إنتخابتين وسياسة واحدة!
مع إطلاق زاويّة "ع الخط"، يبدو أنّ الخطّ الأخضر يعيش حالة نادرة فلكيًا. كما هي الكواكب، تلتق في نقطة مُحدّدة مرّة كُلّ فترة طويلة جدًا من الزمن، يلتق الآن شقّي الخط الأخضر في تزامن نادر أيضًا، يستحق الإشارة: الانتخابات، ففي العام 2021 وللدقّة التاريخيّة، تمَّ الإعلان عن إجراء الانتخابات في كافة الأراضيّ الفلسطينيّة: داخل أراضيّ 1948 هُناك انتخابات وقائمة مُشتركة وأخرى موحّدة؛ في الضفّة الغربيّة وغزّة تمَّ أيضًا إعلان الانتخابات وهُناك قائمة ثابتة ومفاوضات لتحويلها إلى مُشتركة؛ وبالإضافة إلى الوباء المُنتشر، تعيش فلسطين التاريخيّة في ظلّ حملات انتخابيّة ومُفاوضات اِئتلافيّة على قدم وساق. وهُنا، من المهم الإشارة إلى أنّ هذا التزامن النّادر فلكليًا، يجعل من الممكن القول "فلسطين" دون تقسيمات جغرافيّة - زمنيّة. فعلى طرفي الخط الأخضر يتّفق الفلسطينيّون حقيقة على قضيّتين مركزيّتين في الانتخابات: مُحاولة تحسين الواقع داخل معازل الحكم الذاتيّ أولًا؛ وحقيقة أنَّ التّصويت المُهم فعلًا والمؤثّر سياسيًا وقانونيًا وميدانيًا، هو تصويت "المواطنين اليهود". وأصلًا، لا يوجد على شقّي الخطّ الأخضر مواطنين فعلًا، إلّا اليهود.
الانتخابات هي الأداة الّتي يقوم المُجتمع من خلالها بصياغة مستقبله السّياسيّ في القريب المنظور، يُحدّد شكل التّمثيل السّياسيّ ويقوم بتأكيد ملكيّة الشّعب على النّظام السّياسيّ، كما يشدّد على أنّه المانح الأساسيّ للشرعيّة السّياسيّة للحكم هذا بشكل عام في الوضع الطبيعيّ، أمّا في فلسطين فلا مكان للطبيعيّ. هذا "الطبيعيّ"، تستطيع في الحقيقة وضعه في متحف، فمنذ زمن طويل جدًا، توقّف عن زيارة فلسطين، والشّرق الأوسط عمومًا لذلك، ليُترك جانبًا ونبدأ القصّة من البداية: هُناك خط أخضر قانونيّ، يفصل الأراضيّ الفلسطينيّة المُحتلة عام 1948 عن الأراضيّ الفلسطينيّة المُحتلة عام 1967؛ وعلى شقّي الخطّ الأخضر، يعيش فلسطينيّون أيضًا؛ الجزء المتواجد في أراضيّ 48 يحمل المواطنة الإسرائيليّة قانونيًا ويشارك في الانتخابات الإسرائيليّة، مع الإشارة إلى أنَّ المواطنة الكاملة الإسرائيليّة هي يهوديّة في جوهرها؛ أمّا الجزء المتواجد في أراضيّ 1967 لا يحمل المواطنة الإسرائيليّة ولا يُشارك في انتخاباتها، بل يعيش في معازل حكم ذاتيّ داخل أراضيّ 67 تحت حكم عسكريّ إسرائيلي وإداريّ مدنيّ داخليّ فلسطينيّ ذاتي يُسمّى "السُلطة الفلسطينيّة". ومرّة أخرى في تزامن نادر، أعلن كُلّ من "السُلطة الفلسطينيّة" و"الدّولة اليهوديّة"، نيّتهما إجراء انتخابات.
والسّؤال الحقيقيّ: ما هو شكل النّظام السّياسيّ الّذي سيُفرزه الفلسطينيّون في الانتخابات المُقرّرة عام 2021؟ هذا مرّة أخرى سؤال طبيعيّ فاقد للمعنى في الشّرق الأوسط. في الحقيقة على شقّي الخطّ الأخضر هُناك قوى وموازين سياسيّة وميدانيّة وتاريخيّة تجعل من تصويت ما يُعادل 4 مليون فلسطينيّ فاقد للمعنى، يجعل من الانتخابات غير سياسيّة بالمستوى الأوّل والأساسيّ في الضفّة وغزّة هُناك انقسام سياسيّ وجغرافيّ وعسكريّ، من خلاله يقوم كُل طرف من الأطراف الرئيسيّة في السّياسة الفلسطينيّة باحتكار السُلطة في بقعة مُحدّدة: "فتح" في الضفّة؛ و"حماس" في غزّة. وكلاهما غير معنيّان بانتخابات حقيقيّة لدرجة أنّهما يخوضان محادثات ائتلافيّة لتشكيل "قائمة مُشتركة" تتكوّن من طرفيّ انقسام. كيف يُمكن؟ يُمكن حين تغدو الانتخابات أداة لطرفي الانقسام بهدف تجديد شرعيّة للتفاوض باسم "الشّعب الفلسطينيّ"، دون أنّ يقصد أي منهما أنّ تكون الانتخابات حقيقيّة وفيها مُنافسة وتعدّدية سياسيّة. وبحق، يدّعي بعض الفلسطينيين أنّ الانتخابات وعلى الرَّغم من أنّها ستكون في إطار الحكم الذاتيّ، ولن تغيّر جوهريًا على الوضع السياسيّ العام، إلّا أنها ستكون فُرصة لتشكيل مجلس تشريعيّ ينص القوانين الّتي تصدر منذ سنوات بمراسيم رئاسيّة، وتعنى بشؤون الحياة داخل "مناطق (أ)"، وهي حدود المُدن الفلسطينيّة الكُبرى الّتي تُديرها السُلطة ولا يتعدّى حجمها الـ 30% من مساحة الضِّفّة الغربيّة. هذا طبعًا بالإضافة إلى قيام إسرائيل بالتوجّه إلى النّاس وتهديد هذا أو ذاك بالسّجن إنّ تجرأ على الترشّح حتّى. وبالمُجمل، انتخابات دون تغيير سياسيّ مع احتمال ضئيل بالتغيير الشكليّ على حياة النّاس داخل معازل "مناطق أ".
ننتقل إلى الانتخابات الإسرائيليّة، الّتي يُشارك فيها أيضًا فلسطينيّون ولديهم قائمة مُشتركة قد انشقّت عنها قائمة مُوحّدة. هذه الانتخابات مُهمة، هي الانتخابات الّتي تُقرّر فعلًا المستقبل والحاضر في فلسطين التاريخيّة. فإسرائيل هي القوّة الوحيدة المسيطرة فعليًا في فلسطين على الخطّ الأخضر، يمينه ويساره أيضًا وفوقه. ولكن السؤال، مرّة أخرى عن درجة التّأثير الفلسطينيّ في هذه الانتخابات. ففي الوضع الطبيعي كُلّ صوت هو صوت ومتساوي في الصندوق. هذا مرّة أخرى في الوضع الطبيعيّ، أمّا في فلسطين، إليكم القصّة: يستطيع الفلسطينيّون إدخال 15 مقعدًا إلى البرلمان الإسرائيليّ؛ ويستطيع رئيس الحكومة أنّ يقف مع لوح يكتب عليه عدد المقاعد الّذي حصل عليه كُلّ حزب؛ وفي النّهاية يقوم بشطب المقاعد العربيّة. هذا ما قام به نتنياهو فعلًا، وهو ساريّ المفعول دائمًا في إسرائيل حيث يُقال "نستطيع أّنّ نتفاوض معكم ونتحدّث معكم بشأن حقوق مدنيّة فقط دون الخوض في أي مفاوضات سياسيّة". هذا ما حصل فعلًا، وسيحصل مرّة أخرى وأخرى لحقيقة إسرائيليّة نظريّة وعمليّة سياسيّة أيضًا: إسرائيل دولة يهوديّة، حق تقرير المصير السّياسيّ فيها لليهود حصرًا، ومهما كبر تمثيل الفلسطينيّ فيها يصطدم، كما اِصطدم تاريخيًا بما يُسمّى "الأغلبيّة الصهيونيّة"- وهو ما يجعل من السّياسة الإسرائيليّة والتأثير عليها بنيويًا كتأثير حصريّ تحت سقف أيديولوجيا الصهيونيّة. وهُنا، يغدو تصويت الفلسطيني في أراضيّ 48 على قضايا مدنيّة: ميزانيّات؛ محاربة الجريمة وبنى تحتيّة مرّة أخرى في حدود البلدات العربيّة (مناطق أ) في أراضيّ 48.
وفي المُجمل، يقترب الخط الأخضر في هذا التّزامن الفلكيّ إلى أقرب نُقطة فيها يلتقي العبث السياسيّ مع الطموح الوحيد في الآونة الأخيرة في فلسطين: محاولة منع اِنهيار الوضع أكثر داخل مناطق السّكن العربيّة، محاولة العودة إلى ما قبل انتشار العنف والجريمة في أراضيّ 1948، مُحاولة تشريع قوانين في الضِّفّة الغربيّة وهو ما يعني العودة إلى ما قبل الانقسام السّياسيّ وحلّ المجلس التشريعيّ، ومُحاولة الخروج من غزّة المُحاصرة وتخفيف حدّة اختناقها. أمّا السّياسة بوصفها عمليّة صياغة الواقع؟ فإنّها محتكرة للدولة اليهوديّة الّتي لا ترى الخطّ الأخضر حين يتعلّق الأمر بحق اليهوديّ، استيطان اليهوديّ، وحريّة حركته وتقرير شكل نظامه السّياسيّ. فها هو بن غفير، أحد أبرز مستوطني ما وراء الخطّ الأخضر يغدو وزيرًا.