ما بين الاحتلال والانحلال
الجريمة المنظمّة في السياق الإسرائيليّ، وما هي خصائصها:
جميع منظمّات الإجرام عالميا تُلائم نفسها للشروط والظروف المحيطة بها. على سبيل المثال، الجريمة المنظمّة في الولايات المتحدّة تختلفُ عمّا يُقابلها في إسرائيل. كلّ فعل إجراميّ منظم يلائم نفسه للقوانين في الدولة، ليتمكّن من الالتفاف عليها، في مسألة "تبييض الأموال" تحتاج الجريمة المنظمّة للالتفاف على القوانين بشكلٍ مختلف وفقا لكلّ دولة بسبب اختلاف القوانين بينَ الواحدة والأخرى.
عندما نقول "جريمة منظمّة" فهي منظومة معيّنة، تختلفُ عن فعل إجراميّ أو عنف فرديّ، هي منظمّة لها رأس ونائب رئيس، لها أذرع وأجهزة؛ ذراع أمنيّ وذراع استخباراتيّ وذراع تنفيذيّ وذراع ماليّ، وأهمّ ذراع في التنظيم هو الذراع الماليّ، باعتبار هذهِ المهمّة مشابهة لـ "وزارة الماليّة"، ولن تستطيع الجريمة المنظمّة الاستمرار من دون الذراع الماليّ تحديدا، هي دائما تحتاج من يجنّد لها أموالا، ومن يعمل على تبييض الأموال، لدفعِ المعاشات، وما إلى ذلك.
في إسرائيل تاريخيا لم تكن هناك جريمة منظمّة وفي أواخر السبعينيّات ظهرت لجنة تحقيق تحت اسم "شمغار"، وأقرّت أنه لا يوجد جريمة منظمّة وقامت بعديدِ من التحقيقات وبحثت، وأيضا في الثمانينيّات، وحتى أذكر أنه صدر كتاب بعنوان "هل يوجد جريمة منظمّة في إسرائيل؟" بسبب وجود حالات إجراميّة؛ تجّار مخدرات، وإطلاق نار وما إلى ذلك بشكلٍ كبير ولكن لم يكونوا على قدر من المعلومات لإثبات أنها جريمة منظمّة، وترتيب هرميّ، فهي ليست جريمة منظمّة. ومن المهمّ التنويه أن إسرائيل لم تكن تشدّد بالنسبة لقوانين تبييض الأموال. مثلا في حال كنت يهوديّا تمتلك 10 ملايين دولار وجئت إلى إسرائيل، لن تسألكَ الدولة "من أين لكَ بهذهِ الأموال؟"، وبالتالي حينما انهار الاتحادّ السوفييتي، قدمَ العديد من الأوليغاركيين (الذين جمعوا أموالا من سوابق إجراميّة سواء تبييض أموال وغير ذلك)، إلى إسرائيل بسبب عدم تشديدها من هذهِ الناحية، بينما كندا على سبيل المثال لم تسمح لهم بدخولِ أراضيها من دونَ كشف هذهِ الأموال. ومنهم من قام بشراء بنايات وفنادق وفرق كرة قدم، دونَ أي مساءلة حتى، وأذكر أن قادة الجريمة المنظمّة اجتمعوا حينها داخل فندق في إيلات لتقسيم مناطق النفوذ عالميا، هكذا: أنتَ مسؤول عن تجارة الكافيار في البحر الأسود ومحيطه، وأنتَ ستكون مسؤولا عن تجارة الماس في أفريقيا، وآخر مسؤول عن تجارة مخدّرات في أميركا، وقاموا بتقسيم الأدوار أمام أعين الشرطة والاستخبارات، ولم تتحرّك ولم تقم بفعلِ شيء، بسبب اتفاقيّة غير مكتوبة، وهي أنه طالما لا توجد جرائم [قتل] في إسرائيل، إذن "استمرّوا في ارتكاب الجريمة بحريّة".
منظمات الإجرام في المجتمع العربي:
المنظمّات الإجراميّة في المجتمع العربي بدأت تتطور بعد العام 2003 ، لا بد من القول إنه في أعقاب الفراغ الناتج عن تفكيك المنظمّات الإجراميّة في الوسط اليهوديّ، برزت العصابات العربيّة، والتي اعتبرت مقاولا "درجة ثانية" في السابق عندَ نظيرتها اليهوديّة، ولكن مع انهيار الأخيرة تقدّمت في الدرجة، علماً أن هذهِ المنظمّات لديها مراتب ودرجات وهكذا.
من جهةِ الدولة، هي لاحظت المُجريات في بدايةِ الألفيّة بعدما انهارت العصابات اليهوديّة، ولم تتحرّك، لأنها معنيّة فقط بمحاربةِ الجريمة في مركز البلاد لدى الوسط اليهوديّ، وليست معنيّة في محاربة الجريمة المنظمّة في المجتمع العربيّ. وفي موضوع السلاح خلقت تمييزا بينَ "سلاح جنائيّ" و "سلاح أمنيّ"، وتاريخيا من منظورِ إسرائيل؛ العربيّ محظور عليهِ السلاح، في حال نظرنا قبل أربعين سنة سنلاحظ أن العربيّ لم يجرؤ على حملِ السلاح لأي هدف، مدركا أن الدولة في كلّ الأحوال ستُلاحقه. مخدّرات ممكن، وسرقات ممكن، أما السلاح فمحظور على نحو مطلق. ولكن حينما بدأت الدولة تغضّ النظر عمّا تراه "سلاحا جنائيّا"، فإن المُجرمين أدركوا هذا الفصل وقاموا بتطبيقهِ، بمعنى الدولة أطلقت الحريّة لهم في هذا المعنى. المجرمون يعلمون أن تنفيذ جرائم في الوسط اليهوديّ هو بمثابة "خطّ أحمر" أمامهم. على سبيل المثال، أنت عربيّ من شفاعمرو أو أية بلدة عربيّة لديكَ خلاف وهدف للقتلِ، تنتظرهُ حتى يتواجد في بلدةٍ عربيّة لتنفيذِ المهمّة، ولا تقم بالفعلة في العفولة أو نتانيا. بالتالي رؤساء العصابات والمنظمّات لا يرتكبون جرائم في الوسط اليهوديّ، وفي حال ارتكبت يعتبرونها "خطأ"، ويعرفون "الخطّ الأحمر".
كذلك حدث مثلا أن دبّ خلاف بينَ أفراد عرب داخل مدينة نوف هجليل (نتسيرت عيليت سابقا)، ومنعا لإطلاق رصاص تواجدت قيادات الشرطة بأكملها تحت بند منع "تعريض حياة الناس للخطر" الذي يسجن وفقا له ما يُقارب الـ 20 عاما. والدولة في هذهِ الحادثة قامت بالعملِ بقوّة كبيرة. وهذهِ الحادثة تعلمنا متى تأخذ الدولة الأمور بجديّة.
محاربة الجريمة المنظمّة بالمجتمع العربيّ، مع التشديد على أن شكلها الاجتماعيّ هو عائليّ:
أولا علينا أن نذكر أن المنظمّات الإجراميّة في الوسط اليهوديّ هي أيضا عائلات وأقارب، وما إلى ذلك، ولم تكن عائقا بتاتا أمام الشرطة في محاربة وتفكيك هذه العصابات. ثانيا حينما تُحارب جريمة منظمّة عليكَ بدايةً تجفيف المنابع الاقتصاديّة، بالتالي تقوم بهدمها من الأساس، بحيث لن تستطيع دفع معاشات لأحد، وعندها المنظمّة تنهار. أذكر مثال "تنظيم روزنشتاين"، الذي كان يضم ما يقارب الـ 300 شخص، ولم يقوموا بسجنهم جميعا١، وفقط قاموا باعتقال عدّة أشخاص، والمنظمّة وقعت ودمرت.
رغم أنه لا يوجد حل سحري، ولكن يجب أن يكون لدينا رادع كمجتمع، وأن يستعمل سلاح المقاطعة، وهنا أعني مقاطعة ونبذ كل من له علاقة بعالم الجريمة، ولكننا للأسف لا نستعمل هذه الوسيلة، نعم سنستمر بالمطالبة من المؤسسة وتذكيرها بتقاعسها، ولكن الدولة تعلم أنه لا يمكن لشعبنا أن يتحرر من الجريمة طالما قيادته تتعامل مع الأمر بكفوف من حرير. ثقافة "العربدة" هي الأساس في مصيبتنا متى تخلصنا منها سنجبر الدولة أنّ تقف بجد في هذه القضية.
الحكومة الإسرائيلية ورئيسها لديهم أوراق عمل جدية بخصوص مكافحة العنف والجريمة بالمجتمع العربي ولكنهم غير معنيون بالأمر في الوقت الراهن ومن هنا يجب ألا نعول ولا نثق بالجلسات مع الحكومة الجديدة خصوصا أن الوزير المكلف بمحاربة الجريمة (بن غفير) سوف يكون بحد ذاته المشكلة وليس الحل.
لكي لا يضيع المعنى أنا أيضا اقترح إنشاء سلطة حكومية لمحاربة العنف والجريمة في المجتمع العربي لمراقبة عمل الشرطة والوزارات، بالتعاون مع باحثين ومختصين من المجتمع العربي ومع ممثل عن لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل، بحيث يكون عضوًا في مجلس إدارة هذه السلطة. وهذا، إلى جانب ما يجب أن تقوم به الشرطة.
كاتب المقال: د. وليد حداد وهو باحث ومحاضر في علم الاجرام.