محمود درويش وأسئلة القصيدة الفلسطينيّة الراهنة

ليس جديدًا القول بأن القصيدة اليوم غير مطالبة بالإجابة عن جدواها، فمنذ أن احتلّت القصيدة الهامش الأدبيَّ وأعفيَ الشعرُ من وظائفه الكثيرة كالتأريخ والترفيه والتثوير والإعلام، اعتقد كثيرون أن الشعر نال ""حريّتَه"" المطلقة، لكنّ الحقيقة أن دور الشعر كوثيقة جماليّة أصبح أكثر ترسيخًا وأكثر تركيبًا، وأصبحت إشكالية تعريفِه شغلاً شاغلًا لبعضِ من يؤمنُ -ما زال- بالتعريفات والأدوار المحدّدة للأجناس الأدبيّة. وأقول ""احتلت"" القصيدةُ الهامشَ، لأنَّ دورَ الهامش أكثرُ حساسيّة من دور المركز، فدور الهامش الأدبيّ هو الشدُّ الدائمُ وزعزعةُ اليقينيّ والمثبت والحثُّ على الكشف والمساءلة والتجديد.

في ظلّ ما يعيشه النصّ الشعريّ العربيّ والفلسطينيّ اليوم تأتي خصوصيّة كتابات محمود درويش خصوصًا في المرحلة الثالثة منها، فقارئ درويش يلعب مع شاعر بدأ ""محليًا"" محمّلًا بأدوار كثيرة، وأصبح لاعبًا عالميًا دون أن يسقط في أوحال العولمة؛ فهو ""لاعب نرد""، المغامرة بوصلته، ويعرف كيف يخسر كي تربح القصيدة. لا نبالغ حين القول إن درويش واحد من الشعراء الذين أسّسوا مدرسة شعريّة تأثّر بها شعراء عاصروه وشعراء جاءوا بعده؛ حتّى بات هذا التأثّر يُعرف بـ""متلازمة درويش""، وبات «أثر الفراشة» أثرًا مائزًا في المشروع الشعريّ والفكريّ الفلسطينيّ.

لا بدّ لقارئ درويش على امتداد أكثر من نصف قرن أن يرى تحوّلات مشروعه الشعريّ في عدّة محاور، كما يمكن رؤية ثباته في محاور أخرى. لكنّ اللافت أنّ درويش كان شديد الحساسيّة لتلك التحوّلات وعبّر عنها شعرًا، وفتح مختبره الشعريّ للقرّاء عبر الميتا-شعريّة (meta-poetry) التي تدور في عدد لافت من القصائد حول تقويمه لمشروعه الشعريّ، خصوصًا في فترات حاسمة كما في قصيدة ""آن للشاعر أن يقتل نفسه"" (1983). فدرويش من الشعراء الأكثر حساسيّة إزاء قرّائهم واختلافهم، رغم إخلاصه لمشروعه الجماليّ؛ وبموازاة حفاظه على انتشاره الجماهيريّ، سعى إلى توسيع الحيّز النخبويّ من القرّاء المضمرين، أو بكلمات درويش نفسه:

علاقتي بقرّائي مثيرة، [...] تعلّمت مع التجربة أنّني أستطيع أخذ قرّائي معي إذا وثقوا بي، أستطيع أن أنجز حداثتي إذا كنت صادقـًا لأنّه عندما أكون صادقًا سيتبعني قرّائي. ومن هو القارئ؟ فكلّ يوم أخسر قارئـًا قديمـًا وأضمّ قارئـًا جديدًا [...] الكاميرا هي الشاهد ودور الشاعر اليوم في كتابة ما لا يُرى"".

قد نختلف مع درويش في مواقف معينة، لكنّ وعي درويش كان حاضرًا في انتقاء قصيدته، في التوقيت والشكل والخطاب، فصوته الفلسطينيّ العاري من الاستعارات والأقنعة كان مجلجلًا في ""عابرون في كلام عابر"" التي شغلت أروقة الكنيست الإسرائيليّ في سنوات الثمانين، وعلى الرغم من لهيب المجازر التي ارتُكبت بحقّ الفلسطينيّين، أثبت عبرها درويش أنّ الثقافة العبريّة ما زالت رهينة المؤسّسة الكولونياليّة، وأنّها غير قادرة على الإصغاء للصوت الفلسطينيّ الأدبيّ المحتجّ بشكله الصريح دون استعارات جماليّة، وهو ذاته صوت درويش الذي جاء مقنّعًا في ديوان أحد عشر كوكبًا (1992) ليقول رفضه لأوسلو رفضًا مشبوكا تاريخيًّا بخسارات موجعة وممتدّة.

درويش الذي استطاع أن يكتب سيرته الذاتيّة شعرًا عبر أكثر من قصيدة على امتداد تجربته، هو ذاته درويش الذي كان يعي فلسفة التوتّر بين الخبرة الشخصيّة وبين المتن العامّ، ولكنّه اختار أن يعبّر عن هذا التوتّر شعرًا، لتصبح القصيدة معادلة لمشاكسة الأيقونة وكسرها في الوقت عينه:

ولم يتساءلوا عمّا يحدث للمُسمّى عندما

يقسو عليه الاسم، أو يُملي عليه

كلامَه فيصير تابعه ... فأين أنا؟ وأين حكايتي الصغرى وأوجاعي الصغيرة؟

[..]

ويحملق الطلاب في اسمي غير مكترثين بي، وأنا أمرّ كأنّني شخص فضوليّ. وينظر قارئ في اسمي، فيبدي رأيه فيه: أُحبّ مسيحَهُ الحافي، وأمّا شعره الذاتيّ في وصف الضباب، فلا!

ويسألني:

لماذا كنت ترمقني بطرف ساخر. فأقول:

كنت أحاور اسمي: هل أنا صفةٌ؟

فيسألني: وما شأني أنا؟

أمّا أنا، فأقول لاسمي: أعطني

ما ضاع من حرّيّتي!

واليوم، السؤال الأكثر إلحاحًا ما شكل وما خطاب الشعر الفلسطينيّ الذي يمكنه أن يؤثّث المشهد الفكريّ في ظلِّ الإقصاءِ الذي نعيشُ فيه على أكثر من صعيد. وما هي مهمّة الشاعر الفلسطينيّ إزاء صوت الجماعة الفلسطينيّة الذي يعيش مرحلة استعارية من التفتّتِ بين الشعارات البائدة والخلاصات الفرديّة وفجاجة البرغماتيّة؟ أم أنّ الشعرَ، منذ كانَ، كانَ سؤال الكلمة في الخبرة الوجوديّة وملازمة الحاضر بالبصر، وإذا كان كلُّ شعراء العالم اليومَ يكتبون ""الشعر الصافي"" فهل يستطيعُ الشاعر الفلسطينيّ بالذات أن يفعل ذلك دون أن يفتحَ شباكَه على الشارع المحاذي، ويرى الدمَ في الشارع الفلسطينيّ والدمشقيّ والعراقيّ واليمنيّ والشوارعِ الأخرى المتزايدة. أيستطيعُ الشاعر الذي ""حرّرَ نفَسَه بـ/ من الاستعاراتِ"" أن يغلقَ النافذة وحسب؟ وحين يفتحُ النافذةَ هل سيكتفي بإطلالة نحو الذات، أم سيعود للتوثيق والسرد، أم بإمكانه حقًّا أن يصبحَ صوتًا جماليًّا ضدَ لغة الإبادة بخطابٍ مخالفٍ (مهما كان نوع اختلافه) ولغة طازجة، وأدوات جديدة يتخفّف فيها ولا يخفّ، ويبلغ ولا يتبالغ، ويجمل ولا يتجمّل ويحفظ ولا يحافظ، ويكسر ولا يتكسّر، ويخترق ولا يحترق. أهو قادرٌ على ذلك؟

الصورة: من صفحة ""مؤسسة محمود درويش"" - ""Mahmoud Darwish Foundation"".

د. عايدة فحماوي - وتد

محاضرة وباحثة في الأدب الفلسطينيّ والحديث

رأيك يهمنا