كيف ننشئ مبنًى ودودًا للبيئة ولحسابنا البنكي؟!

تعتبر الاستدامة البيئية إحدى القضايا الرئيسية التي تشغلنا حاليًا وستشغلنا أكثر في المستقبل وبطبيعة الحال لها أثرها على التصميم والهندسة والبناء. في الواقع؛ المشاريع المعرّفة بأنها ""خضراء"" تثري المشهد المعماري وتحرص على الاستدامة البيئية. فالبناء الأخضر يعني التصميم والبناء والاستخدام الفعلي والهدم وإعادة التدوير والتخلص من نفايات البناء بصورة حريصة على صحة الإنسان الى جانب فائدتها البيئية والاقتصادية.

لا يزال المجتمع العربي غير مكترث لموضوع البناء المستدام، ربما تكون ضائقة السكن أحد هذه الأسباب، وربما السرعة في إنشاء المباني، أو الحاجة الملحة للسكن، لكن تبقى الثقافة والوعي هي العوامل الأساسية الاكثر تأثيرًا على هذه الحالة من اللامبالاة تجاه البناء الأخضر- ليس البناء فقط وإنما نمط الحياة اليومي- وهي التي يجب أن نسعى لتغييرها والتأثير عليها كمعماريين ومهندسين.

قد يدّعي الناس بأن هذا النوع من البناء أكثر كلفة من حيث التخطيط والتصميم والتنفيذ، لكنه أكثر توفيرًا بعد استخدامه. وكما يقول المثل الشعبي ""الرخيص غالي"" أي إن الحرص على عدم استخدام مواد خام أو مجهود تخطيطي غالي الثمن سيودي بصاحبه إلى دفع ثمن أكبر لاحقًا يتمثل في التكييف واستهلاك كبير للماء والكهرباء، واستهلاك باهظ للطاقة وبالتالي تلوث بيئي أعلى.

إذا عدنا بالزمن إلى الوراء سنلاحظ أن الإنسان العربي في البلاد كان يبني بيوتًا تتناسب مع البيئة، فنرى الجدران السميكة، والأسطح العالية، والشبابيك التي تتيح دخول الشمس بزوايا معينة. لم يكن هذا يسمى بناء مستداما لكنه كذلك والدليل على ذلك كونه صامدًا حتى اليوم وفيه كل المزايا التي يحتاجها الإنسان في بيته. وهنا أود أن أشير إلى إحدى الظواهر السلبية في البناء في مجتمعنا وهي استثمار المساحات – وهي بلا شك تؤثر على الاستدامة – فهناك ميل لبناء بيوت بمساحات واسعة جدا دون أن تكون لدى سكان البيت حاجة فعلية لكل هذه المساحات، وبالتالي فهناك هدر لمساحات البناء.

منذ بداية شهر آذار 2022 سيدخل قانون البناء الأخضر حيز التنفيذ، وسيشكّل رادعًا فعليًا وموجهًا للتخطيط وكيفية استخدام الموارد وطرق البناء المناسبة. وعينا والقانون يحتّمان علينا طرح أسئلة خلال عملنا قبل الشروع في التصميم والتخطيط لأي مبنى سواء أكان بيتًا خاصًا أم مبنى جماهيريًّا؛ وهو: كيف ننشئ مبنًى ودودًا للبيئة؟ هذا يدفع المصمم والمهندس للتفكير في المبادئ المهمة للبناء الأخضر. تطبيق هذه المبادئ متاح في المباني الجماهيرية لكنه يشكل تحديًا فعليًّا عند تخطيط بيوت سكن خاصة. ومع ذلك من المهم تعريف الجمهور بهذه المبادئ:

تقييم الاحتياجات

إنشاء المباني له قدر كبير من التأثير البيئي؛ لذلك من الضروري تحليل وتقييم استهلاك المساحات بأفضل صورة ممكنة، وهذا يُلزِم المخطط بالحرص على تحديد الأولويات.

المناخ المحلي

يتم تدريس أسلوب التصميم المعماري للمصري حسن فتحي بوصفه أحد أبرز المستثمرين للظروف البيئية في البناء. ففي كتابه ""عمارة للفقراء"" يطرح بحثه حول طرق البناء التقليدية واستخدام مواد البناء المحلية، فقد قام فتحي بتدريب السكان المحليين على إنتاج مواد البناء وتفاصيل المبنى وإنشائه بأنفسهم.

فبُنيت مبانٍ ذات قباب وفتحات مظللة يتدفق فيها الهواء الذي يبرد في الظل وهو ما تحتاجه البلاد الصحراوية الحارة كمصر والجزيرة العربية. كان مشروع حسن فتحي أول مشروع في التاريخ ينتهي قبل موعد تسليمه المحدد وبتكلفة أقل بنسبة 25 % تقريبا من التكلفة التي رصدت له.

عند أخذ المناخ بعين الاعتبار فإن ذلك يتيح استثمار الطاقة الشمسية لتحسين الإضاءة الطبيعية والتهوية مع توفير كبير في الطاقة – اقتصاديًا- والراحة العالية.

في فصل الشتاء يهدف استخدام الطاقة الشمسية لتدفئة المنزل دون استخدام أنظمة متطورة مثل التكييف. من خلال دراسة حركة الشمس ودورانها، يمكن ملاحظة موقعها في الشتاء في الجهة الجنوبية فقط، وبمستوى مداري منخفض. تسمح هذه السمات باختراق ممتاز للأشعة إذا كانت معظم فتحات البيت في جهته الجنوبية.

أما في فصل الصيف فالتخطيط السليم للفتحات والتظليل يمنع تغلغل أشعة الشمس المباشرة لأن الشمس تتحرك في مسار أكثر شمالا وبزاوية عالية جدًا.

أما البناء في المناطق الصحراوية فيتيح الحصول على مبان تخزن جدرانها السميكة الحرارة أثناء النهار وتنبعث منها في الليل. بهذه الطريقة يتمتع الساكن بالبرودة النسبية خلال النهار والحرارة المخزنة خلال الليل البارد.

تصميم هندسي بيئي لتوفير الطاقة

وهذا يعني تحقيق وفرة اقتصادية مباشرة؛ لأن العوامل المهمة لتوفير الطاقة هي العلاقة بين السطح الخارجي للمبنى وحجمه والعزل الحراري المتوفر. يتم التوفير أيضًا من خلال استخدام أنظمة عصرية عالية الأداء ومنخفضة الاستهلاك من أجل تهوية المبنى والإضاءة الاصطناعية والمعدات الكهربائية.

استخدام النباتات

لإكمال عملية التظليل عندما تكون الشمس منخفضة، يتم التخطيط لتغطية الزاوية التي تتعرض للشمس بوساطة النباتات الموضوعة في المكان الصحيح. جزء من الاعتبارات المتعلقة بالنباتات التي نستخدمها هو سلوك النبات على مدار العام. وواحدة من أكثر النباتات ملاءمة في هذا الصدد هي نبات العنب (الدوالي).

في الماضي كان نبات العنب (الدوالي) يستخدم للتظليل كونه نباتا متسلقا ومغطى بالأوراق ويوفر الظل بشكل كبير في الصيف، بينما في الشتاء يكون عاريًا ويسمح بتغلغل أشعة الشمس.

يمكن الحصول على تأثير مماثل باستخدام شفرات التظليل بزوايا محددة. يمكننا ضبطها وفقًا للفصول والساعات والاحتياجات. بهذه الطريقة نحصل على شمس الصباح في الشتاء ونحجب معظم الأشعة في الصيف. بالإضافة إلى كل ذلك، توجد أيضًا عناصر متحركة على عدة مستويات (يدوية / كهربائية) تتيح التحكم الكامل بالظل الناتج.

الجودة العالية

تتميز المباني المستدامة بجودة عالية وعمر أطول، وتسهل صيانتها لأنها قابلة للتكيّف مع التغييرات في الاستخدام، فتتطلب إصلاحات أقل وفي نهاية دورة حياتها يمكن تفكيكها والتخلص منها بسهولة خاصة إذا كان نظام البناء بسيطًا ومعتمدًا على المواد القابلة لإعادة التدوير (مستحضرة أو مصنعة في المنطقة ذاتها). يؤدي استخدام المواد القابلة لإعادة التدوير إلى إطالة عمر المواد في الدورات البيئية والاقتصادية، مما يؤدي إلى تقليل استهلاك المواد الخام وكمية النفايات والتكاليف.

عند تصميم مبنى من الضروري استخدام التقنيات التي تعتمد على الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية والغاز العضوي والخشب. تعتمد الكثير من البيوت على الألواح الشمسية لإنتاج الماء الساخن، فيما تعتمد المنشآت الأكبر حجمًا وتعقيدًا على الألواح الكهروضوئية ومولدات الرياح.

توفير الماء

يتمثل الاستخدام الحكيم للمياه في اعتماد الأجهزة التي تقلل من استهلاك المياه وكذلك استخدام مياه الأمطار للأغراض المنزلية كالغسيل والتنظيف والري.

تجنّب المخاطر الصحية

تنبع المخاطر الصحية على سكان المبنى من استخدام بعض مواد البناء التي تنبعث منها كميات كبيرة من المساحيق والألياف والمواد السامة الأخرى أثناء الإنتاج والمعالجة، وهي ضارة حتى بعد البناء ومع مرور الوقت.

المواد الخام المتجددة

للحصول على بناء مستدام يجب البدء من اختيار مواد خام محلية متوفرة بكثرة ومتجددة مثل الخشب.

إدارة النفايات البيئية

من أجل إدارة بيئية سليمة للنفايات الناتجة عن عمليات الهدم والتجديد، يجب تقليل الكمية والتنوع للسماح بإعادة التدوير أو التخلص منها بوساطة التقسيم إلى فئات.

من أجل الشروع ببناء مستدام وبيئي يجب أن تكون هناك دراية ووعي بأهمية هذا البناء، بالإضافة إلى دور المعماري أو المصمم في مراعاة أدق التفاصيل في البناء المتوافق مع المناخ مثل درجة الحرارة والرطوبة النسبية، واتجاه الرياح وشدتها، وشدة أشعة الشمس، والأمطار وما يصاحبها من الرياح وشدتها واتجاهها أثناء هطول الأمطار. من واجبي كمعماري أن آخذ دورًا في التوعية والتأكيد على البناء، بحيث يجب أن يكون عمليًا وملائمًا لاحتياجات سكانه، وأن الترميم المستمر عبارة عن تكاليف باهظة يمكن تفاديها كلما تم تصميم وتخطيط المبنى بصورة مدروسة، كذلك من المهم أن أعيد وأؤكد بأن البناء الأخضر أكثر توفيرًا على المدى البعيد دون أن يمس أول يقلل من جمال ورقي التصميم ذاته.

الصورة: من موقع المهندس المعماري والمخطط الحضري مجد السعد، على الرابط التالي."

خالد عباس

مهندس معماري

شاركونا رأيكن.م