أفراح وليالٍ ملاح.. طقوس تبذير من وحي المسلسلات والشبكات الاجتماعية!

الزواج هو ارتباط روحي بين شخصين تحابا فاجتمعا على المودّة والرحمة والسكينة بينهما والزواج آية من آيات الله في الكون لقوله تعالى:

""وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ""

وحفل الزفاف هو احتفال واعلان لهذه العلاقة السامية الجميلة.

جميلةٌ في مجتمعنا عادات التقارب واكرام الضيف واحترام من نصاهرهم والقيام بواجبهم

و الحناء المتواضع والغناء الشعبي وطلعة العروس وتوديعها مع احترام وليّها وطلب إذنه بانتقالها لبيت الزوجيه.

وأيضا عادة إهداء العرسان مبلغ رمزي تعبيراً عن الفرح والسرور، وتقديراً للعروسين يساعدهم في بدء حياتهم المستقلة, وبناء عش الزوجية الذي سيحوي أبناءهم المستقبليين وهو مسلك جميل يحمل معاني التكافل والتراحم.

فالزواج والإنجاب والعمل وعمارة الأرض والحب والنسيان هي من الفِطرالتي فطرالله عليها الناس .

ولكن المغالاة في الطقوس والتبذيرغير المحدود اللذان تشهدهما معظم طقوس الزفاف هذه الأيام، توقع الشباب المقبلين على الزواج في مصيدة التكاليف الباهظة والديون المتراكمة.

حيث يبدو أن مظاهر الأعراس في مجتمعنا في الآونة الأخيرة قريبة مما كنا نقرأ عنه في روايات سندريلا وبياض الثلج وغيرها من قصص وأساطير الأطفال، ممزوجة بتقاليدنا الفلسطينية والعربية، مع لمسات مبالغ فيها مما يُعرَض لنا في الأفلام والمسلسلات العالمية والأجنبية.

غالبية من أطرَح أمامه موضوع التكاليف الباهظة والإلتزامات المترتبة والديون المتكتِّلة - يشكو وينتقد.

ومع ذلك، حين يصل الأمر أهل بيته وعائلته، تراه يساير ويقارن ويحاكي ما يفعله الاخرون.

لا بل ويبحث عن مفهوم جديد وعرض لم يسبق لأحد من قبله ان قام به ليتميز ويظهر أمام ضيوفه بأبهى مظهر.

لو كانت مظاهر الاعراس والليالي الملاح والزيادة فيها تضمن السعادة الابديّة، لشجّعنا جميعًا على المبالغة فيها دون تردّد، أمّا حين يتزايد معدل الانفصال ويتضاعف في ال10 سنوات الأخيرة في مجتمعنا فهذا يوجب علينا كمجتمع وأهل التوقف والتفكير بشكل جدي.

والادهى والأمرّ هو حين يكون ذلك الانفصال والانفساخ ساهمت فيه بشكل كبيرالضغوطات الناتجة عن الوضع المادي والتوقعات المبالغ فيها والبعيدة عن الواقعية من العلاقة وشكل الحياة الزوجية المشتركة.

فيبدو أن البعض يتوقع أن تستمر الرواية الخيالية وتجسد مقولة: ""وعاشوا في سعادة أبديّة"" الاسطورية. وكأن الواقع قد يحاكي الرواية الخيالية الخالية من الضغوط والمسؤولية الشخصية، والالتزامات، والتغييرات الحياتية، والنضج.

اذَا، ما تكلفة هذه المظاهر؟

إن إعلان الزواج لم يعد يقتصر على حفلة العرس والحناء , بل هو يشمل احتفالات وطقوس اضافية مثل:

سهرة اضافية للحناء في البيت

سهرة اخرى في قاعة

الليالي

حفلات توديع العزوبية التي اصبحت احد الطقوس التي لا يمكن التنازل عنه

أضف الى ذلك عند البعض رحلة البحث عن بدلات الفرح في خارج البلاد مع العائلة وغيرهم ممن قد يكون لهم رأي وتأثير ومعرفة بما لم يسبق ان عرض في المنطقة . وقد يضم امور اخرى غفلت عن ذكرها

في هذه الطقوس يكرم الضيوف ليس فقط بوجبة العشاء لا بل وايضا يحظون بالتواجد في ساحة بيت تحول الى قاعة بُنيت وصُمِّمت وزُيّنت بأبهى واثمن المعدات وتناسب التصوير والعرض على شبكات التواصل الاجتماعي لتتبارى مع ما يعرضه المشاهير والمؤثرين على هذه الشبكات. فتستقبلك زاوية البالونات والورود مع صورة العروسين واغراض تجميلية تتناسق معًا بألوان زاهية, وزاوية تصويرمتقنة الصنع ومضاءة باحترافية, ثم تتقدم الى ساحة وُزِّعت فيها الكراسي والطاولات بتصميم ملكي , وبرزت عليها الأواني وأدوات الطعام المصممة والمرتبة بشكل مستقيم وانسيابية تليق بمستوى افخم المطاعم والفنادق ولا بد وان تلاحظ ان القائمين على الاحتفال اهتموا بأدق التفاصيل خصيصا لهذه الليلة .وتكون كل الاحتفالات والطقوس بمثل هذا المستوى من الفخامة وهي تشمل، لا بل وتضاف إليه احيانًا ويخيل اليك ان كل منظم يريد أن يثبت أن بمقدوره احياء حفل بشكل لم يخطر على قلب بشر ولم ترى الأعين.فتصميمه يفوق التوقعات ويتميز بجدارة عما قدم الاخرين متناسيا كل التكاليف الاجتماعية والنفسية والمالية لهذا الاسراف والترف بدون رصيد.

لو افترضنا مجرد افتراض، على سبيل المبالغة، أن الحياة الزوجية المستقرة الخالية من الديون، هي أحد الأهداف المهمة التي يسعى إليها المقبلين على الزواج ,فهم يبتعدون سنوات ضوئية عن هذا الهدف بمبالغتهم في التميزوالاسراف. وأقولها بتهكم لأن الموازين والواقع بالحقيقة يثبت أن هؤلاء الشباب في الحقيقة يغضون النظر عن هذا الهدف قبل وبعد الزواج ويقعون في مطب حب التفاخر بإقامة حفلات باذخة التكاليف تتعدى قدرتهم وقدرة ابائهم المالية وتقلل من امكانيات تأهيلهم المالي لسنوات عديدة.

فقد يتوقع البعض ان يسدد هذه الالتزامات من المبالغ المهداة للعرسان باسم ""نقوط العريس\العروس"" ويتناسى ان الغرض من الإهداء كان مساعدة العائلة الجديدة في بدء حياة مستقبلية بتوازن مالي, ويهدرهذه الهدية ويستدين لحفلة تستمر بضع ساعات وينسى عمرا بأكمله قد يقضيه غارقًا في دوامة الديون فلا فستان العروس ولا التسريحة ولا الديكور ولا ملابس المدعوين التي تلبس لبضع ساعات ثم تُلقى الى الأبد تعين على المودة والتقارب. ولا الطعام المهدور والمبالغ فيه يساعد او يساند في متانة العلاقة بين العائلتين المتصاهرتين، بل التسامح والتفاهم ومراعاة الظروف والقدرات، مادية كانت او غيرها.

ثم إننا لا يمكن ان ننسى ان هذه الهدية المالية لم تعد رمزية ومخفاة، بل تُزَيَّن بالورود والسلاسل وتُقَدَّم بمفاخرة بين الاقارب والمعارف وتعرض امام الجميع. غيرانها لا يمكن ان تُعَدّ هدية بالفعل- بل دَين مسجل مرتبط بغلاء الأسعار والفائدة.

وهذا ""النقوط"" يظهر بمظهره السلبي الذي يحمل معنى الديّن ويضيف لظاهرة العتاب الإجتماعي فهو في البداية يساعد العريس في تغطية نفقاته (او جزء منها لكثرتها) ولكنه يلزمه باعادتها مضاعفة ومن ناحية اخرى قد يخشى باقي الضيوف من التعرض للانتقاد او الظهور بمستوى مادي ثم اجتماعي منخفض فيقدمون ما هو فوق استطاعتهم.

وتلبيسة العروس من الذهب والألماس التي عرضت على مرأى من كل الحاضرين وخصصت لها لتكون ذخرها. تباع بانتهاء بضعة اشهر من الاحتفال لصعوبة الظروف ولاستحالة التقدم بدون ذلك. هذا ان لم تكن استعيرت واعيدت مع اضافات وتكلفة استئجار بمرور ايام من العرس.

ومع تطور القيم الاجتماعية وتعقيدات الحياة تضاف هذه الى السلاسل والاغلال التي تصعب التواصل الاجتماعي وتغلق الجسور بين القلوب.

ولو تأملنا قليلاً في حياة شخص واحد دُعيَ في شهر واحد إلى عشرة أعراس على الأقل، فأنه قد يدفع نصف راتبه او أكثر في ذلك الشهر لو قدّم ما قيمته 300 شاقل لكل عروسين لو كان راتبه 6000 شاقل، تلك نفقات قد تؤثر على مصروفاته ميزانيته السنوية وتزيد من ديونه، ولكنه يقدمها منعًا للتعرض للجدل الاجتماعي أو النظرات المنتقدة أو أي كلام يجرح المشاعر ويسيل ماء الوجه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قال"": تهادوا تحابوا ""فإنَّ الهدف من الهدية هو تحقيق الحب بين الناس ولا يجتمع الحب مع الانتقاد والعتاب والحرج، وينبغي أن تفتح الهدية باب للود وان تجعل العلاقات الاجتماعية أكثر متانةً لا أصعب وأكثر تعقيدًا.

إنَّ ترك العادات التي تضر الفرد والمجتمع أفضل من اتباعها والحفاظ على استمراريتها وقد يكون لها اثر ايجابي على مستقبله.

فحبذا لو نتبع اليسر ونترك العسر الذي أًمِرنا باجتنابه. فقد واجه الانبياء والرسل اقوامهم ووجهوهم لترك العادات السلبية، حتى لو ورثوها عن ابائهم على مر الأجيال والعصور.

منسوب الحب بين العرسان واصدقائهم لا يقاس بالمال والمفاخرة وفخامة الكراسي والعرض الراقص. بل ان التواصل الاجتماعي يمكن ان يكون اقوى بالقضاء على الفروقات الاجتماعية التي تعزز بفارق القدرة على تقديم المال.

أضف الى ذلك أن الاهتمام بالمظاهر والتقليد الأعمى للآخرين هما أهم أسباب ارتفاع تكاليف الزواج وزيادة العنوسة وانتشار العلاقات غير الشرعية والمضرة بالمجتمع والحل في تعزيز قيمة الفرد داخليا وترك المقارنات بالآخرين سواء من أفراد العائلة أو من خارجها والالتفات الى ضرورة تكافؤ الأطراف وعائلاتهم اجتماعياً ومادياً، والابتعاد عن الاهتمام بالأشياء المادية الزائلة.

أرى الأعراس البسيطة، برضا وتفاهم من الزوجين، هي أكثر تناغماً وحباً وجمالاً، فهناك الكثير من الأعراس التي تكلفت مبالغ ضخمة ولم يدم الزواج مدة ذات قيمة تذكر.

فضلاً عن ضرورة عدم الإسراف في ما يعرض ويقدم ويمارس من طقوس ليكون مناسبا لما رصد العروسين او ذويهم لتغطية تكاليف هذا الاحتفال دون الحاجة للاستدانة بما يفوق طاقتهم. فإن الأعراس في أيامنا الحالية فقدت الكثير من البهجة والفرح والحميمية والترابط التي كانت تتسم بها في السابق – وتفاقم فيها عدم التواجد في اللحظة والاهتمام بالمظهر والصورة والكمال المنتظر وخسارة المتعة من عيش هذه التجربة مع العائلة والاستمتاع فيها, فلو تابعت الصور المعروضة على شبكات التواصل الاجتماعي لما فرقت بين العروس وصديقتها وامها واخواتها ولا بين العريس واصحابه ولا بين العرس والاخر.

ولنتذكر ان الأعراس وسيلة لإسعاد العروسين والإشهار، وليست وسيلة للتباهي والافتخار كما يحدث الآن.

وبما انه لا يمكننا تغييرالواقع بسرعة بل بشكل تدريجي فانا انصح من ناحية الادارة المالية للعائلات التي تدعى للمناسبات تخطيط سنوي مسبق لتوقعاتهم لموسم الاعراس المقبل خاصة الاقرباء- والبدء بتخصيص مبلغ مالي لتغطية هذه التكاليف في كل الاشهر من اسنة يشمل اشهر الشتاء التي تقل فيها او تنعدم الاحتفالات، ولتكن المبالغ واقعية ولتقرروا عم تنازلتم في ميزانيتكم الشهرية لذلك من المهم الاستعداد مسبقا ان كنت بكل الاحوال ترغب في تقديم هدية لائقة بنظرك.

وللمقبلين على الزواج واهاليهم انصح برسم خطة واضحة ومشتركة توضح للجميع التوقعات وكيفية السداد وتوزع المهام والمسؤوليات العملية والمالية وادعو للتفكر بالرسالة التي تقدمها لولدك او ابنتك المقبلة على الحياة المستقلة ان كنت في خطر الوقوع في هاوية السوق السوداء بسبب رغبتك في ارضاء واسعاد رغبة آنية.

ان كنتم كأهل لمقبلين على زواج تقطعون من لحمكم لتقدموا لابنائكم ما يفوق طاقتكم بهدف اسعادهم فانتم تضرونهم لانكم تورثونهم حملا وحياة فيها التناقض والابتعاد عن القيم واستهتار بالاهل والابناء وهدفها اشباع الرغبات الانية والشهوات بدلا من تهذيب الانفس واحترام الذات والاخرين.

واخيرا اقول للازواج الشابة ان التخطيط لمناسبات مهمة تساعد الابناء مستقبلا مثل التعليم العالي والزواج والعمار يبدا في سنوات العمر الاولى للطفل كما ندرب ابناءنا على تحمّل المسؤولية والتواضع والاعتداد بالنفس والثقة الداخلية.

وللعرسان اقول: بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير. اعلموا ان من يقدر ذاته ويحترمها ويعيش في رضى وسلام داخلي لا ينتظر موافقة بصورة لايك اوشير من الاخرين وقد يكون في هذا الزمان هذا تميزكم. اتمنى لكم حياة سعيدة مبنية على التفاهم يكللها الاحترام والمشاركة تعيشونها باستقرار مادي ومعنوي تسعدون فيها بالرفاه والبنين.

أمينة عبد القادر

مدربة ومستشارة وموجهة مجموعات للوعي المالي واقتصاد العائلة والاستثمار

رأيك يهمنا