"من المشروع الوطني إلى خطاب الإنجازات دور المشتركة وما بعدها في إفشال مجتمعنا"
قبل ثلاثة عقود بدا لي ولكثيرين أننا أمام بناء مشروع وطني جماعي للفلسطينيين في إسرائيل، إذ حملت الّسّنوات بعد أوسلو إحساسًا بالأمل في صفوف الفلسطينيين، تمثل في الثّقة بقوة المجتمع الفلسطيني، محاولات تنظيم العمل الجماعي عبر إصلاح لجنة المتابعة وبناء القائمة المشتركة، وصعود الحراك الشبابي. إلّا أنَّ التّعثر في بناء مشروع سياسي جماعي، وتنظيم المجتمع الفلسطيني، ومرور قرار إخراج الحركة الإسلاميّة عن القانون، وكأنه إغلاق جمعيّة أهليّة، وتعثر الثّورات العربيّة وما حملت من أمل لكلّ العرب لا سيّما الفلسطينيين، والسّياسات النيو ليبرالية الإسرائيلية الّتي ساهمت بصعود فكرة الخلاص الشّخصي وتشظي المجتمع، وأداء القائمة المشتركة من خلال التّركيز على البعد الإسرائيلي، والتّنكر لمعاني الهُوية الجماعيّة الفلسطينية وتنظيم المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، والتّراجع فيما حملت من أمل للناس بالعمل الجماعي، وتراجع دور الأحزاب وارتهانها للعمل البرلماني بالأساس، حيث تحولت إلى أحزاب برلمانيّة إسرائيليّة تعمل كيسار إسرائيلي لا أكثر في جوهرها، كل ذلك ساهم في صعود سياسة التّفتيش عن ""إنجاز بأي ثمن"" وفقدان الأمل بالتّغيير الجماعي في صفوف المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، فعندما ينطفئ الأمل في السّياسة، تدخل الانتهازيّة السّياسية مكانه، وأتى ذلك من خلال التّعبيرات السّياسية للقائمة المشتركة وقياداتها.
في كتابي مع د. مهند مصطفى والمنشور عام 2018 في دار النشر العالمية ""كامبردج"" عن ارتفاع وتيرة ""سياسات الأمل"" لدى الفلسطينيين في إسرائيل، أشرنا إلى خمس تطورات وإضافات مهمة في العمل السّياسي لدى الفلسطينيين في إسرائيل– تبلور خطاب التّحدي للهيمنة اليهوديّة، ظهور قيادة جديدة، تنظيم مجتمع مدني، تَسْيِيس الإسلام السّياسي، نشر وثائق التّصور المستقبلي وأخيرًا تشكيل القائمة المشتركة الّتي بشرت بمرحلة جديدة، لكنها سرعان ما تراجعت كما سنُبَين أدناه هذه التّطورات الّتي جعلتنا نقول قبل ثلاثة أعوام: بأننا أمام ارتفاع جديّ في سياسات الأمل المدعومة بديموغرافيا متزايدة وتطورات ثقافية وسياسيّة هامة، ساهمت في ارتفاع منسوب الثّقة في قوة الفلسطينيين في إسرائيل في تحقيق مطالبهم.
لكنّنا نقف الآن وبعد سنوات ضئيلة أمام تراجع جدّيّ في سياسات الأمل، ونستدل على ذلك في المقارنة بين حدثين: إصدار وثائق التّصورات المستقبليّة (2006\7)، وبين التّعبيرات السّياسية الرّئيسة ""للقائمة المشتركة""، بين لحظة ارتفاع الثّقة بالعمل الجماعيّ، ورفع سقف التّوقعات والمطالب إلى مستوى يليق بمجموعة قومية تعبر عن اِعتزازها بهُويتها وتطالب بتحقيق أهداف تلائم ما يسمى بالحاجات الأساسية وعينيّا المساواة والانتماء والهُوية، كما بباقي الأدبيات الّتي تتحدث عن شعوب البلاد الأصليّة ومطالبها الوطنيّة والمدنيّة، حتى في حال استمرار وضع الاستيطاني الكولونيالي كما هو في الحالة الإسرائيليّة، وبين التّصرفات السّياسية المركزيّة الّتي أتت بعد إقامة القائمة المشتركة، والّتي كان من المفروض أنّ تمثل بإنجازها الانتخابيّ وبقوة المطالب الموضوعة في التّصورات المستقبليّة وتعمل على إعادة بناء وتقويّة المؤسسات الجماعيّة للفلسطينيين في إسرائيل كتعبير عن صعود هُويتهم الجماعيّة كفلسطينيين، إلّا أنها تحولت عمليًا وفي تصرفاتها السّياسية وخطابها المعلن، إلى أداة لتعميق إلحاق الفلسطينيين في إسرائيل باليسار وما يسمى الوسط الإسرائيلي الصّهيوني.
نستدل على ذلك من ثلاثة تطورات تتصل ضمنيًا بالتًنصل من وثائق التًصور المستقبلي ومبادئها. الأولى الإجماع ومن كل مركبات القائمة المشتركة على دعم بيني غانس لرئاسة الحكومة، رغم إصراره على التًنكر لهذا الدّعم وحتى إدانته جهارًا، والثًانية، خطاب القبول بالدّولة اليهودية وما يعنيه من دونيّة الفلسطيني، في خطاب جزء مهم من قيادة المشتركة، وخصوصًا تصريحات رئيسها عضو الكنيست أيمن عودة في مناسبات عدة، والثّالثة الخطاب المستجد لمنصور عباّس الّذي دعا لدعم نتنياهو وأطلق شعار ""لسنا يمين ولا يسار""، وهو شعار من يرى بالسّياسة مجرد ""تجارة"" يرفع سعرها أو يخفضه حسب العرض والطّلب وبدون قيَّم ومبادئ والتزام بأية أهداف وطنيّة..
بنظرة تاريخيّة سريعة، بعد سبعة عقود ونيف على ""صياغة"" مجموعة فلسطينية- إسرائيلية، يبدو أنّ هذه الجماعة تتقدم سريعًا في أنماط حياتها وإنجازاتها الفرديّة، إلّا أنها تتقهقر جماعيًا. ويتمثل هذا التّراجع في فشل واضح لإنجازات جماعيّة على ثلاثة أصعدة. أولًا، فشل في الوصول إلى مساواة مدنيّة عادلة في دولة ديمقراطية طبيعيّة، ثانيًا فشل في العودة إلى الشّعب الفلسطيني وحركته الوطنيّة والإصرار على انقطاع وطني بمعنى المطالبة بحقوق جماعيّة مختلفة عن باقي أبناء الشعب الفلسطينيّ، وثالثًا، فشل في بلورة جماعة أقليّة وطنيّة منفصلة تستطيع أنّ تسعى بثقة إلى تحقيق مطالبها الجماعيّة، وإخفاق واضح في بناء مؤسسات مجتمع وطني، أو على الأكثر بناء مؤسسات جماعيّة ضعيفة لم تتطور منذ إقامتها، أو بالأحرى تقهقرت وضعفت مع تقدّم السنين. ويتم التّعبير الواضح عن هذا الفشل في تفشي آفة العنف المجتمعي خلال السّنوات الأخيرة، وانعدام القدرة الذّاتية لهذا المجتمع لمواجهة هذه الآفة التي تنهكه من الدّاخل. التّردي على مستوى الجماعة بالنّسبة للفلسطينيين في إسرائيل، وانفضاض العقد الاجتماعي بينهم وتراجع المرجعيات الاجتماعيّة والقانونيّة والسّياسية، وحالة التّراجع في تنظيمهم الجماعي هو الأساس في فهم حالة التّردي من حيث الأمن والأمان، ويرجع ذلك أولًا إلى سياسات الدّولة الإثنيّة، وثانيًا، إلى بعدهم عن المشروع الوطني الفلسطيني، وثالثًا، إلى تعقيدات سيرورة التّغيير الاجتماعي عندهم. وجميعها تستحق تفصيلًا أعمق في مناسبة أخرى... هذه العوامل هي التّفسير الأشمل لوضعيتهم الّتي تردت وشكلت الحاضنة الأشمل، لتفتت مشروعهم الجماعيّ وتفاقم العنف، واِنعدام القدرة على التّصرف كجماعة وطنيّة.