المساجد والمقابر في إسرائيل بين القداسة وانتهاك الحرمة وسبل التضامن

قدم البروفيسور عارف أبو ربيعة هذه الدراسة ضمن أعمال مؤتمر "دروب عربية وسياقاتها الآسيوية" في الأكاديمية الروسية للعلوم - كونست كاميرا[1] التي تجلت فيها الاستجابة المحلية والدولية عابرة الحدود والديانات حيال تجدد المحاولة المتمثلة بتغيير معالم مسجد بئر السبع التاريخي الكبير وتحويله إلى متحف فيما تقام في قاعاته احتفالات صاخبة ومناسبات تنتهك حرمة الموقع الحساس؛ الأمر الذي أدى إلى ازدياد مشاعر الغضب والاحتقان مع الاستفزاز المتمثل بإقامة مهرجان النبيذ في باحات المسجدـ وضع عالم الأنثروبولوجيا أ.د. أبو ربيعة الغضب الشعبي في سياقه التاريخي لتتبع تشكّل تحالف عابر الهويات ومتعدد الديانات يضم المكون الإسلامي والمسيحي واليهودي لحماية حرمة وقدسية المسجد إلى جانب المقابر التاريخية في حاضرة صحراء النقب وبوابتها الرئيسية، الأمر الذي يشكّل تحالفا حول مبادئ وقيم التعايش السلمي بين الأديان مجتمعة في مدينة بئر السبع رغم كل التحديات التي تعصف المنطقة، تلقي الترجمة الضوء على أبرز ما جاء في هذه الدراسة المستفيضة.

خلفية تاريخية

اتخذت القبائل البدوية صحراء النقب موطنا لها منذ آلاف السنين، حيث شهد هذا الإقليم هجرات متواصلة منذ زمن بعيد. وهذا ما يؤكده الباحثون أن هجرة البدو الذين قدموا إلى فلسطين مع الجيوش الإسلامية في القرن السابع شكلوا الموجة الأولى من موجات الهجرة الثلاث القادمة من شبه الجزيرة العربية. وأدت كل موجة هجرة إلى نزوح القبائل المقيمة سابقا، والتي انتقلت بعدها إلى كل من سورية والعراق إضافة الى مناطق فلسطين المختلفة، أو أنها انتقلت جنوبا إلى مصر وشمال أفريقيا. ووجدت المصادر التاريخية المتطابقة أنه منذ فتح الجيوش الإسلامية لفلسطين حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت القبائل البدوية في سيناء والنقب تقاتل بعضها البعض باستمرار كما تَعارُك القبائل الغازية القادمة من شبه الجزيرة العربية.

خلال أربعة قرون من الحكم العثماني (1516-1917) لم تشكل فلسطين وحدة إدارية مستقلة، لكنها كانت مقسمة إلى عدة مناطق، سناجق [معوز 1975: الخامس عشر والسادس عشر]. تأسست بئر السبع عام 1900، باعتبارها عاصمة التقسيم الخامس (القضاء) لمتصرفية القدس، تحت إدارة شخصية مرموقة برتبة قائمقام، وكذلك أقضية يافا والخليل والقدس وغزة [العارف 1934: 192، 244؛ ماركس 1967: 31-32]. تضمنت الأسباب العثمانية من أجل تأسيس بئر السبع رغبة منها في توسيع قاعدتها الضريبية وضمان الاستفادة منهم لاحقا في التعبئة العسكرية وزيادة قواتها، بالإضافة إلى ذلك، كانت عيون تركيا صوب السيطرة على قناة السويس، وذلك خشية الهيمنة البريطانية والفرنسية على هذا الممر المائي الاستراتيجي الذي سيمنحهم موطئ قدم في حوض المتوسط. وساد الاعتقاد بأن البدو يمكن أن يكونوا حلفاء للعثمانيين وأن يكونوا بمثابة حاجز بينهم وبين أعدائهم. لذا ركز نشاط دبلوماسي كبير على شبه جزيرة سيناء والحدود بين مصر والسلطنة العثمانية. تم تحديد الحدود النهائية فقط في تشرين الأول/أكتوبر 1906 [شقير 1916: 588-616].

في سنوات بئر السبع الأولى، تم تخصيص مبنى السرايا والقائمقامية، لتتحول إلى مركز بلدي إلى اتمام بناء مبنى البلدية المناسب. في الطابق العلوي، حجزت حجرات لكل من: المحكمة الجزائية، والمحكمة العشائرية (محكمة العشائر)، ومكتب القائمقام. وفي الطابق السفلي كان مكتب الصلح والمحكمة الدينية الإسلامية وغرف لمشرف الشرطة وكاتب المدينة. في المرحلة الأولى من البناء (1900-1903) تم تشييد مبنى السرايا والعديد من المباني المحيطة به، وكذلك ثكنات الجيش ومركز الدرك. بدأت المرحلة الثانية من تأسيس المدينة في عام 1904، خلال فترة القائمقام آصف بك الدمشقي (1904-1906) حيث شهدت المدينة حركة عمرانية واسعة تضمنت بناء مبنى البلدية والمسجد، ثم مدرسة من طابقين لأبناء البدو. وهي أول مدرسة في القضاء. تميز عمل آصف بك بالجدية من خلال قيامه بمجموعة واسعة من الأنشطة العمرانية. كما انتعش الحيز بالمناسبات الاجتماعية التي أقامها، وكان حريصا لدعوة البدو في المنطقة المحيطة إلى حضورها [أبو ربيعة 2001: 2007]. عندها تحولت بئر السبع إلى مركز ديني إسلامي بتعيين القاضي العثماني شكري أفندي، الذي كان قاضيا دينيا مسلما. اعتبر هذا التعيين الأول من نوعه في المنطقة [جال-بئير 1979:273]. أبرز أسباب اختيار الموقع هو حرمة بئر السبع بالنسبة للمسلمين لارتباطهم بسيدنا إبراهيم وإسماعيل والصحابي القرشي عمرو بن العاص ونجله عبدالله [العارف 1934: 242-53]. مثل الحواضر الإسلامية الكبرى مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس المشرفة المتصلة بعمق عقيدة التوحيد. اشترت الحكومة 2000 دونم (نحو 480 فدانا) من عشيرة المحمديين من قبيلة العزازمة، وقيدتها باسمها (كوشان). كما عينت السلطات أحد أهم الشيوخ، الشيخ الحاج علي سليمان العطاونة رئيسا للبلدية. وبقي في منصبه حتى وفاته في عام 1922.

أثناء الحرب العالمية الأولى، في تشرين الأول/أكتوبر 1917 بدأ الجنرال إدموند اللنبي هجومه على النقب، وفي 31 تشرين الأول/أكتوبر استولى على بئر السبع [العارف; 48-245: 1934 لوك وكايث-روتش 1930:27] خلال الانتداب البريطاني (1917-1948) بقيت بئر السبع على حالها عاصمة للقضاء والمركز الإداري للسكان البدو، وكانت بمثابة العامل الموحد الذي أنتج شعورا بالانتماء السياسي. وسّع البريطانيون حدود القضاء بحيث شمل جميع بدو النقب، مما جعل المدينة في الواقع عاصمة يجتمع تحت رايتها كل بدو جنوب فلسطين. أصبحت بئر السبع أيضا مقر القائمقام، الذي تم اختياره لإجادته اللغة العربية وأعجب بنمط الحياة البدوي، الذي أثار إعجاب العديد من الضباط البريطانيين الذين خدموا في المنطقة. كفل هذا المسؤول فرض النظام العام والولاء البدوي من خلال توطيد العلاقات الشخصية مع القبائل، بما في ذلك الزيارات المتكررة لمضاربهم، والتوسط بين البدو والسلطات العليا. مع استخدام بئر السبع كقاعدة، نشر البريطانيون قواتهم في جميع أنحاء مناطق البدو، مما حافظ على صون السلم الأمن بشكل أكثر فاعلية من العثمانيين. لم يحاول البريطانيون فرض قوانينهم الخاصة على البدو، بل سعوا إلى "مأسسة" القانون البدوي. ومن أجل الدفع قدما بهذا المسار، أصبحت بئر السبع أيضا مركزا قضائيا، بالإضافة إلى مركز إداري للسلطات [جال-بئير 98-269: 1979]

انتهى انتداب بريطانيا على بئر السبع في أيار/مايو 1948 نتيجة لقرار الأمم المتحدة (29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947) بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين. بعدها اندلعت الحرب بين العرب واليهود. كان محمد عبد الهادي آخر قائمقام في بئر السبع خلال العهد البريطاني. غادر البريطانيون بئر السبع في 14 أيار/مايو 1948، وصاحب ذلك الحدث احتفال مهيب حضره قادة البدو وكبار المسؤولين الحكوميين. تم إنزال علم الاتحاد الملكي (جاك الاتحاد) ورفع العلم الفلسطيني فوق مبنى السرايا من قبل رئيس بلدية بئر السبع الحاج شفيق مشتهى. استمر الحكم العربي على بئر السبع بضعة أشهر فحسب، إلى أن استولى الجيش الإسرائيلي على المدينة في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1948. ونتيجة للحرب، لم يبق العرب في بئر السبع [أبو خوصة 1994: 274–86؛ الدباغ 1991: 360].

يمنح القانون في دولة إسرائيل حقوقا متساوية لجميع المواطنين (شبيرا 2006: 448) فيما يتعلق بحماية الأفراد، كما يضمن القانون والمحاكم حقوق المواطنين العرب، ومع ذلك، لم تعترف السلطات القضائية بالسكان العرب كمجتمع منفصل يتألف من أقلية لها حقوقها الجماعية (برزيلاي 2001: 55; جبارين 2001: 53) على ضوء ذلك، يحمي القانون دون تمييز جميع الأماكن المقدسة في إسرائيل، لكن اللوائح الصادرة عن وزارة الخدمات الدينية (السابقة) تذكر فقط الأماكن المقدسة لليهود (قانون حماية الأماكن المقدسة، 1967).

مئذنة جرحها غياب المصلين

بعد تشييد المسجد الكبير وسط مدينة بئر السبع عام 1906، لم تنقطع فيه الصلاة لمدة اثنين وأربعين عاما. بعد عام 1948 مع إنشاء دولة إسرائيل، حولت الحكومة الإسرائيلية الجديدة المسجد إلى متحف، ومنعت المسلمين من الصلاة فيه. في عام 2011، بعد ما يقرب من عقد على الالتماس للمحكمة العليا الإسرائيلية من أجل إعادة فتح المسجد أمام المصلين. قرر القضاة استخدام الموقع كمتحف للثقافة الإسلامية كحل وسط أكثر إرضاء من موقف بلدية بئر السبع التي سعت إلى فتح "متحف ثقافات أبناء إبراهيم" وعارضت افتتاح المسجد للصلاة، بدعوى أن القيام بذلك من شأنه أن "يؤجج العنف والإخلال بالنظام العام".

في آب/اغسطس 2012، صبت بلدية بئر السبع الزيت على النار عندما قرر مسؤولوها تنظيم مهرجان نبيذ في باحة مسجد بئر السبع الكبير. أثار هذا القرار احتجاجات وإدانات من قبل قادة المجتمع الإسلامي والمحلي والدولي. لكنهم لم يكونوا وحدهم، بل تشكلت مجموعة متنوعة للاحتجاج على هذا القرار. وضمت سياسيين، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومسؤول رفيع في الحكومة التركية[2]، والحركة الإسلامية في إسرائيل، إضافة إلى عدالة[3] - المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل، ونشطاء يهود يدعمون التعايش بين العرب واليهود، وقيادات مسيحية، بما في ذلك المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس[4]. كلهم عارضوا وبشدة مسؤولي بلدية بئر السبع لاستخدامهم المسجد الكبير كموقع إقامة مهرجان النبيذ والترويج لمنتجات النبيذ الإسرائيلي، وأكدوا ان ذلك سيؤجج الكراهية والتوتر بين العرب واليهود كونه يمس بالمعتقدات وبمشاعر المسلمين ويعد انتهاكا لحقوقهم، وهذا ما جعل السلطات الإسرائيلية بعدها تتراجع عن اتخاذ هذه الخطوة في تنظيم مهرجان النبيذ بباحة المسجد الكبير في بئر السبع، بعد أن صعدوا احتجاجاتهم رفضا لوقوع مثل هذه الأمر.

تداخل الصراعات القديمة في المدينة المختلطة الحديثة

الصراعات والنزاعات هي جزء من رحلة نضال مستمرة للاستحواذ على سيطرة بشأن الهوية العرقية والثقافية في الفضاء الحضري داخل المدن المختلطة، برزت المدن العرقية المختلطة في فلسطين استنادا إلى نظام الملل في الدولة العثمانية، ثم تطورت من خلال بوتقة الصراع العرقي القومي لتصبح تشكيلات وطنية معاصرة. في النصف الأول من القرن العشرين وبشكل أكثر حدة منذ عام 1948، أعيد تأسيس هذه المدن كشكل حضري جديد. هذه المدن المختلطة هي في الواقع اندماج مجزأ للمساحات الحضرية الاستعمارية وكذلك المساحات الفلسطينية والإسرائيلية المحلية [مونتيريسكو و رابينوفيتش 2007]. ابتكر العلماء بشكل لافت وسائل لتصنيف الأنماط المختلفة "للطيف العرقي الحضري"، من الاستيعاب إلى التعددية، والتجزئة، والاستقطاب، وصولا إلى التطهير. ضمن هذا التصنيف، تتراوح المدن الفلسطينية الإسرائيلية المختلطة الأربعة بين الاستقطاب (اللد، الرملة)، والتشرذم (يافا، عكا) والتعددية (حيفا). يأخذ تحليل المدن العربية اليهودية المختلطة العلاقة بين الأغلبية اليهودية والأقلية العربية كركيزة بحث مركزية. علاوة على ذلك بالاعتماد على وجهة النظر هذه، تصبح "الأقلية" العربية عاملا مركزيا وفاعلا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي [مونتيريسكو 274:2011]

يعتمد الخطاب الأكاديمي والسياسي بشأن المدن المختلطة في إسرائيل / فلسطين إلى حيثيات السكان الأصلانيين والهجرة ومطالبات كل منهما بالشرعية والملكية [كيمرلنج 2004] بينما يجادل لوكمان (1996: 12) بأن المجتمعات العربية واليهودية ممثلة على أنها كيانات قائمة بذاتها ومتجانسة إلى حد كبير. إلا أنه لا يمكن النظر إلى المدينة المختلطة على أنها "حاوية" مجموعات عرقية، إنما هي حيز عمومي للعلاقات الجدلية بين الشكل والوظيفة والبنية حيث تتشابك العمليات الاجتماعية في فضاء المساحات الحضرية المعاصرة التي هي عبارة عن تكوينات اجتماعية-مكانية مختلطة، وغالبا ما يؤدي المزيج الحضري إلى صراع عنيف على الأرض والهوية والأماكن المقدسة. حضر أرض فلسطين مشروعان قوميان متنافسان: مشروع عربي فلسطيني محلي، ومشروع استعماري يهودي صهيوني. تم تهيئة كلا المشروعين بسرديات متماسكة للتاريخ والاستحقاق: شدد الفلسطينيون على حقوق السكان الأصلانيين، في حين أكد الصهاينة على الوعد التوراتي والخلاص من الشتات الخطير في أوروبا [رابينوفيتز ومونتيريسكو 2008: 196-197]. ولا تزال العديد من هذه المدن المختلطة تطاردها العواقب الدموية لتلك الانقسامات القديمة.

بعد العام 1948، تخلفت الجماهير العربية في الداخل عن اليهودية في التعليم والرعاية الصحية والخدمة الاجتماعية، والتوظيف والتخطيط والتنمية. ولا تزال المجتمعات العربية في هذه البلدات المختلطة المتبقية تضم جيوبا تعاني الفقر الشديد، ومرافق تعليمية سيئة، وبنية تحتية رديئة وبناء غير رسمي وغير قابل للتوسعة، تشكل هذه الأمور مجتمعة أرضية خصبة لأعمال الجريمة والعنف. إلا أنه، شهد ثمانينيات القرن الماضي ظهور مزيج سكني حضري معاصر في بلدات الهامش في إسرائيل. وقامت مدن حديثة مثل الناصرة العليا، وكذلك البلدات القديمة ذات الغالبية الفلسطينية التي تم إخلاء سكانها في عام 1948 وأعيد تشكيلها كمدن يهودية جديدة، مثل صفد وبئر السبع، عادت مجددا لجذب العائلات العربية، التي بدأت فعلا في الانتقال إليها للبحث عن فرص عمل إضافة للأسعار السكنية الرخيصة نسبيا فيها.

سرعان ما بدأت العائلات العربية باستئجار وشراء الشقق، وتعكس هذه الظاهرة نمو طبقة وسطى عربية حيوية، مقتدرة ماديا ومستعدة سياسيا وثقافيا على مواجهة التحديات المرتبطة باختيار هذا السكن. يبقى العرب عموما غير مشاركين في التجارة والصناعة والتعليم والثقافة في البلدات المختلطة بنفس القدر لدى اليهود، إلا أنهم يحافظون على الروابط الاجتماعية مع مجتمعاتهم المجاورة [رابينوفيتز ومونتيريسكو 2008: 198-212]. هناك أيضا ظاهرة حديثة للشباب العرب المتنقلين، بما يشمل خريجي الجامعات والمهنيين والفنانين الذين يقيمون في المدن اليهودية، إذ يسمح انتقالهم بالاقتراب من المراكز الاقتصادية والثقافية والسياسية في إسرائيل [هرتسوغ 2007؛ رابينوفيتش ومونتيريسكو 2008: 213؛ رابينوفيتش 1997].

التناصر الإسلامي – المسيحي

لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن معظم المسيحيين في إسرائيل من العرب، وبالتالي فإن القادة الإسرائيليين يشككون في ولائهم للدولة؛ الأمر الذي أضاف عنصرا إشكاليا آخر للعلاقات بين إسرائيل والمجتمع المسيحي المحلي. على المستوى الرسمي، أظهرت إسرائيل عادة موقفا مدروسا تجاه مؤسسات الكنيسة، لكن وضع المواطنين العرب المسيحيين في البلاد لم يتحسن كثيرا ولا يوجد فرق كبير بين العلاقات مع المسيحيين وتلك التي مع المسلمين.

ساهم هذا الوضع بتآزر الأقلية المسيحية مع قرينتها المسلمة. ومع ذلك، تعد الأقلية المسيحية (التي هي في الأساس حضرية ولديها مستوى تعليمي أعلى مقارنة بالمسلمة) أكثر وعيا حيال تعرضها للتمييز، وقد دفعت هذه التحديات العرب المسيحيين في إسرائيل نحو تعزيز تنظيمهم السياسي وتمثيلهم في الكنيست الذي يتجاوز نسبتهم السكانية.

العلاقات بين إسرائيل والكنائس، والمجتمع المسيحي، والعالم المسيحي بشكل عام هو أحد أكثر المجالات التي تم إهمالها في سياسة وممارسات السلطات الحكومية. ومرد ذلك إلى ترسبات العلاقات التاريخية بين اليهود والمسيحيين، إضافة إلى التأثير المتزايد للأحزاب السياسية الأرثوذكسية المتشددة، وزيادة قوة وتأثير المركبات القومية الأرثوذكسية المتطرفة في مقابل الأحزاب التي كانت تعتبر أكثر اعتدالا في الماضي وعلى وجه الخصوص أهمية هذا الموضوع الذي كان مطروحا على الأجندة الإسرائيلية فيما مضى.

عندما تتعرض الأقلية العربية (مسلمون ومسيحيون في دولة إسرائيل) للخطر أو التهديد، يكون هناك تعاون وإحساس بالتعاطف والتضامن بين أفراد الأقلية العرقية الذين يشعرون بالاضطهاد من قبل (اليهود) الأغلبية. من المهم ملاحظة أن هذا النوع من التضامن بين الكنيسة والمسجد نفيس، خاصة في مواجهة الهجمات التي تحمل الطابع الديني التي تنتهك كل حدود. خصوصا عندما يتجاوز التصعيد باستخدام الشعارات التشهيرية التي تدعو إلى تخريب وحرق المساجد إلى الدعوة لإحراق الكنائس وتدمير مقابر المسيحيين والمسلمين رغم التنديد الشديد من قبل الحاخامات والنشطاء اليهود وتعبيراتهم عن التضامن.

على إثر هذا التدهور، عقد في تشرين الأول/أكتوبر 2012 المؤتمر الإسلامي المسيحي في بيت لحم تحت شعار "معا ضد العنصرية". وحضر هذا المؤتمر أئمة ومفتون مسلمون بالإضافة إلى حضور مطران الروم الكاثوليك ورئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس، وجميعهم قدموا المحاضرات، وزار الأساقفة المسيحيون المسجد الأقصى، بينما زار الأئمة والمفتون المسلمون الكنائس المسيحية[5]، وعبر هذا النشاط الإسلامي المسيحي عن حالة التآزر والتناصر المتجددة التي تجاوزت مجرد إدانة وشجب الاعتداءات على الرسل والأنبياء وعلى المقدسات المسيحية والإسلامية فحسب.

عود على بدء

رغم الإجماع في الشرق كما في الغرب، فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية المعتقد والدين وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة، واحترام المقدسات ودور العبادة، لكن في القرن الحادي والعشرين، من الناحية العملية، الوضع ليس بهذه السهولة والبساطة.

ينظر إلى دور العبادة على أنها مواقع التي من شأنها أن تنغص أو تسبب التهديد على رفاهية وجودة حياة الأغلبية كما هو الحال في أوروبا، حيث يمنع في بعض البلدان بناء المآذن، أو في حالة مسجد بئر السبع الكبير، التي تمت مناقشته هُنا، حيث منعت إقامة الصلاة فيه لاعتبار أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى "إثارة العنف والإخلال بالنظام العام". تعتبر حالة المسجد الكبير والمقابر (للمسلمين والمسيحيين) في بئر السبع نموذجا لحالة المساجد والمقابر الأخرى في إسرائيل / فلسطين، ولكن ليس كلها بنفس القدر.

تشكل التحالف متعدد الأديان القائم على مشاركة إسلامية ويهودية ومسيحية، وحجر زاويته الإيمان الذي هو بمثابة المنعة في وقت الأزمات ومصدر الشعور القوي بالانتماء الجماعي، لأجل حماية حرمة المساجد والمقابر استنادا إلى مبادئ التعايش السلمي والحوار بين الأديان. هدف إقامة هذا التحالف، حسب رأيي، ينبع بسبب كون المسلمين والمسيحيين أقليات في إسرائيل ما يجعلهم يستثمرون أكثر بتعزيز قيم المواطنة المشتركة ومكافحة الكراهية والتطرف والاهتمام بتفعيل الأديان من أجل السلام. وكانت نتائج هذا التحالف، وبخاصة بين المسلمين والمسيحيين، أن القادة تعاونوا معا من أجل حماية مقدساتهم وأماكن عبادتهم في إسرائيل وفلسطين.

 

الاحالات: 
  1. كونست كاميرا - متحف بطرس الأكبر للأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، هو أول متحف في روسيا أنشأه الإمبراطور بطرس الأكبر ويقع في سانت بطرسبرغ.

  2. أفسحت مساحات واسعة لتغطية قضية مسجد بئر السبع الكبير في الإعلام التركي الرسمي والشعبي وحتى داخل إعلام المعارضة وذلك على خلفية توتر العلاقات بين تركيا وإسرائيل عام 2010 عندما قتلت قوات كوماندوس إسرائيلية نشطاء أتراك في مداهمة للسفينة التركية مافي مرمرة التي كانت تقود أسطولا صغيرا في محاولة لكسر الحصار عن قطاع غزة، وبقيت هذه التوترات على حالها إلى أن قامت اسرائيل في 2017 بدفع تعويضات بلغت قيمتها الإجمالية 20 مليون دولار لأسر ضحايا أسطول المساعدات التركي الذي أسفر عن مقتل عشرة أشخاص، وسبق هذه الخطوة في حزيران/يونيو 2016 إعلان إسرائيل وتركيا تطبيع العلاقات في خطوة حركتها احتمالات إبرام صفقات غاز مربحة في البحر الأبيض المتوسط فضلا عن المخاوف الأمنية المشتركة في الشرق الأوسط.

  3.  " بيان المحامي آرام محاميد من عدالة - المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية: "طالبنا برسائلنا المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية يهودا فينشتاين، والمستشار القضائي لبلدية بئر السبع حاييم طركل، بالتدخل لوقف إقامة مهرجان النبيذ في باحة المسجد للسنة السادسة على التوالي في باحة المسجد الذي من المقرر إقامته في 5 و6 أيلول/سبتمبر، على أن يعرض منتوجات 30 مصنعا للنبيذ من إسرائيل والخارج، المهرجان يمس بكرامة آلاف المسلمين من سكان المدينة وعشرات الآلاف ممن يتوافدون عليها، لقد طالبنا في التماس قدمناه إلى المحكمة العليا عام 2002 بفتح المسجد أمام المصلين المسلمين، واستمر التداول في المحكمة العليا قرابة عشر سنوات، وفي حزيران/يونيو 2011 رفضت المحكمة فتح الجامع للمصلين، لكنها أقرت باستخدامه كمتحف اسلامي على ان يعترف به كمبنى مسجد له حرمته عند المسلمين، بلدية بئر السبع تخطت قرار المحكمة العليا، اذ يمنع شرب النبيذ في باحة المسجد وهو أحد الخطوط الحمر بالنسبة للدين الإسلامي ويتناقض كليا مع طبيعة المسجد، في كل أسبوع تقوم البلدية بعرض موسيقي لأحد الموسيقيين يسمى مهرجان موسيقى يوم الاثنين، كما تستخدمه متحفا لعرض صور تخص مؤسسات إسرائيلية ليس لها علاقة بالثقافة الإسلامية، شيد المسجد الكبير عام 1906 في مدينة بئر السبع في الفترة العثمانية، وظل مفتوحا للصلاة حتى عام 1948 عند قيام دولة إسرائيل. وحولته السلطات الاسرائيلية إلى معتقل حتى عام 1952 ومن ثم إلى متحف النقب. ومن عام 1991 وحتى عام 2002 موعد تقديم التماس مركز عدالة كان المسجد مهجورا ومهملا".

  4. الصورة تجمع الشيخ د. عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى المبارك مع المطران د. عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس، من صفحة المطران الرسمية على شبكة التواصل فيسبوك.

  5. أكد المشاركون أن "الاعتداء على المساجد والكنائس من هدم وحرق وتدنيس وتخريب، لم يسلم حتى الأنبياء والمرسلون من الإهانة والتحقير والسخرية يستلزم منا مسلمين ومسيحيين التصدي لهذه الممارسات اللاأخلاقية والهمجية". وأحد أبرز توصيات المؤتمر هو "مناشدة المؤمنين المحتجين على هذه الإهانات التحلي بالقيم الأخلاقية للمسيحية والإسلام، لتفويت الفرصة على ادعاءات من يتهمنا بالعنف والإرهاب".


كاتب المقال: بروفيسور عارف أبو ربيعة وهو عالم الأنثروبولوجيا عارف أبو ربيعة هو بروفيسور (متقاعد) من جامعة بن غوريون في النقب، شغل منصب رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط لعدة دورات، وعند استلامه إدارة القسم في 2004 كانت تلك المرة الأولى التي يشغل فيها عالم عربي من النقب رئاسة قسم في جامعة إسرائيلية. تتنوع مجالات بحثه بين أنثروبولوجيا شرق البحر الأبيض المتوسط والحضارة العربية الإسلامية، في الطب الشعبي، والتداوي بالأعشاب، وأضرحة الأولياء والصالحين، إضافة إلى دراساته التي تناولت المجتمعات المسلمة في أوروبا والولايات المتحدة. يشغل عضوية عدة جمعيات محلية ودولية التي تعنى بالعلوم الإنسانية والحضارية.

المترجم: كايد أبو الطيف وهو باحث دراسات ثقافية ومبادر منصة "هُنا الجنوب".

بروفيسور عارف أبو ربيعة

عالم الأنثروبولوجيا عارف أبو ربيعة هو بروفيسور (متقاعد) من جامعة بن غوريون في النقب، شغل منصب رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط لعدة دورات، وعند استلامه إدارة القسم في 2004 كانت تلك المرة الأولى التي يشغل فيها عالم عربي من النقب رئاسة قسم في جامعة إسرائيلية. تتنوع مجالات بحثه بين أنثروبولوجيا شرق البحر الأبيض المتوسط والحضارة العربية الإسلامية، في الطب الشعبي، والتداوي بالأعشاب، وأضرحة الأولياء والصالحين، إضافة إلى دراساته التي تناولت المجتمعات المسلمة في أوروبا والولايات المتحدة. يشغل عضوية عدة جمعيات محلية ودولية التي تعنى بالعلوم الإنسانية والحضارية

شاركونا رأيكن.م