّ في الأشياء، وتنسكبُ في حيواتٍ جديدة، تؤمّن له الامتداد والاستمرار عبر تَتابعِ الرؤى وفرادة الكلمات، وانفتاحِ المعنى على آفاقه...

جاء محمود درويش في زمن انبعاث"" الرواية العربية"" ونكوصِ القصيدة أو انثنائها باحثةً عن أفق جديد في زمن التردد والتجريب، فكان أن تمكّن منذ تلك البدايات التي اشتعلت جذوتها في مطلع الستينيات من القرن العشرين، فردَّ، مع نفرٍ من رفاقه، للشعر العربي اعتباره، وأعاد للقصيدة ""الملقاة على الجمهور وذات الطابع الخطابي""توهجها، بل واشتعالها ضمن ظروف أدب المقاومة، وعقب نكسٍةٍ سياسية وعسكرية باهظة، وكان للمقطوعات الغنائية القصيرة الحافلة بالإيقاع أثرها البالغ على جمهورٍ متعطش لمقومات الأمل، يزيد من توقّد هذه المقطوعات ذلك الواقع المرير الذي يكتنفه، ومحيطٍ عربي يبحث عن ذبالة الأمل في أرضٍ اقتحمها الغزاة، وحوّلوا كل ما فيها إلى ثقافٍةٍ غريبة ،وصاغوا لها حياة مغلوطة ،وأسماء لم تألفها أذن، ولا استمرأها خاطر... في هذا الإطار المحتدم ،جاءت تجربةُ شاعرٍ شاب كان كأنما يسيرُ على وترٍ مشدود من التحدي.. إنه تحدٍ داخليٌ لأنه يدركُ أن طاقة صياغة الرؤية الجديدة لها جدواها، وأن لديه من الآفاق ما يخاطب به الساحات المتعددة؛ بدءاً من ساحة العدو أو لنقل الخصم القريب الماثل أمامه، والذي يسخّر كل الطاقات لتجاوزه.. بل وإلغائه، وساحةٍ أخُرى في محيطه العربي تَعِدُ ولا تفي؛ كسحابة عابرة بلا مطر، فما كان منه إلّا أن اتجه بفكره وخطابه إلى أفقٍ إنسانيٍ عَدّهُ في حينه رحباً رغم كِّلِّ قوى المحاصرة والترهيب.

بين هذه المحاور المتباينة ،والآفاق الصاخبة ،كان على الشاعرِ أن يجدَ طريقه وأن يُحمّلَ الكلمة كُلَّ طاقاتِ الفعل، تحدوه رغبةٌ عارمةٌ في التجاوز ، وإزاحة اللغة المستعادة ، فكان أن سنَّ طريقه وسطَ أسداف ليلِ الاحتلال، وحِرابِ الملاحقةِ ،كانت الكتابة المتوترة واللغة التي تحمل بين طيّاتها بذور التحدي والثورة وسيلته في المواجهة، غير أن ظروف القهر والملاحقة والإقامة الجبرية بل والسجون سرعان ما خلفّت في الحلوق مرارتها، وتركت بصمتها على اللغة ،فلم تعد الأغنية الكسيرة الأسيانة تجدي مع ذاك الواقع المرير، حين أدرك أن "" العصافير تموت في الجليل"" وأن لن تلبث أن "" ..تسقط في آبار الزمن.."" فألحت عليه رغبة الخروج من القفص، إذ لم يعد الأمر مطاقاً لمجرّد العيش، فكيف به إن أراد لصوته الفنّي أن يُفصِح...!

آثر درويش الخروج مؤمّلاً الاحتفاظ بخطابه الذي لا يهادن، وصوته الذي يبحث عن التميز والانعتاق من ربقة المُحتلّ، وقد تزامن ذلك مع ظهور أصواتٍ ناقدة ومستنكرة لهذا ""التراجع"" عن المواجهة، غير أنّه لم ينعم بما كان يتوقع من الهدوء، فقد صادف نمطاً جديداً من التحدّي حين اكتشف حجم التفكك والزيف الاجتماعي في واقع الدولة العربية ،فغدى خروجه من القفص بمثابة موتٍ جديد لا يحملُ البُشرى ،بل عبّر عنه في عنوانٍ قاسٍ "" تلك صورتها ،وهذا انتحاُرُ العاشق ""فتحوّلت مواجهته إلى قصةِ عشقٍ جديدة لما كان مِلء اليدين والفؤاد..، وحين أدرك أن مصرَ المتنبّي التي وعدته أن تُسرجَ له حصانه ،وتمنحه سيفاً لا يُفَلّ غادرها وهو يتمتم"" للنيلِ عاداتٌ ..وقلبي راحلٌ"" ، فيمم شطرَ بندقية المقاومة علَّ رياحها تواتي أشرعته، فانصهر في أتونها ردحاً، وغنّاها معاناةً وإرهاصاً وانكساراتٍ وشهادةً، وكان أن اشتقّ لنفسه مُعجماً فريداً بين مدارسِ الشعرِ في بيروت الثقافة والعطاء، فظلَّ صوته يحمل فرادته ونبوغه وامتدادَ آفاقه الثورية، في سماء وطنٍ عربيٍ تتعاوره الخديعة، وتحفّه المكائد ، فيصرخ من هول الفاجعة "" وحدي.. أقاتلُ عن فضاءٍ ليس لي..!"" وحين كان الاجتياح الهمجي لعاصمة الثقافة وقلعة المقاومة، والصمود البطولي القريب من الانتحار.. كررت الفاجعة وجهها الجديد، فانصرف مع رهطه عن تخوم الوطن في سفينة التيه والانكسار.. وكان عليه أن يبحث عن الأوديسة الفلسطينية في أربعةِ أركان الأرض.

لجأ درويش، مع من لجأوا إلى توأم بيروت في غرب العرب، فكانت تونس العطاء وجارة للقدس رغم بُعدِ الشّقّةِ، ولم تبخلُ الخضراء بنجيعها؛ فكان أن اقتسمت المرارة والطعنات مع من حلوّا بصعيدها، فغنّاها الحادي بصوتٍ لا يقل مرارة عن بيروت التي شهدت ""مديح الظل العالي""، وسكب فيها دمعة الخروج عبر"" حصار لمدائح البحر.."" تركها تتحسس جراحها، وتصبُّ الملحَ على كرامة العرب المستباحة.. ولأنه مُلتحمٌ بالحدث.. ولا يملك إلّا أن "" يرى ما يريد "" فقد وقف على ساحلٍ يمتد دون انقطاع حتّى يبلغ الحلم الشرقي على شاطئ حيفا فآثر أن يُصغي لأغنية في البال فجاءت الأغنية تتردد على اللسان الذي لا يملُّ أن يدعو نفسه بالمُغنّي "" هي أغنية""، ولأنها لم تكن أنشودةَ فرح، ولا أهزوجة انتصار.. فقد آثر أن يكون الجواب"" وردٌ أقلّ "".. ولأن النفس تتوق لبارقة أمل تبزغ من بين الغيوم السوداء فقد كان لانتفاضة الشعب، ووثبة ثورة الحجارة في مواجهة البنادق والمجنزرات صداها العميق في نفس الحادي فكتب قصيدته التي كانت بمثابة الانفجار في وجوه الأعداء الذين لا يرتوون من الدماء"" عابرون في كلامٍ عابر""والتي ترددت أصداؤها في كل مكان، لكن أكبر صدى لها كان في "" الكنيست"" حيث تمت ترجمتها لتوافق هوى نفوسهم بأن شاعرهم! يريد إلقاء اليهود في البحر.. تلك المقولة التي طالما بررت العديد من المجازر..

واتته هنيهة أخرى ليكتب رؤيته عن انتفاضة أهله في نصٍّ ضافٍ محمّلٍ بالدلالات، ويستجيب للنفس ""الأوديسي"" الأثير، حيث الكلمة التي تبني جدار السماء، فكتب مطوّلته ذات اللون الملحمي "" مأساة النرجس وملهاة الفضّة"" وكأنه بذلك يستعيد رباطة جأشه في مواجهة البطش والجريمة بلغة موزونة مصفّاة، إنها انقشاع لغيمة الغضب، واستعادة للغة الذوبان في الذات الجمعية التي تراهن على حركة الطبيعة والانسجام مع الفطرة.

أخيراً حلَّ درويش في عاصمة الأنوار "" باريس""ملتمساً شيئاً من السكون خاصة وأن تراجع صحته كان يثير لديه قلقه الوجودي القديم.. فاستعاد شيئاً مما فاته من المرايا والتفرّس في الذات بعد مسيرته الطويلة في الأبعاد.. فعاد ليكتب ما يريد.. وكيف أنه قد "" ترك الحصان وحيداً"".. ثم استعاد وجه ريتا التي أودعها شبّاك التذاكر ذات رحيل..فالتمس دفء الشتاء في حضور ذاتٍ أمضّه الألم في

استحضارها.. غير أنّ القلب كان قد أنهكته النُجعة، وأتلفته الدّروب.. فعاد إلى وطنٍ لم يزل مغصوباً وأضناه الحصار.. في زمنٍ كثرت فيه التنازلات وأنفضَّ القوم عن المأدبة.

لم يكن درويش مجرّد مُقاتلٍ بالكلمة...بل كان ظاهرة فنية متقدّمة في سِجِلِّ الأدب الإنساني الخالد، فكان له ما أراد من أن يسجّلَ شهادةً بارعة على وضوح السّبُل آن أن يصحَّ العزم، وتسمو إرادة الإنسان على ما يحيط به من خطوب.. إنه مِشعلٌ إنسانيٌ فذّ في زمن ارتداد الحق، وسطوة تغوّل الإنسان.. فكان مزيجاً من هشاشة الحُلمُ وضجيج الفاجعة.. إنه البذرةُ التي تعِدُ السهلَ بالورود...

الصورة: من صفحة ""مؤسسة محمود درويش"" - ""Mahmoud Darwish Foundation""."

د. عبد الكريم سلمان أبو خشان

أستاذ في الأدب العربي في جامعة بيرزيت، يحمل لقب دكتوراه من جامعة السوربون /فرنسا منذ عام 1988 ولديه أبحاث في الأدب والترجمة والأدب المقارن

شاركونا رأيكن.م