هكذا تم شطب اللاجئين السوريين ومحوهم من الوعي الإسرائيلي
بعد أكثر من خمسين سنة، يبقى لذكرى الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري مكانة خاصة، كونها تختلف في التفاصيل عن نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948. في تحقيق صحفي تلفزيوني قامت الصحفية الإسرائيلية عيريت غال بالبحث في الأسباب التي جعلت السكان السوريين من أبناء الطائفة الدرزية في الجولان يحافظون على ولائهم لسورية، رغم الكم الهائل من التسهيلات والإغراءات التي قدّمتها "إسرائيل" طوال نصف قرن مضى.
قالت غال في التحقيق: "بين ملايين اللاجئين والنازحين السوريين الهاربين من أرضهم المحترقة على أبواب القارة الأوروبية، هناك لاجئون سوريون بينهم من الجيل الثاني للجوء السوري، الذي حدث قبل أكثر من 50 عامًا مع احتلال إسرائيل للجولان عام 1967. وهم على عكس اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن قصة اللاجئين السوريين تلاشت، وبقيت غير واضحة ومخفية ومغيبة عن الوعي الإسرائيلي، لقد تمّ محوها تمامًا، وذهبت قصصهم المروعة والمخيفة إلى النسيان. الرواية الإسرائيلية التاريخية الرسمية تقول إن السكان السوريين لم يعيشوا في مرتفعات الجولان، وإذا تواجد هناك سكان، فقد هربوا طواعية، لم يجبرهم أحد على الرحيل".
الصحفية الإسرائيلية التي أُرسلت مندوبة عن برنامج "النظرة الثانية في القناة الإسرائيلية الرسمية" لتوثيق قصة سكان الجولان، طُلب منها إعداد تقرير عن أسباب رفضهم قبول واستلام الجنسية الإسرائيلية والاندماج في المنظومة الإسرائيلية، على الرغم من الإغراءات العديدة والكثيرة التي قدّمتها السلطات الإسرائيلية لهم، ورغم تعاملها اللين والسهل مع كل قضاياهم الاجتماعية والدينية والمعيشية. وفوجئت باكتشاف قصة مختلفة تمامًا، لم تكن تعرف عنها شيئًا، إذ اتضح أنه "مع بداية حرب حزيران 1967 كانت هضبة الجولان السورية مليئة بالسكان المدنيين، وأن الدروز الذين يسكنون الجولان اليوم كانوا مجرد أقلية سكانية (2%) ضمن تجمع بشري كبير جدًا بلغ حوالي 100 ألف مواطن سوري، كانوا يعيشون في مرتفعات الجولان حتى الاحتلال الإسرائيلي." ودلك وفقا للأرشيفات الاسرائيلية التي كشف النقاب عنها مؤخرا.
يُنظر إلى مرتفعات الجولان في الوعي الإسرائيلي على أنها مهجورة وخالية من السكان، والأمر الغريب الذي حدث أن رئيس "دائرة الشؤون العربية" في مكتب رئيس الوزراء طالبَ إدارة القناة بمنع بث التحقيق على شاشة التلفزيون، بعد مشاهدة الإعلان التمهيدي والدعائي "البرومو"، بذريعة أن القناة ستتحول إلى أضحوكة أمام الجمهور، مؤكدًا أنه لم يكن هناك مدنيون في الجولان، باستثناء الجيش السوري، ولم يكن هناك تهجير أو تدمير، والدليل أن "الجميع" في "إسرائيل" يعرف ذلك. ولكيلا يحصل سوء فهم، فقد دُعي مؤرخ في شؤون الشرق الأوسط إلى الاستوديو للتعليق على التقرير، وهو لواء سابق في الجيش عمل حاكمًا عسكريًا لبعض المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وكان سفيرًا لإسرائيل في تركيا لاحقًا. وفي أثناء البث، اتصل هذا المؤرخ ببعض زملائه الخبراء، وبدوا جميعًا مصعوقين من مضمون التحقيق الصحفي، وكلهم تساءلوا عن أي سكان مدنيين تتحدثون؟! حين دخلنا الجولان، لم يكن هناك سكان أصلًا.
المؤرخون الإسرائيليون لم يتحققوا من الحقائق، ولكن على العكس قبلوا الرواية الرسمية، وتبنوها كاملة، وهكذا أصبحت الكذبة هي الحقيقة. فقط في العقد الأخير، بدأت الوثائق تظهر على موقع "ذاكرات" وفي صحيفة "هآرتس"، والعديد من المقالات والكتابات المحلية. ويكشف التحقيق، بعد الاستماع إلى شهادات ضباط إسرائيليين سابقين، أنه "عند اندلاع حرب عام 1967؛ عاش في مرتفعات الجولان السورية بين 130 ألف و150 ألف نسمة، توزعوا وفق الخرائط المتوفرة على 275 مدينة وقرية، منها مدينة القنيطرة، التي شكلت ربع عدد السكان". ويضيف التحقيق: "أثناء الإعداد للحرب (الهجوم الإسرائيلي) والانسحاب السريع للجيش السوري، كان حوالي نصف السكان المدنيين قد لجأوا إلى مناطق آمنة للاحتماء من القذائف والصواريخ، وانتظروا الإعلان عن وقف إطلاق النار من أجل العودة إلى منازلهم. ولكن من الناحية العملية، لم يُسمح لأي شخص بالعودة، وأعلن الجيش الإسرائيلي أن كل محاولة للعودة تعدّ تسللًا غير شرعي، سيتم التعامل معه بقوة. وبالفعل تُثبت التقارير العسكرية للجيش أنه "أطلق النار على سكان مدنيين، حاولوا العودة لمنازلهم التي تم احتلالها، وفي أحيان كثيرة تم اعتقالهم ومحاكمتهم بموجب قوانين الأحكام العرفية التي تم فرضها على الهضبة السورية"، بحسب تلك المصادر.
بعد حوالي شهر من الحرب، تم إنشاء أول مستوطنة يهودية "مروم جولان" في الجولان، حيث لم يحتل سكانها الأرضَ فحسب، بل أيضًا عددًا كبيرًا جدًا من الحيوانات والبساتين والحقول، والأواني المنزلية التي سلبوها. وبعد حوالي عامين من الاحتلال، وافقت الحكومة الإسرائيلية على خطة تتضمن ضم مرتفعات الجولان واستعمارها بمستوطنين يهود لدوافع أمنية.
بعد انتهاء الحرب، بقي عشرات الآلاف من الناس في مرتفعات الجولان (نصف سكان الجولان) ولم يغادروا بيوتهم خلال الحرب. لقد جرى ترحيلهم جميعًا بالقوة، تم نقلهم بشاحنات أو مطاردتهم بهدف المغادرة نحو الشرق خلف الحدود الجديدة، ومعظمهم ينتمون إلى المسلمين السنّة، ومن بينهم بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين الفارين من حرب العام 48، والشركس والبدو وغيرهم، باستثناء الدروز الذين سكنوا في شمال الجولان.
من الواضح أن الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية تُخفي كثيرًا من المعطيات والحقائق المذهلة، التي لم نعرف عنها شيئًا من قبل. إن هذه المعطيات ذاتها تشير إلى أن التهجير الصامت، الذي حدث في الجولان عام 1967، لا زال قسم كبير منه محجوبًا بأمر الرقابة العسكرية التي ربما ستسمح في مستقبل الأيام للجمهور بالاطلاع عليها، لكنها حتى اليوم تعدّ الكشف عنها قضية تمس "أمن الدولة".
في تقرير عسكري إسرائيلي صدر في 6 أيلول/ سبتمبر 1967، كُشف عن أجزاء منه بمناسبة الذكرى الخمسين لاحتلال الجولان، تطرق الكاتب إلى عمليات النهب والسرقة التي قام بها جنود وضباط إسرائيليون في الهضبة السورية المحتلة، ووردت فيه المعطيات التالية:
375 عملية نهب تمت من قبل عناصر من أفراد الجيش الإسرائيلي؛
244 عملية نهب في القطاع الشمالي؛
88 عملية نهب في القطاع الأوسط؛
43 عملية نهب في القطاع الجنوبي؛
187 عملية نهب وسرقة قام بها جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي؛
44 عملية نهب قام بها أفراد مجندون في الخدمة الإلزامية في الجش الإسرائيلي؛
13 عملية نهب وسرقة قام بها أفراد من الجيش النظامي الإسرائيلي.
هذه المعطيات تشمل فقط الجنود الذين قُدّموا إلى محاكمات عسكرية إسرائيلية، ولا تشمل المواطنين والجنود والضباط الإسرائيليين الذين قاموا، تحت إشراف ضباط وقادة الجيش الإسرائيلي، بسرقة كل المقتنيات والأملاك التي تركها سكان الجولان الذين هُجروا وطُردوا عنوة من بيوتهم وقراهم وأراضيهم خلال وبعد كارثة حزيران 1967.
التحقيق الإسرائيلي لم يتطرق بأي شكل إلى المجازر والجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق المدنيين السوريين، والتي راح ضحيتها أكثر من 70 مدنيًا سوريًا، في كفر عاقب "الدوكة" قرب بحيرة طبرية، ومجزرة سكوفيا والدردارة "الذيابات" والخشنية والقنيطرة وتل العزيزات، إضافة إلى استشهاد العشرات من رجال المقاومة الشعبية وعناصر الجيش السوري الذي ترك الخطوط الأمامية في الجبهة، بعد إعلان قرار الانسحاب.
بعد خلوّ المدينة من سكانها؛ أصبح كل شيء مختلفًا، المباني التاريخية الجميلة والفريدة تمّ تدميرها وتسويتها بالأرض. تم تدمير المباني السكنية والمراكز التجارية ودور السينما والمستشفيات والمدارس ورياض الأطفال والمقابر والمساجد والكنائس تدميرًا كاملًا، بالقصف الجوي وبإطلاق القذائف عليها، إضافة إلى تفجيرها وهدمها بالبلدوزرات الكبيرة. وشارك في هذه العمليات مواطنون من القرى والكيبوتسات الإسرائيلية القريبة من وادي الأردن والمستوطنات الشمالية. كانت عملية تدمير سريعة وشاملة بشكل لا يصدق، باستثناء عدد قليل من المباني الإسمنتية تُركت للتدريبات العسكرية وعدة قرى سورية أخرى تعدّها "إسرائيل" أثرية.