ندى الملّ والأرض
تلك هي ندى التي كانت تبعد عنّي جيلًا وعلمًا لكنّها كانت الأقرب إلى قلبي وفلسفتها أقرب إلى فلسفتي في الحياة. من مواليد 1936. تزوّجت في سن الثانية عشرة من الشاب أحمد جراد نعامنة الذي استشهد بعد عدة أشهر من زواجهما في منطقة مقلّس بالقرب من عرابة وهو يقاوم الاحتلال. بعد استشهاد زوجها تزوجت مرة ثانية من شاب آخر وهو السيد حسن أحمد نعامنة الذي كان يكبرها باثنين وعشرين عامًا.
في الثلاثين من آذار عام 1976 كان يوم الأرض الخالد الذي يعتبره شعبنا مرحلة مفصلية في تاريخه والذي صنعه أبطال كثيرون لكنهم لم يقفوا يومًا على المنابر ولم تُذكر أسماؤهم وخاصة النساء منهم.
ندى ابنة خالتي التي سكنت في حيّنا وكانت الأقرب إلى أمي ولنا جميعًا هي واحدة من هؤلاء حيث بقيت ثابتة على حقّها في الدفاع عن أرضها، وقد كانت تشاركنا ذكرياتها ومعاناتها بتفاصيلها الصغيرة على مدى أعوام يوم كانت تشتبك مع الجيش وحرس الحدود خلال عملها في الأرض أثناء التدريبات العسكرية.
في تلك الفترة أي قبل يوم الأرض بسنوات كانت قد وضعت المؤسسة الاسرائيلية أمام أعينها هدفًا وهو مصادرة أرض الملّ.
الجزء الأكبر من هذه الأراضي كانت تعود ملكيّتها لمواطني عرابة علمًا أن سياسة المصادرة والتهويد لم تقتصر على أرض الملّ بل طالت كل الأراضي الفلسطينية، وذلك بهدف توسيع الاستيطان والاستيلاء على ما تبقى من الأرض بعد أن صادرت أراضي من هُجّروا من فلسطين.
إن مصادرة الأرض لم تكن بين ليلة وضحاها، بل كان يسبقها خطوات تمهيدًا لذلك وهو إجراء تدريبات عسكرية فيها هدفوا من خلالها ترهيب الفلاحين وإبعادهم عن الأرض، وقد كانت المؤسسة العسكرية تصدر بيانات من حين لآخر تحذر الأهالي بأن أرض الملّ منطقة عسكرية يُمنع الدخول إليها وأي مواطن يدخلها يعرض نفسه للمساءلة القانونية.
كانت تلك السنوات قاسية على الأهالي نتيجة معاناتهم ومنعهم من الدخول إلى الأرض وزراعتها، وأبرز من تحدّوا الجيش وحرس الحدود هي ندى نعامنة التي كانت تملك 35 دونمًا في هذه المنطقة وهي نصف المساحة التي كانت تملكها العائلة بعد أن صودر 35 دونمًا بحجة أن ذلك يندرج تحت ما يسمى أملاك الغائبين.
في سنة 2013 وقبل وفاة السيدة ندى بيومين عشية يوم الأرض قمت بزيارتها فبدأت تحدثني كعادتها وتشاركني ذكرياتها خلال عملها في الأرض ومواجهتها للجيش وحرس الحدود فقالت:
علاقتي بالأرض علاقة مقدّسة حيث كنت أذهب إلى الأرض لوحدي يوميًا عندما يذهب أبنائي وبناتي إلى المدرسة أما أيام العطل فكانوا جميعًا يرافقونني، وأذكر يومًا أن أخذت معي ابنتَي التوأم نجمة ونعمة اللتين لم تتعديا العام الواحد، وقد وضعت لهما حصيرة تحت شجرة الخروب كي تناما وما أن مضى وقت قصير حتى لفتت نظري ابنتي شيخة التي تكبرهما بثلاث سنوات قائلة:"" يمّا في جيش واقف عند خواتي نعمة ونجمة "".
حادثة أخرى حصلت معي يومًا بأن أخذت كيسين من بذار القمح لزرعها وفور وصولنا داهمنا حرس الحدود وصادر كيسًا واعتقل زوجي والحرّاث وخلال هذا الاشتباك معه قمت بإخفاء الكيس الآخر وغطّيته بالعشب وأغراض كانت بحوزتي، لكنهم لم يكتفوا بذلك بل حاولوا ترهيبي وإجباري على التوقيع بالتعهّد بعدم دخول الأرض مرة أخرى لكنني رفضت.
من جولات الاشتباك المتكررة التي أذكرها أيضًا خلال تواجدنا في الأرض هو قدوم الجيش بدباباته ومدرّعاته عدة مرات ودوسه على حقول القمح المزروعة.
كانت ندى كما عرفها الجميع امرأة حديدية تشبه الأرض وتعشقها. ترفض الظلم وتصرّ ألا تقهر أمام هذه المؤسسة، وكانت الأكثر إدراكًا من بين أهالي عرابة بأن أرض الملّ مهدّدة بالمصادرة ،وكثيرًا ما كانت تجد نفسها في أكثر من معركة مع الجيش وحرس الحدود ،وفي كل مرة كان يتم اعتقالها تضطر لترك أطفالها الصغار وحدهم في الحقل وبالإضافة إلى هذه الاعتداءات كانت تعاني من اعتداء آخر على مزروعاتها من قبل الرعاة تاركين أبقارهم يعيثون فسادًا وخرابًا بالقمح والخضروات ،لكنها لم تستسلم فقرّرت يومًا أن تضع حدًا لهذا الاعتداء فخرجت من بيتها في ساعات المساء متسلّحة بعصا وسكين وفأس وتوجهت إلى الأرض دون علم العائلة ،وجلست تتربص للمعتدين .لم يمر وقت طويل وإذ بها تسمع نحنحة وصوت أقدام تدبّ على الأرض فلاحظت أن هناك شخصًا يتقدم نحوها فصرخت :""مين إنت شو جاي تساوي هون ؟ليتضح لها أن القادم ابنها الذي جاء لنفس الهدف فقال لها : كيف تقومين بهذا العمل الجنوني وكيف تجرأت في هذا الوقت بالذات ووسط هذا الظلام الحالك أن تأتي إلى هنا ،ألم تحسبي حسابًا بأن تجدي نفسك أمام شخص يوجه لك ضربة تفقدين بها حياتك لا سمح الله ،وتتركيني وحدي أقوم بعبء لا استطيع حمله وأنت تعرفين أنني لا أستطيع أن أتدبر أمر إخوتي وأخواتي الصغار؟ "" .
ندى كانت تدرك أن فقدانها للأرض سيفقد أطفالها لقمة العيش خاصة أنها كانت عامود البيت لأن زوجها كان مريضًا ويكبرها باثنين وعشرين عامًا، فكلّما كانت تجد نفسها أمام مشكلة في تدبير أمورها وخاصة بما يتعلق بالزراعة وفلاحة الأرض التي تحتاج عادة لأعمال تقتصر على الرجال كالحراثة كانت تصرّ أن تقوم بهذه الأعمال بنفسها، وكما حدثتني أن في أحد الأيام توجهت للحرّاث الذي كان يقوم بهذه المهمة كل سنة بحراثة الأرض وبذر الحبوب إلا أنه اعتذر وقال لها أنه مشغول.
ندى التي لم تعرف الاستسلام يومًا ذهبت لأحد الحرّاثين، وطلبت عود حراثة وتوجهت لمنطقة الملّ، وحرثت أرضها بنفسها. في اليوم التالي وخلال تواجدها هناك جاء أحد الفلاحين ليحرث أرضه المحاذية لأرضها وعندما عرف أنها هي من حرثت الأرض ابتسم وقال :والله إن حراثتك أفضل من حراثة الرجال .
مشاكل ندى ومعاناتها لم تقتصر على مواجهتها لحرس الحدود والاعتداء على أرضها من قبل الرعاة وعدم إيجاد حراث في الوقت المناسب بل تعدى ذلك إلى صعوبة في إيصال أبنائها الصغار إلى الأرض ونقل الغلّة من القمح والخضار وأدوات العمل.
بناء على ما ذكرته أعلاه من معاناة كانت ندى تجد الحلول لأي مشكلة تواجهها للحد من معاناتها لدرجة أنها قامت ببيع 23 ليرة ذهبية انجليزية كانت قد احتفظت بها منذ زواجها واشترت عربة تستعين بها وبالفرس التي كانت تملكها.
بقيت ندى صامدة، شامخة، وشعارها الذي كان يوقظ فينا الكبرياء ""الأرض كالعرض"" وعار علينا التخلي عنها. هذا بالإضافة أنها تميزت بقدرتها على الصبر وإصرارها على الحياة بكرامة، واعتبرت الاستسلام هو المعصية الوحيدة التي ممكن أن ترتكبها وأكبر دليل على ذلك أنها لم ترضخ يومًا لهؤلاء المجرمين السارقين لأرضها. لقد كانت تفهمهم وتفهم تصرفاتهم أكثر من أي أنسان آخر وجد نفسه في مواجهته مع الجيش وحرس الحدود.
أوامر اعتقالها لم يتوقف خلال عملها في الأرض ففي يوم من الأيام تسلمت أمرًا للمثول هي وزوجها أمام القضاء في المحكمة في عكا.
في ذلك اليوم ذهبت هي وزوجها إلى عكا وأخذت أبناءها التسعة معها وبعد دخولهم قاعة المحكمة تقدم أحد موظفي المحكمة وصرخ في وجه زوجها:""إنت بتفهمش؟ إنت حمار بتجيب معك ولاد على المحكمة ليأتي الردّ من ندى: ""إنت حمار وحكومتك حمارة ومجرمة اللي بتجوّع ولادي بتحرمهن لقمة العيش "".
كلّ هذا الصمود الذي ميّز هذه المرأة إن دلّ على شيء إنما يدلّ على قوتها وجرأتها وذكائها وكان أبرز إبداعاتها بأن أخذت النظارات قبل دخولهم المحكمة من زوجها وأوصته أن يتظاهر بأنه أطرش وأعمى كي تتحدث بدله.
خلال الجلسة طُلب من زوجها الوقوف والتحدث فجاء الردّ سريعًا من ندى وطلبت من القاضي أن تتكلم بالنيابة عنه لأنه لا يسمع ولا يرى.
انتهت الجلسة بفرض غرامة مالية مقدارها سبع ليرات والالتزام بدفعها بعد الجلسة مباشرة في المكتب، لكنها تمردت واعتبرت ذلك ظلمًا وخرجت من المحكمة إلى السوق واشترت دجاجتين وبعض الأغراض للبيت وقد برّرت ذلك كما قالت: إن أولادي أولى بهذه الليرات.
بطولات ندى لم تتوقف هنا حين كانت بمواجهة مستمرة مع الجيش وحرس الحدود بل استمرت إلى ما بعد ذلك حين أعلن عن الإضراب في الثلاثين من آذار ودخول قوات الجيش الإسرائيلي بمدرعاته ودباباته إلى عرابة وقرى مثلث يوم الأرض وبعض البلدات العربية.
في التاسع والعشرين من شهر آذار وعشية يوم الأرض دخلت هذه القوات وبدأت باستفزاز الأهالي والاعتداء عليهم مما أدى إلى استشهاد الشهيد خير ياسين.
ندى التي كانت تجيد قراءة الواقع وتصرفات الجيش وحرس الحدود توقعت هذا الهجوم فراحت تهيئ نفسها بأن وضعت عصا وسكينًا وفأسًا في زاوية في ساحة البيت وجمعت بعض الحجارة في زاوية أخرى تحسبًا من اعتداء الجيش، كما أوصت أبناءها بأن يرشقوا الجنود إذا ما تم الاعتداء عليهم.
ما توقعته ندى من اعتداء قد حصل فعلًا. هذا بالإضافة إلى منع التجول الذي فرض فجر الثلاثين من آذار بأمر من رفائيل إيتان قائد منطقة الشمال العسكري.
صباح الثلاثين من آذار كما حدّثت ندى: ""لقد حملت إبريقًا من الشاي وصعدت من الطابق الأول إلى الطابق الثاني لأدخله إلى ابني الذي مضى على زواجه ثلاثة أيام وما أن رآني أحد الجنود في ساحة البيت حتى صرخ قائلًا: فوتي على البيت.
أجبته :أنا في بيتي يا كلب وإذا به ينزل إلى الساحة لكنني وبسرعة البرق أخذت الفأس وضربته على كتفه فسال دمه ووقع على الأرض وهذا ما أدى إلى استشراس الكتيبة التي كانت بمحاذاة البيت فهبّوا لنجدته واعتدوا على أولادي وزوجي الذين خرجوا لمساندتي .كانت نتيجة المعركة معهم بأن أحد الجنود ضرب زوجي بالبارودة على عينه ورأسه مما دفع بنتي بإحضار قنينة مليئة بالكاز وعلبة كبريت وسكبها على مدرّعة كانت بمحاذاة البيت ثم أخرجت عود كبريت لإشعالها لكن أحد الجيران صرخ وقال لها :إن بعملك هذا ستحرقين الحي بكامله لأن هذه المدرعة مملوءة بالذخيرة "".
أم مصطفى لم تكن مبدعة في المواجهة والاشتباك مع الجيش وحرس الحدود فقط بل كانت تبدع في الأغاني معبرة عن شعورها ومعاناتها ومما غنته:
نزلت على الملّ تعزّل حجارة
أجا مشمارغفول وطلعني عالنظارة.
محامي الأرض يا حنا نقارة.
تعال اكفلني يكفيني عذابا.
..
سكابا يا دموع العين سكابا
أخذوا أرضي ظلمًا واغتصابا
طلعت ع الأرض من طريق البركة
فتت ع الأرض وعيوني تبكي
ولك يا رابين ما إلك عنا شركة
هالأرض إلنا إرحل من هونا
تلك هي ندى التي كانت تنطبق عليها كل الصفات الجميلة. كانت جريئة، قوية، مناضلة، مكافحة حد التفاني. كنا نرى في قامتها الوطن بقوته وشموخه. عاشت بيننا وعلمتنا كيف يكون الاشتباك مع الاحتلال وحين كنا ننظر في وجهها كنا نرى في ملامحها تضاريس الأرض وجمال الطبيعة وكبريائها. كانت كشجرة الخروب في أرض الملّ التي كانت تستظل تحتها أيام الصيف الحارة.
رحلت ندى قبل تسع سنوات عشية الثلاثين من آذار ومن يوم وفاتها ونحن نغذي ذاكرتنا بكلماتها الملآى بالعزة والكرامة كي نبقى على قيد الانتماء للأرض والوطن.
رحم الله ندى التي دافعت عن الأرض ورحم من استشهدوا في سبيل الوطن.