قراءة أوّلية في آفاق الصّراع

من بين تداعيات كثيرة ذات طبيعة تكتيكيّة واستراتيجيّة لمعركة "سيف القدس" وخلال أحد عشرَ يومًا فقط تم اماطة اللّثام عن أحد أهم الأبعاد والعناصر الصّراعية المرتبطة بمآلات الصّراع المحتدم في أراضي ال 48.

العنوان الأساسي لاندلاع العدوان الأخير على قطاع غزة كان القدس بمقدساتها التي تتعرض لمخطّطات منهجيّة تستهدف الأقصى والسّكان، وسياسة التّطهير العرقي المعتمدة إسرائيليًا بحق الشّيخ جراح وموضوع الشّيخ جراح.

لا يتصل بعدّد البيوت والعائلات الفلسطينيّة المستهدفة فهو مجرد نموذجًا لسياسة إسرائيليّة متواصلة؛ إذ سبق ذلك العراقيب والخان الأحمر ولحق ذلك حي البستان وبطن الهوى وعديد التّجمعات الفلسطينيّة في الأراضي المحتلة عام 1948، وكذلك التي احتلتها إسرائيل عام 1967.

ملف يافا كان مفتوحًا قبل الإثارة التي وقعت في الشّيخ جراح، فقد تصدى نحو خمسة وعشرين ألف فلسطيني لسياسات حكوميّة وغير حكوميّة لمصادرة أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم. إذا هي سياسة ثابتة وراسخة على مستوى السّياسات الإسرائيليّة العليا، متبعها وأساسها كذب الحركة الصّهيونيّة بأنّ "فلسطين بلا شعب لشعب بلا أرض" حتى يتحقق ذلك الادعاء وتحقيق أوهام الصّهيونية وأبناؤها وأحفادها، التي يرمز إليها العلم والنّشيد الإسرائيليّ. لابد من اتباع سياسات تقوم على استخدام القوة الذي تمتلكه الآلة العسكريّة والأمنيّة ومنظومة قانونيّة تعتمد على نظام قضائي منسجم لتطبيق مخططات إجلائيّة عبر الاستيطان مسقوفة بقوانين عنصريّة وما أكثرها في ملف الكنيست الإسرائيليّ.

وفق هذه السّياسات والمخطّطات ليس للفلسطينيين مكان أو حقوق على أرضهم، فهم إما أن يعيشوا عبيدًا بدون أي حقوق سياسة وأما أن الأردن هو وطنهم البديل.

حين تضع هذه السّياسات والاستراتيجيات على طاولة الفحص فإنّ الضّفة الغربيّة هي المستهدفة باعتبارها كما يدعون يهودا والسّامرة، وأنّ القدس هي جذر الرّواية القائمة على ادعاءات توراتيّة لم تؤكدها كلّ الحفريات والأبحاث التي عبثًا حاولت وتحاول إيجاد أثر للهيكل المزعوم.

الثّورة الفلسطينيّة التي انطلقت عام 1965 واندلعت على نحو واسع وفاعل عام 1967 لم يكن في واردها أو بين أهدافها أن تتوقف عند حدود الأراضي المحتلة عام 1967، لكن وبعد عقدين من الزّمن وفي ظلّ ظروف دوليّة وإقليميّة ضاغطة اضطرت منظمة التّحرير لأن تقبل الهبوط عن سقف أهدافها إلى ما يستجيب لقرارات الشّرعية الدّوليّة.

وخلال مرحلتي الثّورة الفلسطينيّة المسلحة، وفترة طويلة من مرحلة أوسلو كان فلسطينيو الأراضي المحتلة عام 1948 خارج حسابات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بشكل عام حتى إن القيادة الفلسطينيّة امتنعت عن توظيف دورهم في صراعها حول أوسلو، وظلت تتعامل مع همومهم وقضاياهم باعتبارها شأنًا إسرائيليًا داخليًا لا يجوز اللّعب في ميدانه. لذلك ظلّ الفلسطينيون في إسرائيل خارج المنظومة السّياسية الفلسطينيّة، وكان عليهم أن يقلعوا أشواكهم بأنفسهم وظلت العلاقات معهم من قبل الفصائل الفلسطينيّة ذات طبيعة خاصة.

لفترة طويلة بقي شعار الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في إسرائيل تحقيق المساواة في المواطنة، وكان ذلك تعبيرًا عن وعي عميق وسليم يقوم على معرفة حقيقية مستندة على تجربة ملموسة لطبيعة المخطّطات والاستراتيجيات الإسرائيليّة التي تدرك مدى خطورة وجود أقلية كبيرة من المواطنين على مستقبل إسرائيل، وهدف الدّولة اليهوديّة الديمقراطيّة لفترة من الوقت راهنت إسرائيل وعملت على دمج الفلسطينيين في المجتمعات العربيّة من خلال ما يعرف بالتّوطين، وعلى أسرلة الفلسطينيين داخل إسرائيل لكنها فشلت في الحالتين.

معركة "سيف القدس" حفزت مخزون الشّعور القومي الكامن الذي لم يغادر يومًا فلسطيني الدّاخل، ودفعت بهم إلى الواجهة في الصّراع على العنصريّة وسياسات المصادرة والاستيطان خصوصًّا بعد أن أصبحت هذه السّياسات رسميّة بقانون ومكشوفة أمام العالم.

في ضوء مجريات وآفاق الصّراع المستديم على الأرض والحقوق يعترف الكثيرون بفشل مشروع الدّولة، وحق تقرير المصير والعودة الذي تبنته منظمة التّحرير فقد قامت إسرائيل بكلّ ما يلزم لتقويض هذه الإمكانيّة.

أجازف بالادعاء أنّ كلّ الفلسطينيين بما في ذلك الحالمون بتحقيق رؤية الدّولتين، باتوا يدركون أنّ الصّراع قد اتخذ بعدًا شاملًا بما يعيده إلى البدايات. إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك على الأقل وفق قراءاتي للتطورات فإنّ الفلسطينيين في إسرائيل هم الذين يشكلون الخطر الحقيقي على مناعة وقوة القلعة الإسرائيليّة.

هذا لا يعني بأي حال التّقليل من أهميّة النضال السّياسي والدّبلوماسي والشّعبي، ولكنها تظل عاملًا مساعدًا حيث مصدر الفعل الأساسي الذي يقوض القلعة من داخلها.

الأصل هو النّضال من أجل فضح العنصرية اليهوديّة وممارساتها، وإظهار عدوانيتها وتعميق التّناقضات الاجتماعية والسّياسيّة في إسرائيل.

خلال معركة "سيف القدس" عبر أكثر من مسؤول سياسي وأمني، وكتاب إسرائيليين كبار عن مخاوفهم الشّديدة من ظهور البعد القومي بين صفوف الفلسطينيين خصوصًا في المدن المختلطة، هذا يعنى أن الفلسطينيين في إسرائيل هم قيادة المستقبل التي سيكون عليها تحمل تبعات إدارة المشروع الوطني الفلسطيني، ولذلك يترتب على قياداتهم أن يتداركوا الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها، ولا تزال الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة هي التي تدير الصّراع من خارج الأراضي التي تقوم عليها إسرائيل منذ عام 1948.

من يتابع ويربط بين طبيعة الصّراع الجاري في أراضي ال 48 بأبعاده وتداعياته الواضحة عليه أن يلاحظ التّغيرات العميقة التي تقع في المحيطين الإقليميّ والدّوليّ.

لا يمكن تجاهل المتغيرات التي تقع في الولايات المتحدة على صعيد الحزب الديمقراطي، أو في المجتمع أو على مستوى المجتمع الاسرائيلي.

25% من اليهود المصوتين في أميركا يرون أن إسرائيل دولة "أبارتهايد"، وقد أخذ وصف اسرائيل بهذه الصّفة يتسع ليشمل مؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات دوليّة وحتى إسرائيليّة، وهذا أمر مهم للغاية فالعالم بعد وقت لن يتحمل نظام فصل عنصري بعد نظام الفصل العنصري الذي تمت الإطاحة به في جنوب أفريقيا.

هنا ينبغي تركيز الفعل لإعلامي والسّياسي.


الصورة للمصور - الصحافي اورن زيف \ موقع سيحا مكوميت"

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن "فارءة معاي" او القيمين\ات عليها.

طلال عوكل

كاتب ومحلل سياسي

شاركونا رأيكن.م