أنا أعبر عن علاقتي الأخلاقية بالنكبة من خلال المزرعة. هذا ليس دليلًا عن كيفية مقاومة النكبة. بل هو استقصاء عما يعنيه أن تكون في الآونة الأخيرة مع الصحبة الجيدة لأولئك الذين يعودون إلى الأرض ويعملون فيها، ويرتبطون بالنكبة بطرق غير مألوفة. هذه الطرق هي تسوية متعمدة تحمل في حركتها عدم الاستقرار. إنها تحمل في طياتها الأمل والهشاشة في نفس الوقت.

الدبكة

قبل شهرين ، أقيمت احتفالات في دولة ناطحات السحاب ""رام الله"" لإحياء ذكرى مرور 68 عاما على النكبة. تلاها نقد كاسح لهذا الحدث. واستهجن الكثيرون إحياء ذكرى النكبة برقصة الدبكة الفلسطينية التقليدية، وأغاني نجم برنامج ""محبوب العرب"" محمد عساف، وقبعات هدايا مصنوعة في إسرائيل. وخلص أحد المراقبين إلى أن ""ذكرى النكبة أصبحت سلسلة من الطقوس الخالية من القيم الروحية والوطنية"". [1]

بينما يمكن للمرء أن ينتقد بشكل مبرر الاستحواذ الرأسمالي للمحتلين في ارتداء القبعات المصنوعة في إسرائيل، كنت أتساءل ما هو الخطأ في تنظيم أداء الدبكة. هل قال النقاد إنه من الخطأ التعامل مع النكبة بشروط لا تصورها بشكل أساسي ك""كارثة"" أو ""مأساة""؟ هل كان النقاد يحصرون طقوس النكبة بالمأساة - مع ما يصاحب ذلك من مشاعر الحزن والندم والفشل - كيف يحيي (جميع) الفلسطينيين ذكرى النكبة؟

النكبة بلا حدود

النكبة هي أشبه بالتمزق، سلسلة لا حد لها، هيكل من السلب والفصل. النكبة بالنسبة للفلسطينيين هي الانفصال عن الذات والآخرين والأرض. إنها بالتأكيد تتجاوز الأحداث التي وقعت حوالي عام 1948 وما يصاحبها من تأثيرات.

كما أشار بعض الباحثين إلى أنَّه عندما نمثل النكبة على أنها محصورة بالأحداث التي حصلت في عام 1948، يمكن أن تكون ردود أفعالنا ضيقة المجالات ومقيدة فقط. وبالتالي، إذا كانت النكبة عملية مستمرة وتتطور باستمرار، فإن مشاركتنا في النكبة لا يمكن أن تظل راكدة.

ما هي الطرق الأخرى التي يمكننا تخيل إحياء ذكرى النكبة بها؟ قام الفلسطينيون في مناطق 1948 مؤخرا، بتنويع احتفالات إحياء ذكرى النكبة، من خلال الفنون وأنشطة للأطفال والدبكة.

وبحسب زياد عويسي، أحد منظمي مسيرات حق العودة في مناطق ال 48 ، فإن جزءًا من التردد في الابتعاد عن الأساليب القديمة لتذكر النكبة كان ""بدافع الاحترام"" للجيل الأكبر سنًا ، أولئك الذين عاشوا بشكل مباشر تجربة التمزق، أولئك الذين عاشوا الألم والخسارة بشكل مباشر. تُظهر الأشكال الجديدة لأداء مراسم إحياء الذكرى في مناطق ""48"" احترامًا أقل للطرق القديمة لفعل الأشياء ومحاولة التعامل مع النكبة ليس كحدث سابق بل كشيء مستمر. ومن بالغ الأهمية أيضًا التعامل مع النكبة ليس كموضوع عام حدث لجيل الأجداد، ولكن كشيء يؤثر على الناس اليوم، بأساليب تفصيلية وشخصية وخاصة.

يكسر الفلسطينيون قاعدة المألوف في تعاملهم مع النكبة بطرق عديدة ومتنوعة وجميلة. وبذلك، فإنهم يعيدون ترسيخ أنفسهم في نفس التربة التي تم فصلهم عنها قسرًا لأجيال. إنهم يتذكرون باستمرار من خلال هذه الأعمال. ومن خلال هذه العروض، هم لا ينجون فحسب، بل يزدهرون، ويخلقون مسارات لإمكانية الاستقلال والاستدامة الذاتية.

يمارس الفلسطينيون حقهم في العودة دون الحصول على إذن بذلك. يعود الفلسطينيون إلى القرى المدمرة مثل إقرث وأماكن أخرى، وينظمون مخيمات صيفية هناك، و ""يستوطنون"" الضفة الغربية كما فعلوا عندما أقاموا مخيم باب الشمس في عام 2013.

وهم يعملون في الأرض. إنهم يزرعون على الرغم من القيود الإسرائيلية ، مسترشدين بالزراعة المستدامة والمبادئ العضوية، ويطلقون مبادرات الزراعة المجتمعية ، وينشئون بنوك البذور المتوارثة ويبدأون مشاريع الكيل وفي أماكن مثل بتير، فإنهم يفعلون ذلك منذ قرون.

بدأت مؤخرًا الزراعة العضوية على دونمين من الأراضي الزراعية التي تمتلكها عائلة زياد في صفورية. تقع صفورية على بعد كيلومترات قليلة خارج الناصرة. بعد حرب عام 1948، اعتبر سكانها ""غائبين"" وتم نقل جميع الحقوق في الممتلكات إلى الوصي على أملاك الغائبين. أرض صفورية الزراعية، التي تقع على الجانب الآخر من الطريق من القرية نفسها، هي أرض غائبين تم بيعها مرة أخرى للقرويين الآخرين الذين رغبوا في زراعتها، ومن بينهم أجداد زياد.

واليوم، تطبق أشجار الصنوبر على الجزء السكني من القرية ويقيم مجتمع زراعي يهودي (موشاف)، زيبوري، في محيطها الشرقي. وبين أشجار الرمان التي يعتني بها والد زياد، لقد سمحوا لي بمساحة لزراعة الخضار العضوية لعائلتي وأصدقائي. لقد كانت التجربة رائعة، وتجسد ذلك بالشعور الجميل عند شم رائحة المطر (""بتريكور"") على التربة العطشى وملامسة أصابعي لهذه التربة الغضة، الذي كان بمثابة عتبة للمرور (crossing a threshold) للمرحلة التالية بالنسبة لي. [2]

يمكننا أن نلاحظ الصعود على العتبة من خلال نشاط الزراعة البسيط. إنني أزرع البذرة، لكن هل ستنبت؟ كيف سيبدو الملفوف الأرجواني عندما يكون ناضجًا تمامًا، وكيف سيكون مذاقه؟ هل سيصل إليه حصان الجار قبل أن نصل إليه؟ ويمكننا تجربة هذا الصعود أيضًا في تأثيرات الزراعة. كيف ستنمي الزراعة مجتمعي، وتساعد الآخرين على تناول الطعام الصحي، وأن يصبحوا أكثر استقلالية، وأقل اعتمادًا على المنتجات الإسرائيلية؟ هل سأشم الأمل في رائحة المطر اليوم؟

إن العمل في الأرض، كما يفعل الكثير من الفلسطينيين، هو وسيلة لمحاكاة النكبة بشكل استباقي ومثير للقلق، ولكنه مع ذلك ضروري في العمل من أجل العدالة التي ندرك أنها قد لا تصلنا أبدًا، ولكننا نعمل على تحقيقها على أي حال.

قد تكون العلاقة الأخلاقية مع النكبة لأسلاف زياد من خلال سرد الأحداث حول عام 1948، مصحوبةً في المقام الأول بمشاعر الخوف والسلب والخسارة. هذه بلا شك طرق صحيحة ومهمة وفي بعض الأحيان تمكِّن من التعامل مع النكبة. إنها أنماط علاقة أسلاف زياد ولكنها ليست بالضرورة نمطي أنا (أو أنت). علاقتي الأخلاقية تتجسد من خلال الزراعة. قد يكون هذا الحال أيضًا بالنسبة لك، أو قد لا يكون كذلك. على أي حال، ألا تكمن المأساة أيضًا في التفكير في أن طقوس خسارة الماضي يجب أن تكون العلاقة الرئيسية للجميع بالنكبة؟

في الختام، لا بد من التنويه إلى أنه منذ كتابة هذا المقال في عام 2016، قمت بتأسيس مزرعتين عضويتين مكثفتين بيولوجيًّا في فلسطين - مزرعة بستانا في إكسال ومزرعة كنعان في الجلمة (بالقرب من جنين) وأيضًا قدمت استشارة لعدد من المزارع والأفراد، بما في ذلك مزرعة أم سليمان الملهمة في بلعين (قرب رام الله). لقد أعددت أيضًا مبادرة عبر الإنترنت تسمى ""SoWeGrow""، حيث يمكن للأفراد تعلم كيفية زراعة الخضروات العضوية في المنزل. للحصول على معلومات مجانية والوصول إلى دورات البستنة العضوية الشاملة عبر الإنترنت، يمكنك زيارة: https://sowegrow.com/ar.

يمكنك أيضًا مكاتبتي عبر البريد الالكتروني: [email protected]

الإحالات:

[1] وُجِّه نقد مماثل إلى الفلسطينيين من مناطق 1948 لأسباب منها إقامة عرض الدبكة في ذكرى النكبة في عام 2014. راجع

https://bokra.net/Article-1251400

[2] أفكر هنا في النقلة الدلوزية بين ما هو ملموس والمنتظر تحقيقه أو تلك التي أشار إليها جون أودونوهيو في هذا المقتطف من "" Bless the Space Between Us"".

ملاحظة: تم نشر النص الأصلي في ""ملفات النكبة: النكبة والقانون وما بينهما"" عام 2016، بعد شهرين من إحياء الذكرى الثامنة والسِّتّين على النكبة."

ناصر ريغو

حاصل على الدكتوراة في مجال القانون، وهو مزارع عضوي. قام ببناء مزارع عضوية (organic farms) في فلسطين والشرق الأوسط ولديه مبادرة ناشئة باسم "SoWeGrow" التي تساعد البستانيين أن يصبحوا مزارعي خضروات عضوية، من خلال التعليم عبر الإنترنت، لإعداد الحدائق والإرشاد

شاركونا رأيكن.م