نساء صغيرات.. لنتوقف عن فعاليّات التوعيّة، ولنبدأ بحملات التغيير

تزوجت فاطمة العتر بعمر 16 عاماً، وابنتها جاءها دور العروس لتلعبه وهي بعمر 14 عاماً، لم يكن الدور زهرّي اللّون، إذ عادت ابنة فاطمة معنّفة أكثر من مرّة تشتكي لأبويها بالدموع عدم قدرتها على تحمّل متطلّبات الزوجّة الرؤوف. الأب أعداها عدّة مرّات لزوجها وبالمناسبة هو ابن عمّها، وابن عمّها يعديها منهارة الكرامة لأبوها قائلاً، ""اذهبي لهم سيعيدونك إليّ كما يفعلون في كلّ مرّة"". في آخر مرّة عندما شكت ابنة فاطمة لأمها، تمزّقت فاطمة ممّا سمعته، وأدركت أنّ هذه لحظة من كلمة واحدة هي ""لا""، ولفظت كلمة المعارضة لأوّل مرّة. ثمن هذه الكلمة في عالم لا خيارات للمرأة فيه غالٍ، فإعلاء النساء لكفّة الرفض يعني بالمقابل التنازل عن كل ما يقدمه المجتمع ليوهمنا أنّ الأمان والسكينة تكمن في القنوع، في التصديق أنه لا خيارات هنالك سوى ما أعدّنا المجتمع لنكونه، ليس هذا فحسب، بل لابّد أن نكون ممتنّات لعطائه ورأفته. دفعت فاطمة الثمن إذ هددها زوجها بأنّها إن وقفت بوجه عودة ابنتها لزوجها ستُطلق هي مع ابنتها، لتغدو امرأة مطلقة ومُفرّطة في سمعة وأمان ابنتها. وتطلّقت فاطمة، لملمت كرامة ابنتها وحمتها من عنف متكرّر كاد يفضي بقتلها.

بعد سنتين قادت مع أخريات تشكيل فريق من نساء تزوجّن مبكراً مثلها وعقدن نيّة النضال لوقف التزويج المبّكر بين عائلات اللاجئين السوريين في منطقة البقاع الأوسط في لبنان. أوقفت الحملة زواج 115 طفلات عام 2021 بحملة تنظيم مجتمعي عنوانُها ""لا تكبرّونا بعدنا صغار"".

هذه هي القصة إذاً، ولكن الجوهر هو بكيف؟ كيف نجحت ""لا تكبرّونا""؟ وماذا تهدي هذه الحملة مؤسسات المجتمع المدني -النسوية تحديداً- من دروسٍ وعبر نحو مزيداً من التغيير الملموس والحقيقي في عالمنا العربي؟

النساء الآن مؤسسة نسويّة تهدف لبناء قيادة النساء وتوعيتهنّ وتطوير قدراتهن القيادية، وكانت فاطمة من إحدى النساء الّلواتي يرتدن على المؤسسة ويتلقيّن التدريبات والورش. بعد سنوات من العمل شعرت المؤسسة أن الوعي نفسه ليس وصفة تغيير، و لابّد من آليات عمل أخرى تبني على الجهد السابق ولكن تضمن تغيراً ملموساً، بكلمات أخرى لم تكن المؤسسة قادرة على الوقوف مكتوفة الأيدي أمام زغاريد أعراس الطفلاّت، لهذا دعت “أهل"" للتنظيم المجتمعي لتكون شريكة معها وأهل هي مؤسسة متخصصّة في نهج التنظيم المجتمعيّ الذي يُعنى ببناء قدرة أهل القضيّة ومواردهم ليشكلّوا حملات ومشاريع تغيير منظّمة تحقق تغيرات ملموسة في القضايا.

النسوية ليست هالة نتحلى بها كمؤسسات بل هي اختبار حقيقي لقراراتنا وتقييم لمدى التغيير الذي نقوم به في مجتمع أبويّ سلطويّ، ومن هنا قررّت مؤسسة النساء الآن أن تُخصص أحد موظفيها ""أنس تللو"" ليكون منظّم الحملة، وأعطته الضوء الأخضر لتشكيل الحملة ودعمها تبعاً لما تقرره قياديّات الحملة وتبعاّ لمصلحة القضية من غير أي تدخّل من إدارة المؤسسة. وحددّت مؤسسة أهل ""روان الزين"" لتكون ممكنّة لأنس ولحملة مجتمعيّة بقيادة ""أهل القضيّة"" يقودون التغيير في قضيتهم ويحوّلون الوعي لممارسة، ليلمس المجتمع بعرقه وجهده انخفاض نسبة الزواج المبكر فيه.

الخطوة التالية كانت تشكيل الفريق المؤسس للحملة، وهنا توّجه أنس لفاطمة ليعرض عليها فكرة حملات التنظيم المجتمعي، شعرت فاطمة أنّ هذه فرصتها الثانية لتلعب دوراً أكبر في حماية الطفلات من الزواج، فباشرت بحشد نساء أخريات معها وتشكّل الفريق المؤسس لحملة ""لا تكبرّونا بعدنا صغار""

في السنة الأولى قررت الحملة أن يكون هدفها "" الحصـول علـى توقيـع مـن 500 أسـرة فـي مجـدل عنجـر وشـتورة في البقاع الأوسط على تتعهـّد بعـدم تزويج أطفالهم قبـل سـن 18 "" ومن هنا نتعلّم درساً في كيف يكون أهل القضية فعّالين في القيادة لأجل التغيير وليس متلقيين للتوعية على أمل التغيير. شكّلت الحملة7 فرق قيادية من 42 شخص من أهل القضيّة لتحقق الهدف، تجتمع هذه الفرق بشكل دوري وثابت، يسائل أعضاؤها بعضهم البعض ولا يرضون بنصف التزام، يتوجهّون للبيوت والخيم حاملين قصصهم الشخصية مع الزواج، محاولين خوض حوار حقيقي مع أهل البيت ليقنعوهم بعدم تزويج أطفالهم قبل سن 18 عاماً. ليس هذا فحسب، دعوا الموقعّين على عهد عدم التزويج أن يعلّقوا صورة عليها شعار الحملة أمام مدخل البيت والخيم ليعرف الجيران والعائلة والزوار أّن هذه العائلة لا تزّوج أطفالها. إذاً نقلوا الناس من موقف شخصي لموقف علنيّ، وهذا بحد ذاته قوّة مجتمعية، بحيث لا ترى العائلة نفسها وحيدة في موجة رفض التزويج المبكر، ويضحي رفض التزويج عادة جديدة منتشرة في مجتمع يرقص في أعراسٍ يومية أبطالها أطفالاً.

في السنة الثانية وبعد نجاح الحملة الأوّل بتحقيق هدفها وتطور القدرات القيادية لدى أعضائها قررت الحملة إطلاق هدفها الثاني، وقرار الحملة نحو الهدف هو بحد ذاته تطّور. قادت الحملة رحلة استماع للإنصات لرأي العائلات في المنطقتين، والرحلة منحتهم الأفق، ""لا يكفي أن نعمل على أخذ تعهّد الناس بعدم التزويج، يجب أن نتأكّد من أنّهم لن يزوّجوا أطفالهم. وبجلسة تيسير استراتيجي مع ممكنة الحملة حددت الحملة هدفها الثاني ""منع أو وقف 55 عرس أو خطبة لطفلات"".

لم تنتقل الحملة سريعاً من الهدف لفعاليات ذكيّة، وإنمّا حللّت نقاط القوة والضعف التي تحيط الأهالي الذين يزوجون بناتهم، ومن هذا التحليل خرجت الحملة بفرضيات عمل استراتيجية، وهي التركيز على قناعة الآباء أساسا لوقف التزويج، واعلان شيوخ أو رجال الدين الذين يعقدون القران موقفهم الرافض علناً.

ومن هذه الفرضيات نبعت فعاليّات وأنشطة الحملة وأهمّها كان ""الآباء الشجعّان"" بحيث قاموا بحشد الآباء المناصرين من المرحلة الأولى للحملة ليقوموا بعقد لقاءات منزليّة مع الآباء في محيطهم الذين لديهم فتيات بعمر الزواج المبكر لإقناعهم بوقف الخطبة، أو تأجيلها لحين اكمال الفتاة تعليمها.

الحملة نجحت، رغم أنّها نظمت كل تكتيكها وعملها في رحم سوء الفرص، فلبنان لتوها تخرج من تفجير مرفأ بيروت وتقبع في أزمة صحيّة اقتصادية وسياسية عالية. ولكنّ أصرّت الحملة أنّ قضيتها ملّحة بنفس مقدار إلحاح الواقع السياسي المحيط، ونجحت، نجحت حملة ""لا تكبرّونا"" ليس بوقف 55 زيجة، تعدّت الهدف وأوقفت 115 زواج لطفلة. 115 طفلة كانت ستزف عروساً، وعوضاً عن ذلك منحتها الحملة فرصة أنّ تكون طفلة ونقطة.

إذاً الوعي لم يكن البوصلة بهذه الحملة، بل التغيير، وبالتالي الوعي أصبح تحصيلاً حاصلاً والتغيير أصبح الواقع.

اليوم فاطمة سافرت من لبنان لتركيّا، آخرين وأخريات من الفريق القيادي مضطرين لترك الحملة، وهذا طبيعي. المهم أنّ ""لا تكبرونا"" هي حملة تنظيم مجتمعي أي أنّها لا تتعلّق بوجود أشخاص بعينهم، بل بقيادة تشاركية عششت بينهم.

عقدت الحملة انتخابات لاختيار منسقة، والآن تخطو خطواتها الأولى نحو هدفها الثالث بمنسقة جديدة وأعضاء قياديين بعضهم كانوا بالمراحل السابقة من الناس الذين وقعوا على عهد رفض التزويج المبكر، أو أوقفوا تزويج أطفالهم. وهذا بحد ذاته نجاح آخر للحملة بالعادة لا يتم التركيز عليه، فالحملة لم تحقق هدفاً فقط، بل خلقت مجتمعاً تسري القيادة به وتطّور في أفراده، وهنا سرّ الاستمرارية التي للأسف بعالم المجتمع المدني أضحت تتوقف على الموارد المالية الممنوحة وليس على الموارد البشرية الموجودة أصلاً.

في لقاءٍ أجريته مع فاطمة قبل أشهر سألتها سؤالاً بسيطاً أجابته بفيضٍ من فرحٍ ودموع. ""ما هي اللحظة التي أيقنت فيها أنكم نجحتم؟"" أجابت "" عندما كنّا بالمسرح نحتفل بالآباء الشجعّان الذين أوقفوا مراسم زواج طفلاتهم أو أجلّوه، وهم واقفون على المسرح أمام الجميع رأيت بأم عيني أنّ أبي الذي زوّجني وأنا بعمر 16، وزوجي الذي زوّج ابنتي وهي بعمر 14، رأيتهم رجالاً بصورة أخرى، رأيتهم وهم رافضون ومدافعين ضد تزويج طفلاتهم، شهدت أمنيتي أمام عيني"".

إذا اردتم القراءة أكثر عن الحملة أنصحكم بقراءة دراسة حالة مفصلّة عن الحملة كتبتها الباحثة جمان أبو جبارة هنا.

وهنا تتقدّمون للقاء تمكيني لحملتكم أو مشروعكم التغيريّ.

ريم ناهي منّاع

ممكنّة حملات، ومديرة قسم الحملات في مؤسسة أهل للتنظيم المجتمعي الأردن- فلسطين

رأيك يهمنا