"إذا أخرجوا التكنولوجيا من حياتنا، فبماذا ستختلف أيامنا عن حرب البسوس؟".. ورغم ذلك، القادم سيكون لنا
في كل مرة، ومع انتهاء عام وبدء عام جديد، تحضرني صورة ساخرة رأيتها مرة في أحد مواقع التواصل، يظهر فيها شخص مع اقتباس يقول فيه "ما الذي يهمني إذا تقدمت السنين ما دمت أعيش في العصور الوسطى". قد يكون في هذا القول شيء من المبالغة، فنحن ورغم كل ما نعانيه من عُقد وقضايا وحتى كوارث، لا نعيش كما عاش البشر في العصور الوسطى، ولكننا أيضًا في مكان متأخر جدًا عن العالم. وعمومًا، هي صورة نشرت في سبيل المزاح.
ولكن إذا أردنا أن نضع المزاح جانبًا، أشاهد أحيانًا بعض المسلسلات التاريخية، مثل المسلسل السوري الأسطوري "الزير سالم"، الذي أخرجه الراحل حاتم علي وتميّز في بطولته الفنان سلّوم حداد وكوكبة من كبار الفنانين، مثل الراحل خالد تاجا وآخرين. في كل مرة، عندما أشاهد حرب البسوس وكيف اندلعت بين أولاد العمومة وكيف استمرت لأكثر من أربعين عامًا وسفكت فيها الدماء بلا توقف، أقول ما هو الاختلاف بيننا كعرب اليوم وبين أولئك العرب قبل أكثر من 1500 عام؟ إذا أزلنا من حياتنا مظاهر التكنولوجيا، التي كلها من صنع وابتكار الغرب، فبماذا سنختلف عن هؤلاء؟ وأنا لا اتحدث عن العصور الوسطى، بل عن العصور الجاهلية، أي العرب حتى ما قبل الإسلام.
يتطور العالم بشكل رهيب ومخيف في السنوات الأخيرة بفضل التكنولوجيا، الهواتف النقالة، الحواسيب، السيارات وحتى الأدوات المنزلية. ولكن، ليس هذا فحسب. فبالإمكان أن نقول أن أبرز وأجمل ما جلبته لنا التكنولوجيا في السنوات الأخيرة هو التطور الكبير في مجال الطب. نحن نتحدث عن نهضة عظيمة، عمليات جراحية وعلاجات وابتكارات في استخدام التقنيات الحديثة، مثل التقنية ثلاثية الأبعاد وغيرها، ونتحدث عن ترميم وإعادة بناء أعضاء جديدة للبشر، خصوصًا في مجال الوجه والفكين، في علاجات الأورام السرطانية وفي العلاجات ما بعد الحوادث، وهذه كلها ليست إلا نقطة في بحر التطور في مجال الطب، في علاج أمراض القلب وفي الكثير من الأمور. ولا ننسى التطور في مجال علم الفلك والصور الرهيبة التي نراها للمجرات وفي مجال الطيران وفي مجال الأسلحة (رغم ما في الأمر من سوء ومخاطر) وفي مجالات عدة. هذا كله صحيح، نراه ونلاحظه ونعيشه بشكل يومي. ولكن كأنه، كله، لا يعنينا نحن كعرب بشيء، نستخدمه ونستهلكه، لكن لا نساهم فيه، باستثناء بعض الحالات الفردية. نُصر نحن أن نبقى على مقاعد المشاهدين وكأن لا دخل لنا، وكأننا لا نتحمل مسؤولية في تقدم البشرية، وكأننا لسنا نحن أنفسنا أحفاد ابن النفيس وابن سينا والخوارزمي، وكأننا غرباء عن هذه الأرض، نستخدم ما يجلبه لنا الغرب من تطورات.
في الماضي كنت أنتقد بعض العرب والمسلمين الذي يهاجمون الغرب في كل شيء ويستخفون به ويطالبون بعدم تقليد الغرب وهم يتمتعون، في الوقت نفسه، بكل ما جلبه الغرب لنا من تكنولوجيا، بسياراتهم وهواتفهم النقالة وحواسيبهم والمكيفات والثلاجات والغسالات وغيرها من الأمور التي تسهّل عليهم حياتهم. لكن، مع الوقت بتّ أرى أن هذا الانتقاد لم يكن في مكانه. فالسخط الموجود بيننا على الغرب مفهوم وواقعي. الغرب ذاته، الذي يغمرنا بالتقنيات (الغرب والشرق الأقصى بالمناسبة)، هو نفسه شريك فاعل في كل مآسينا، في الاحتلال القائم على صدر فلسطين وفي كل ما حدث في الدول العربية خلال السنوات الأخيرة من حرب العراق إلى الأزمة السورية مرورًا بالأزمة اليمنية وتدمير ليبيا وغيرها من الأحداث التي عصفت بدولنا العربية. وهو ما زال يتعامل بفوقية مقيتة ومزعجة حتى يومنا هذا، رغم مظاهر الديمقراطية في معظم دول الغرب ورغم اندماج العرب في هذه الدول كلاجئين ومغتربين، إلّا أن الفوقية البيضاء ما زالت قائمة، نشعر بها. شعرنا بها في مونديال قطر وكل حملات التحريض ضده، وشعرنا بها في أحداث ومواقف عديدة أخرى. وهذه الفوقية تقود الغرب لأن يدفع نحو استمرار الوضع على ما هو عليه، بأن نبقى على ما نحن عليه، بتخلفنا وبكوننا مجرد مستهلكين، وأن يبقى الغرب على ما هو عليه، صاحب اليد العليا، وربما هذا ما أزعجهم في مونديال قطر، فجأة دولة خليجية تتحول من مجرد بقرة يُحلب منها المال إلى مركز العالم.
سيقول أحدهم لماذا توجه لومك للغرب؟ ألا يجب أن توجه اللوم للزعماء العرب ولبعض الشعوب العربية التي اختارت الكسل والجهل؟ وأقول إن أوروبا احتاجت لأكثر من 300 عام حتى تخرج من العصور الوسطى إلى بداية التنور، عصر النهضة والثورة الفرنسية والثورة الصناعية وغيرها من الثورات. كانت مرحلة طويلة، حتى فصلت أوروبا الدين عن الدولة وحتى بنت دولها الحديثة المتطورة هذه. وقد انتهت تلك المرحلة بحربين عالميتين قتل الأوربيون فيها بعضهم البعض، قُتل فيها الملايين. أما نحن، فلم نخرج من عصورنا الوسطى إلا قبل 100 عام. فقط قبل 100 عام انتهى عصر الدولة العثمانية التي هيمنت على العالم العربي كله باسم الإسلام، وخلال فترة حكمها منعت العرب من التعلم ومن التملك ومن التفكير حتى. فهذه الأمة التي أخرجت مئات العلماء والأدباء في فترة الدولة العباسية، انقطعت فجأة عن إنجاب العلماء والأدباء طوال أكثر من 400 سنة من الحكم العثماني. الجينات لم تتغيّر، وُلد كثيرون من أصحاب القدرات العقلية الخارقة، لكن كان هنالك من يقمعهم. لهذا، إذا بحثنا في الكتب وفي الشبكة العنكبوتية عن أسماء علماء عرب في فترة الدولة العباسية وأسماء علماء عرب في فترة الدولة العثمانية فسنجد أن الفروقات كبيرة. دولة الأتراك كانت تعتبر العرب مجرد أتباع، كانت تستعمر بلاد العرب، حتى لو ادعت بأن هذا باسم الإسلام، ولم تنته هذه الدولة إلا قبل 100 عام، ثم خلفها انتداب في بعض الدول واحتلال وتعيين لرؤساء وعائلات حاكمة تابعة للغرب. بمعنى، أننا ما زلنا في بداية عصر النهضة الخاص بنا وما زال أمامنا الكثير من الأيام التي ستشهد سفك الكثير من الدماء، حتى نخرج إلى النور، لكننا سنخرج، حتمًا سنخرج. ولهذا أقول إن الغرب ربما يسبقنا ببعض مئات الأعوام.
لا علاقة لنا اليوم بالثورة التكنولوجية التي تعصف بالعالم، لكننا أصحاب فضل كبير في أصول هذه الثورة، في الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك والرياضيات. علماء أمتنا كانوا روادًا في هذا الأمر في عصورنا المنيرة، عندما كان الغرب يغرق في الظلمات، والآن عندما دار عجل الحياة، تقدم الغرب علينا، لكن الأيام القادمة والسنوات القادمة، حتمًا ستكون لنا، وليس مونديال قطر إلّا بداية.
(استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected])