"لا يحرث الأرض إلّا عجولها"
يُعتقد أنّ من يحافظ على البيئة هم أولئك الناشطون البيئيّون الذين يأبهون بشأن جودة الطبيعة، التلوّث والمناخ، وحقوق الحيوانات، وكل ما يتعلّق بالبيئة المحيطة لنا. ولكن، هل حفاظنا على الأرض هو فقط لمن تهمّه البيئة أم هي واجب وطنيّ قبل أن يكون واجبََا بيئيََّا اتّجاه أرضنا التي نناضل لأجلها منذ أكثر من قرن؟
الكثيرون من أبناء المجتمع الفلسطينيّ يعبّرون عن انتمائهم لأرض فلسطين وإصرارهم على البقاء بشتى الطرق، خصوصََا إزاء ما تحاول السلطات الإسرائيليّة تنفيذه من طمس للهُوية الفلسطينيّة للمكان والحيّز ومحو الوجود الفلسطينيّ بكلّ قوة. جميع الذكريات الّتي سمعت بها عن أهلي وأجدادي هي ذكريات في أحضان الطبيعة، في فلاحة الأرض والحفاظ عليها. جدّي من جهة والدتي، على سبيل المثال، بالرغم من كونه صيدلانيّ المهنة إلّا أنه كان فلّاحًا يحبّ أرضه ويحافظ عليها وكأنها فردًا من عائلته. هكذا، ترعرعت على مسمع أمثال شعبيّة كـ ""الأرض مثل العرض"" و- ""ما يحرث الأرض إلّا عجولها""، تؤكّد على أهميّة الأرض وأهميّة الحفاظ عليها. الكثيرون من آباء وأجداد أبناء شعبنا الفلسطينيّ كانوا وما زالوا مثل جدّي بالضبط، يخافون على الأرض ويحافظون عليها وعلى البيئة لأنّها وطنهم وبيتهم.
تحاول الحركة الصهيونيّة جاهدة، منذ احتلالها لأرض فلسطين حتّى يومنا، سلخ الفلسطينيّ عن أرضه، وتحويله إلى متنقّل لا علاقة له بالمكان والبيئة الموجودة، وذلك ""لإثبات"" مقولتهم الشهيرة ""شعبٌ بلا أرض لأرضٍ بلا شعب""، وبالتالي شرعنة احتلالهم للأرض والمكان وشرعنة وجودهم هنا.
أولى الأمور الّتي اهتمّت دولة إسرائيل على إتمامها هي محو الرابط بين الفلسطينيّ وأرضه، فحدث ذلك من خلال هدم القرى المهجّرة وزرع الأشجّار عليها لإخفاء الآثار، مصادرة أراضي تابعة للفلسطينيّين، سنّ قانون ملكيّة الغائب عام 1950 وذلك للاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيّين وأراضيهم، وتطول القائمة من السياسات والقوانين التي تجرّد الفلسطينيّ من كلّ ما يملك.
كان الفكر الصهيونيّ بوصلة لجميع شرائح المجتمع اليهوديّ، فإنّ جميع مخطّطاتهم واستراتيجياتهم تتماشى معه. كذلك الأمر أيضًا مع الحركة البيئيّة الإسرائيليّة، التي بُنيت على الفكر الصهيونيّ الّذي يرى بالأرض ليس مكانََا للعيش فقط إنّما إرثَ ودليلًا على الوجود، وبالتالي واجب الحفاظ على الأرض والبيئة لا ينمّ عن أهداف بيئيّة فقط إنّما أيضََا عن تطلّعات سياسيّة وطنيّة. هذه البوصلة تُفسّر تعامل الحركات البيئيّة الإسرائيليّة مع المجتمع الفلسطينيّ، الّتي لا تنادي بتحقيق العدل البيئيّ مع الأقلّيّة القوميّة في البلاد لكونه مربوطََا بالعدل الاجتماعيّ وذلك يتناقض جوهريًّا مع مرجعيّتهم الفكريّة.
إضافة إلى ذلك، تستخدم المؤسَّسة الإسرائيليّة الخطاب البيئيّ لمحاولة طمس رباط الفلسطينيّ مع الأرض، الأمر الّذي له تبعاته على رغبة الأخير التماثل مع الخطاب البيئيّ. على سبيل المثال لا الحصر، منع المؤسّسة الإسرائيليّة من الفلسطينيين قطف الأعشاب البريّة مثل الزعتر، والعكوب، والميرمية وغيرهم من الأعشاب وذلك بدعوة الحفاظ على البيئة، كما وقامت المؤسسة الإسرائيليّة بتصنيف تلك الأعشاب بـ ""النبات المحميّ"" لفرض عقوبات وغرامات ماليّة باهظة الثمن على من يخالف التعليمات، علمًا بأنّ تلك النباتات هي جزء من تراثنا ومن أكلنا، ودوائنا وحتى زينتنا. تحمل هذه السياسة في طيّاتها أهدافََا لتفكيك علاقة الفلسطيني مع أرضه ومع تراثه الذي اعتاد عليه منذ زمن. فلاحة الفلسطينيّ للأرض على مدار قرون جعلته يعرفها جيّدًا، ويعرف متطلَباتها وحالتها، وما وجعها ودواؤها، وهذا تطوّر طبيعي لكلّ شعب تعود أصوله إلى فلاحة الأرض.
لا تقوم السلطات الإسرائيليّة فقط بالحدّ من علاقة الفلسطينيّ مع أرضه، بل تحاول محو وجوده وجذوره من خلال زرع الأشجّار على أنقاض القرى الفلسطينيّة المهجّرة. الأشجار الّتي استخدِمت هي أشجار الصنوبر والتي بطبيعتها غير ملائمة إلى مناخ الشرق الأوسط وبالتالي سريعة الاحتراق، وكان ذلك جليََّا ومحطّ نقاش خلال العام الماضي عند احتراق الجبال المحيطة بمدينة القدس والكشف عن أنقاض القرى الفلسطينيّة المهجّرة التي حاولت السلطات الإسرائيليّة أخفاءها بعد النكبة.
عقودٌ طويلة من الاحتلال ومن الممارسات التي تحاول إعادة كتابة الماضي للتأثير على الحاضر والمستقبل، نرى صدى لها في بعض المجالات ومنها المجال البيئيّ. محاولات المؤسسة الإسرائيليّة اللامتناهية لتفكيك علاقتنا بأرضنا لم تتمخّض عن إقامة حركة بيئية فلسطينيّة تحمل الخطاب الوطنيّ البيئيّ شعارََا لها، إذ كما أسلفت سابقََا، لستَ بحاجة لأن تكون ناشطََا بيئيََّا لكي ترعى البيئة، بل يكفي شعور الانتماء للمكان. بإمكان هذه الحركة أن تعيد الخطاب البيئيّ الفلسطينيّ إلى جدول أعمال المجتمع وأن تعيدنا إلى جذورنا وبيتنا الأصليّ الّتي تحاول المؤسّسة الإسرائيليّة الاستيلاء عليه ومحونا منه. بإمكان الحركة البيئيّة الفلسطينيّة أن تُذكرنا أن الحفاظ على البيئة وعلى الأرض وعلى كلّ ما يندرج تحت الحيّز العام هو بمثابة واجب أخلاقيّ ووطنيّ لا يُمكن التنازل عنه ما دمنا نُصارع لأجل تحقيق استقلالنا.
يحتاج بعض الفلسطينيّين إلى إعادة إحياء رابطنا بالأرض، وهذا لا يعني أَنّنا نسينا الأرض ونسينا قضيّتنا، فإنّ علاقتنا بالأرض تحوّلت واخذت معنى مُتمدّنََا أكثر، لذلك نسي بعضنا أنّ الحفاظ على البيئة والأرض هو واجب وطنيّ وأخلاقيّ اتّجاه الوطن، اتّجاه أجدادنا الذين فلحوا هذه الأرض بكلّ حبّ وشغف، واتجاه الأجيال القادمة الذين نريدهم أن يكونوا إكمال مسيرتنا وتوطيد علاقتهم مع الأرض أكثر. يجب أن نعيَد علاقتنا مع البيئة المحيطة لنا، والتعامل مع الأرض من منطلق الحبّ والانتماء كما يتعامل كلٌّ منّا مع بيته وحيّزه الخاصّ.
الصورة: من صفحة ""طبيعة فلسطين"" في الفبسيوك."