المأزق المزدوج لأثر الانتخابات الإسرائيلية
انشغل الفلسطينيون مواطنو إسرائيل في عام 2022، في سيرورة الانتخابات للبرلمان الإسرائيلي. كانت هذه هي الانتخابات الخامسة في إسرائيل خلال ثلاث سنوات. أبرز هذا الانشغال معالم السلوك الفردي والجمعي لديهم كما وأعاد رسم حدود ما يجمعهم مع المجتمع اليهودي ومع دولة إسرائيل.
قيادة
يؤمن الناشطون في الأحزاب أن من سمحت له ظروف عمله أو انخراطه ضمن إطار حزبي معيّن الوصول إلى مقدمة كادر الموظفين في الإطار فإن هذا يضفي عليه فوريا صفة "قيادي". وعليه، يصف الإعلام العربي من هو موجود "في الصف الأول" وكأنه يقود، بمعنى أنه يحمل صفة القيادة. فعليا لا ينطبق هذا على القيادة بمفهوم الكاريزما وقدرة التأثير والريادة التي تعني السبق في الإدراك والتخطيط واتخاذ خطوات سليمة وصائبة مرحلة قبل الآخرين. حيث أن في الأطر البيروقراطية، من الممكن أن يتنقل الفرد الرمادي غير الكفء من وظيفة رمادية لوظيفة متقدمة أكثر حتى وصوله للتدريج الوظيفي الأعلى لأسباب لا تمت للقدرات بل أحيانا لغياب كفاءات وغياب شخصيات مناسبة. وبعد الوصول "للصف الأول" يصرف الفلسطيني الذي وصل هناك معظم طاقاته في محاربة من ينتقد كفاءاته أو ينتقد مكانه ومكانته. لقد عكست المقابلات قبل الانتخابات استبسالا في إساءة أحدهم للآخر، في حين أننا لم نسمع برامج عمل أو أيديولوجيا لصالح الفلسطينيين كأقلية قومية في إسرائيل أو كمنتمين للثقافة الفلسطينية المجمِّعه أو للعالم العربي الأوسع.
أعادت شخصيات "الصف الأول" تثبيت شرعية عمل المختار بمفهومه التقليدي، كونه الأكبر سنا، الأول الذي وصل للصف الأول، وهذا جعله الأكثر أطيانا والأقرب للسلطة، مما سمح له بأن يرشق الآخرين بالطين بطريقة شرعية. فتحول التفكير البيروقراطي لسلطة أوتوقراطية، تستبد بالسلطة، تلوم من يلوم النمط، تدّعي سيرورات ديموقراطية حتى تقنع الأذن وتُخجل العين وتسطو على الدماغ. ساهمت منصات الإعلام والشبكات الاجتماعية في النشر ثم في تكريس الحدث الحاصل وتعميم الإساءة كجزء من السيرورة الديمقراطية للانتخابات.
لم نشهد أثناء أو بعد انتهاء الانتخابات مراجعة للذات ولبرنامج العمل لأي من الأحزاب أو الفاعلين فيها سواء "قيادات صف أول" أو أي من الصفوف التالية. هذا مثال صارخ لبؤس غياب الديموقراطية الحقة لدى الفرد والمجتمع الفلسطيني مواطن إسرائيل. رغم حمل "الديمقراطية" شعارًا ثابتًا لنا كمجتمع أصلاني مقابل الدولة على مر السنوات، فإننا لا نفحص مدى تبنينا الصحيح والصادق في تفكيرنا الفردي وفي علاقاتنا السياسية والاجتماعية.
معاهم معاهم عليهم عليهم
يستخدم هذا المثل الشعبي عند التعبير عن غياب إرادة الذات الفردية بعد إقرار أرادة القبيلة أو القرار الجَمَعي. يفيد المشهد السياسي-اجتماعي الحاصل لمجتمعنا أن هناك تأثير واضح لقائد فرقة خفي، وكأنه قائد لفرقة موسيقية، يقف تحت خشبات المسرح، بإمكانه أن يقود الفرقة لعزف مديح الائتلافات بين الأحزاب الفلسطينية فتصدح الجوقة في هذا المديح، ويبرز صوت طربي هنا وآخر هناك. وعندما يغيّر قائد الفرقة حركات عصاه، تعزف الآلات الموسيقية قدحًا للائتلافات الحزبية وذمًا للأحزاب ولمن أسسها، وقادها، وتتلمذ على يدها، وانتمى لها، وصوّت لها في صندوق الانتخاب. وترافق الجوقة هذا العزف لتصدح هذه المرة في القدح والتعزير، مضيفة أصواتا طربية تهين، تشيطن، تخوّن، تكفّر، تذلل، وتقلل من قيمة الحزب والمنتمين له.
من المؤكد أنه عند كل تغيير لنغم المعزوفة ستتبعها الجوقة وستصدح وفق الموسيقى الجديدة لأنها نشأت وتدربت على مبدأ "معاهم معاهم؛ عليهم عليهم". فما زالت العرب تفتخر بمقولة للشاعر العربي دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ “ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ". يحصل هذا عندما يربي المجتمع على منع الصوت الفردي المستقل النقدي والذي يغرّد خارج السرب وتجعله منفّرًا ومرفوضًا.
تعكس سيرورة الأحزاب اليهودية منذ نشأة الدولة وحتى اليوم رفع سقف التوقعات في أن يساهم في علو شأن الدولة والمجتمع، ثم يتم تدميره في الدورات الانتخابية اللاحقة بسبب انشقاقات داخلية على خلفية مصالح فردية وأحيانا على خلفية أيديولوجية. يرافق هذا في فترات الانتخابات الإسرائيلية إعادة بناء ائتلافات على أمل تجميع قوى تؤدي لقيادة البرلمان بنوع من الثبات السياسي. نتج عن هذا خلال سنوات قيام الدولة ذوبان أحزاب كانت في مركز الحكم والقوة أو تفتيتها وإعادة ضمها لتيارات كانت مناقضة في الجوهر لها، أو تنقّل الأفراد ذوي السطوة بين الأحزاب التي تضمن مصالحهم الفردية. انتقلت إسرائيل منذ انتخابات البرلمان الأول، من كونها دولة الأحزاب الكبيرة، حتى أصبحت دولة أحزاب صغيرة ائتلافية منتفعة تحت شعار أيديولوجي زمني يناسب المرحلة. رافقت الحملات الدعائية توجهات تؤثر على التيار الفكري الشعبي الحاصل. فنعيش اليوم تغير المجتمع الإسرائيلي من شعارات "التعايش الإلزامي"، أو شعار "لا بديل عن حل الدولتين" إلى "اليسار خطر على الدولة" و "العرب هم مخربون" و "الموت للمخربين". عاش هذا المجتمع وأحزابه أيضا مبدأ معاهم معاهم عليهم عليهم. نشهد ونسمع أثر هذا المبدأ في الشارع والإعلام والمقابلات المتلفزة العبرية.
عنف
نجحت مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة والفاعلة في موضوع منع العنف والجريمة في تجنيد الناشطين السياسيين لإتخاذ مواقف تشجب العنف ضد النساء والعنف المجتمعي والجرائم المنظمة. عندما تبادلت الأحزاب تراشق الإساءات ضد بعضها البعض نسوا أنهم صرحوا أنهم ضد جميع أنواع العنف. قالوا في مقابلاتهم لتبرير سلوكهم العنيف " لقد كذبوا علينا، تصرفوا من وراء ظهرنا، نرد عليهم بهذه الطريقة ووراءنا مجتمعنا الذي سيفهمنا" وتابعوا حملات العنف قبل أثناء وبعد الانتخابات. في هذا إعادة تثبيت الشرعية لاستخدام العنف كأداة تواصل إجتماعية. يشير هذا إلى أن تبني نهج معيّن في فترة معينة لدى ممثلي الجمهور الفلسطينيين يعتبر استراتيجية لحظوية وليس أيديولوجيا متبناة مذوّتة. فكيف يمكن للتغيير المجتمعي المنشود أن يتغلغل طالما أن الخطاب متذبذب، غير ثابت وغير مؤكد وأن حامليه ليسوا أصحاب ثقة؟
على صعيد المجتمع الإسرائيلي اليهودي، هددت وتوعدت الأحزاب اليمينية المتطرفة أي تحرك للفلسطينيين يسيء ليهودية الدولة وأمنها ضاربة بعرض الحائط قانون منع التحريض العنصري. هنا أيضا نجد سياسة الخطاب الاستراتيجي تطغى حتى على قوانين الدولة ونشهد أن قوانين الشارع الحزبي هو صاحب السيادة حيث يفرض نفسه بل وبإمكانه إجهاض القانون واستبداله بما يناسب الخطاب الحالي للشارع.
الثبات والصحة النفسية المجتمعية
في الثمانينات من القرن العشرين، وبعد يوم الأرض ونتائجه السياسية والاجتماعية، كان المطلب الأساسي لمواطني الدولة الفلسطينيين هو المساواة التامة والشاملة في جميع أصعدة الحياة للمواطن الفلسطيني أسوة بالمواطن اليهودي. اليوم، وبعد أربعين سنة، أصبح مطلب الشارع الفلسطيني "الأمن والأمان" وهو انحدار وتقهقر شديد في سلّم تحقيق الذات للفرد والمجتمع. في استفتاءات مهنية وغير مهنية عبّر الفلسطينيون في بلداتهم على غياب الشعور بالاطمئنان على أرواحهم وحياة ذويهم وأملاكهم. بات الشخص يخشى الخروج من البيت للحيّز العام. لم يعد البيت أو المدرسة أو مكان العبادة مأوى آمن لأصحابه الفلسطينيين بسبب السلوك الإجرامي الفلسطيني وغياب التدخل المناسب لسلطات الدولة.
شرّعت أحداث أيار 2021 خطاب العنصرية المتجدد بين الشعبين ورفعت من منسوب شعور الأخروية Othering التي تشرعن أيديولوجيا العداء والعمل به ضد الآخر. أفرزت الانتخابات في الشارع اليهودي الإطار المناسب لاحتواء هذه الأيديولوجيا و تجذيرها في القانون (رأس الهرم) وفي الشارع (قاعدة الهرم) في المجتمع الإسرائيلي. وحيث أن العنصرية والكراهية أمراضًا نفسية تؤذي حامليها كما تؤذي ضحاياها، من المتوقع أن يكون هذا المناخ المسموم بالعنصرية والكراهية هو المرافق للمجتمعين في إسرائيل للسنوات القادمة.
الفلسطينيون في إسرائيل هم أقلية قومية وسيبقون هكذا. ستبقى الكنيست تحظى بأغلبية يهودية تقود الدولة والمجتمع متأثرة بتياراتها الحاصلة داخلها. كما تتأثر بسيرورات تحصل لليهود في العالم وأيضا لسياسات الحلفاء ولمن تعتبرهم أعداء. بينما يتأثر الفلسطينيون بتغيير السياسة الإسرائيلية تجاههم. وحتى تكون لهم القدرة على قراءة ما سيحصل فترة قبل وقوعه، سواء في الداخل الإسرائيلي أو في التأثيرات العالمية، يجب العمل على بناء إطار فلسطيني مهني من أصحاب التخصصات لرصد التغيرات الأيديولوجية في الشارع الإسرائيلي اليهودي ولبناء خطة تثقيف وتفعيل للشارع الفلسطيني من جهة وللعمل على تغيير مسار الشارع الإسرائيلي اليهودي من جهة أخرى. الطاقات قائمة وفاعلة في الحقل وتجميعها ضمن مشروع وطني سيقدم خدمة للمجتمع الفلسطيني المأزوم. من الممكن أن تكون هذه المجموعة هي العقل المدّبر لمن يريد أن يعمل مباشرة من على منصة الكنيست معتمدًا على خطة وطنية مبنية ومدروسة ومتفق عليها، بدل سياسات رد الفعل الحاصلة اليوم.
كاتبة المقال: أ.د. خولة أبوبكر وهي محاضرة وباحثة، معالجة لمشاكل الأزواج والأسرة، مرشدة معالجين مؤهلة.
أ.د. خولة أبوبكر
محاضرة وباحثة أكاديمية، معالجة زوجية وأسرية مؤهلة ومرشدة معالجين مؤهلة