ما بين التلاعب النفسي والعنف السياسي

بينما تدور التحقيقات حول استشهاد شيرين أبو عاقلة تدور في ذهني تساؤلات حول التلاعب النفسي والعنف السياسي، إذ إن التلاعب النفسي gaslisghting يعد نوعا من أنواع العنف ذي الامتدادات الاجتماعية النفسية والسياسية على الأفراد والمجموعات من خلال استخدام الإنكار المستمر والتضليل والمناقضة. هذه الآليات هي آليات يعتمد عليها المعتدي بهدف زعزعة استقرار الضحية النفسي وتشكيكها في إيمانها ويسعى لزرع الشك في عقلها. وهذا الأمر غالبًا ما يشوه الذاكرة والإدراك ومن شأنه أن يزرع بذور الدمار الذاتي لدى الضحية. ترتكز هذه الآلية على مهاجمة القدرة على التفكير وإبطالها، والتي هي مؤشر ضروري للاستدلال على صحة الفرد النفسية. إن عرقلة هذه القدرة تعني عرقلة قدرة الضحية على الحلم. وبفقدان الحلم، تفقد الضحية قدرة على ""الترميز"" – أي منح الأمور والشخصيات والأحداث الواقعية معني رمزيا وبعدا مجازيا.. أي خلق رمز.

إن قدرة الفرد على التعامل مع الأحداث من خلال إعطائها رموزا، يحرره من ضرورة التعامل الفوري مع الأمور المؤلمة، ويمنحه مساحة كافية للتنفس لكي يتمكن من التعامل مع الآلام بشكل أكثر حرية وصحة ومرونة. إن مساحة التنفس هذه تحمي الفرد إلى حد كبير من حدوث صدمات نفسية. فالصدمة النفسية هي تلك المساحة التي تفقد فيها الأمور رمزيتها، ويتعامل خلالها الفرد مع الألم بشكل مباشر من دون حماية. نرى ذلك بشكل جلي في الغرفة العلاجية، إذ لدى استفاقة الذكريات النفسية الصادمة يشعر الفرد بأن الحدث (أو الحادث) يحدث له الان، أي خلال اللقاء العلاجي، ويحيا لحظات من الرعب الفعلي داخل العلاج. ومن هنا، ليس صدفة أن القدرة على خلق الرموز تستند بشكل شبه مطلق على القدرة على التفكير.

تفاوتت نظريات التحليل النفسي بمواقفها تجاه القدرة على التفكير. الأقرب إلى عقلي والأحب إلى قلبي هي التي ترى بأن القدرة على التفكير تولد، لا بل يتم تشغيلها من خلال انكشاف الفرد إلى حالة أو حالات من الفقدان. فإذا راقبنا ذلك الرضيع وراقبنا ما يحظى به من اهتمام لرأينا أن من خلال تفاعله مع البيئة (الأم) يتبلور إيقاع منتظم. وأن الحفاظ المطلق على هذا الإيقاع سيمنح الطفل الراحة، لكنه لن يحثه على التفكير. لذا، فإن حدوث تشويش في هذا الإيقاع إلى حد ما سيساعد الطفل بتطوير قدرته على التفكير. مثلا، إذا جاع الطفل وأراد من الحليب (الاكتفاء) أن يأتي.. وتأخر ذلك الحليب، سيشعر بالضائقة كما هو متوقع. ولكي يهدئ من روعه ويخفف من ضائقته، سيبدأ بالتخيل بأن الحليب ""جاي على الطريق"". وعندما يتمكن الطفل من التخيل بأن الحليب (الاكتفاء) آت ذلك يعني بأن الطفل أصبح قادرا على التفكير والحلم، وهذه هي أولى بدايات الحلم وأولى بدايات التفكير. لذا فإن الطفل الذي لا يحلم ولا يملك القدرة على التفكير سيحتك ببيئته الخارجية بشكل وجودي الأمر الذي يزيد من معاناته، مما يعرض الطفل (والبالغ) إلى خطر الانهيار النفسي.

ما علاقة ذلك بالعنف السياسي إذن؟

إن العنف السياسي لا يستند فقط على العنف الاقتصادي وسن القوانين ومهاجمة الجسد، بل إنه يرتكز أيضا على العنف النفسي كعنف شامل ضد فرد أو مجموعة، بهدف عرقلة قدرتها على التفكير. هذا الأمر يضر بشكل كبير بالبنية التحتية النفسية، وبانهيارها ينهار الجسد والعقل معا.

في السياق الفلسطيني، تصعيد الضغط النفسي من قبل الاحتلال آخذ بالتطور من ناحية تكتيكية، فهي تسلب الأرض تقتل الجسد وتحاول جاهدة ليل نهار تغيير الرواية وبناء رواية جديدة بهدف التشكيك في الرواية الفلسطينية. فهذه السياسة وضعت نصب عينيها في نهاية المطاف تفكيك قدرة الفلسطينيين على التفكير، مما من المفروض يمنع الحلم ويحول الرابط بين الفلسطينيين والأرض إلى رابط فيزيائي بحت، والرابط بين الفلسطينيين وروايتهم إلى رابط مضعضع. وكممارسات ممنهجة، إن قتل شيرين أبو عاقلة لم يكن بذلك الأمر المفاجئ، لكن ""المفاجأة المتوقعة"" كانت تحويل أبو عاقلة إلى رمز وطني وإرث قومي خلال ساعات من الحدث، لا بل خلال دقائق، وهذا ما لم يتوقعه من قام بقتلها. فرغم قتلهم لصوتها وقنصهم لمساحة الأمل التي كانت تحتضنها لأجلنا، أتى الرد الفلسطيني وبقوة- كرد كل طفل حول انتظار حليبه بفارغ الصبر، وبالتالي قتلت شيرين جسدا لكن الفلسطينيين قاموا بخلقها من جديد على هيئة رمز لا يموت! فالفلسطينيون هم شعب ذو قدرة هائلة على التبلور من جديد، فقد جسّدوا وأثبتوا أنه بارتقاء قدرة الإنسان الفكرية، ترتقي قدرته على إنشاء الرموز، على الحلم وبالتالي ارتقاء في حالته النفسية، وفي ذلك إبداع. ولطالما أثار الإبداع في خلق الرموز حفيظة كل مستعمر. فالكتاب والشعراء والأدباء كانوا دوما أول من يزج في السجون، وبعدهم السياسيون. فالحالم والمبدع خطير مثله مثل الثائر، والفلسطينيون هم شعب يحيا يتبلور وينهض كل مرة من جديد، لذا، فبدلا من تفكيك الرابط مع الأرض والذي افترض الاحتلال أن يحدث، نرى أن هذا الرابط ازداد، لا بل أصبح أقوى وكأنه ينتقل من جيل إلى جيل عبر الكروموزومات. وبدلا من ضعضعة الرواية الفلسطينية، نرى بأنها آخذة بالاتساع والتداول، ويعود هذا إلى عدم فقدان القدرة على التفكير. وبالتالي تقوم على القدرة بخلق الرموز والتي من شأنها أن تحافظ على صحة الفرد النفسية وبالتالي تحافظ على قدرته على التفكير والحلم وكأنها نظام بيئي نفسي يغذي نفسه بنفسه ويتغذى من نفسه ولا يقوى أحد على اختراقه.

طوني حداد

معالج نفسي ومحاضر ومتخصص في التحليل النفسي

شاركونا رأيكن.م