غزة: ازدواجية الحياة "في الحرب والانقسام"

يوم الأربعاء وفي السّاعة الثّانية عشرَ ظهرًا صيف عام 2007، أراقب بحذر من شرفتي تحركات الملثمين بين المباني في المنطقة التي أقطن فيها، كانت في تلك الفترة أحداث الانقسام الفلسطيني أو بوصف أدق لتلك الحالة "الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني"، بعد إحباط آمالنا من تطبيق اتفاق مكة في يناير 2007 بين حركتي فتح وحماس على العمل ضمن مشروع وطني موحد، بعد أن فازت الأخيرة بالأغلبيّة في الانتخابات التّشريعية. لربما صعوبة الحدث غير المتوقع كان سببًا في إصابة والدي بجلطة في القلب، بتلك اللّحظات تعثرنا بعقبات الوصول لمستشفى الشّفاء التي تبعد عن منطقتنا أقل من 10 دقائق، لكنه وصل بعد أكثر من نصف ساعة نتيجة حواجز الأحزاب المتقاسمة عند مفترقات الطّرق.

أيام صعبة من الاقتتال أو كما قيل عنه "صراع الإخوة" انتهت بنتائج مخيبة جدًا للفلسطينيين، ألصق علينا مصطلح "الغزاوي"، وفي الجهة الأخرى "الضفاوي"، وبدأنا نعيش معزلةً جغرافيّة سياسيّة واجتماعيّة وحتى اقتصاديّة. حتى جاءت الحرب الإسرائيليّة الأولى في "ديسمبر 2008 – يناير 2009"، كان العالم يتحضر حينها للاحتفالات بموسم الأعياد، وغزة كانت تتلقى الصّواريخ من كلّ مكان، لم تأبه إسرائيل بالمطالبات الدّوليّة لوقف الحرب بل وسعت من عمليتها العسكرية مستخدمةً أسلحة محرمة دوليًا كالفوسفور الأبيض، وبدأت العمليّة البريّة. أصوات الدبابات باتت تسمع عن قرب، كان ذلك تزامنًا مع أصوات مكبرات الصّوت الصّادرة من فرق الإنقاذ تنادي السّكان المحتجزين في المنازل للنزول بحماية منهم، اتذكر حينها والدي رفع "كوفيته" البيضاء التي يرتديها على رأسه عاليًا ليراها الجنود الإسرائيليون المتمركزون تحت منزلنا.

ولكوني طالبة في جامعة الأقصى كنت أتابع معظم القنوات الفلسطينيّة التي كانت تبث التّفرقة ومصطلحاتها ك "مليشيات عصابات حسم انقلاب ...الخ"، كنت أطمح للعمل كمراسلة صحافيّة، وأن أطبق وأمارس مما تعلمته بأنها مهنة تركز على تغطيّة الأحداث بمهنيّة ومنح الآراء لجميع الجهات ونقل الأخبار بحياديّة، ولكن صُدمت بالواقع خلال عملي بعد فترة في إحدى القنوات الحزبيّة المحليّة.

الرّابع عشر من تشرين الثّاني/ نوفمبر 2012 الحرب الإسرائيليّة الثانية، اغتالت إسرائيل بعض الشّخصيات السّياسيّة في غزة، ثمانيّة أيام كانت سريعة بالنّسبة للعالم، إلّا أنها مرت علينا ثقيلة وصعبة للغاية، إسرائيل اعتمدت هذه المرة من تكثيف الاستهدافات الصّاروخية.

عام 2013؛ كان عامًا مفصليًا في حياتي، التقيت بزوجي "وريف" خلال إعداد تقرير عن وضع اللاجئين السّوريين الأصل في قطاع غزة، تلاقينا بأفكارنا بعد تواصل دائم حتى قرّرنا الارتباط، لكني لم أتصور أنني سأتزوج من جنسية غير فلسطينيّة، لكن ربما الواقع الصّعب جمعنا في نفس الهم، وفي عام 2014 تزوجت بوريف، لكن لم يمض شهرين حتى اندلعت الحرب الإسرائيليّة الثّالثة من نفس العام، اضطرّرت حينها الخروج من المنزل للتغطية مع القناة وقرّر زوجي مرافقتي طوال 51 يومًا متواصلًا.

أصعب يوم خلال تغطيّة هذه الحرب، حين حضرت والدتي لتذكيري بعيد ميلادي في الأوّل من أغسطس، كنت حينها منشغلة ولم أتذكره حتى صادف هذا اليوم مجزرة إسرائيليّة بحق سكان مدينة رفح وسُمّيت بـ"الجمعة السّوداء"، أتذكر أنني قضيت هذا اليوم في قبو أحد العمارات بعد التّهديد الإسرائيلي بقصف الفندق الذي اقيم فيه مؤقتًا للتغطية، واستمرت الحرب حتى توقفت في السّادس والعشرين من الشّهر نفسه، وانتهت بالشروط نفسها، ونفس الاتفاق ولم يتغير شيء. فلم تنال غزة لا مطار ولا ميناء ولا معابر مفتوحة على مدار السّاعة، وبقيت بنفس معاناتي مثلي مثل بقية الغزيين بانقطاع الكهرباء والمياه وعدم توفر الخدمات الأساسيّة.

عشنا بعد الحرب على ترقب دائم من هجوم إسرائيلي جديد نتيجة عدم تغير الحال، إذ بين الفترة والأخرى كنا نشهد تصعيدًا عسكريًا بين إسرائيل والفصائل الفلسطينيّة، تناسيت الألم والإحباط قليلًا حتى العام الذي أنجبت فيه طفلتي، أسميتها إيلياء تيمنًا بالقدس حتى جاء إعلان الرئيس الأميركي السّابق باعتبار القدس عاصمة إسرائيل. "ديسمبر عام 2017" انقلبت الدّنيا رأسًا على عقب، انتفض الفلسطينيون في كلّ بقاع الأرض وفي غزة كانوا يعبرون عن غضبهم بالاحتجاج على السّياج الحدودي.

استمرت الاحتجاج على السّياج الفاصل حتى جاءت "مسيرات العودة" في آذار/ مارس من عام 2018، كانت التّغطية على الحدود بصعوبة ومخاطر تغطيّة الحروب الإسرائيليّة ميدانيًا، إذ كنا في دائرة الاستهداف الإسرائيلي في كلّ لحظة.

لفت نظري خلال تجولي في السّوق فستان "باللّون الزّهري"، اشتريته لابنتي فأيام قليلة تفصلنا عن عيد الفطر، وفي نفس اليوم العاشر من أيار/ مايو من عام 2021 بدأت الحرب الرّابعة التي كانت الأكثر قلقًا وخوفًا ورعبًا حتى كنت أفكر بشكلِ متواصل في طفلتي، فهي بعيدة عني، ومطلوب مني التّغطية بشكل مباشر، أتخيل دائمًا وسط كلّ الدّمار الذي كنت أغطيه قد نكون نحن من تحت الرّكام، فمشاهد الدّفاع المدني وهو ينادي إن كان أحد من الأحياء أسفل الرّكام دفعتني للتفكير بارتداء "صفارة" حتى أقوم باستخدامها في حال قصف المبنى الذي أقيم فيه بأي لحظة.

ما بعد انتهاء الحرب هو الأصعب، تتكشف المآسي في كلّ منزل، ويظل ركام المباني يذكرك بتفاصيل مؤلمة، ويبدأ عملك كصحفي في رصد هذه المعاناة الإنسانيّة، تحتاج فيما بعد لأسابيع لتتكيف مع حقيقة أنّ الحرب انتهت، وتكتشف الآثار النّفسية التي خلفتها علينا، بينما يصبح النوم مهمة صعبة فاللّيل مرتبط لدينا بالحرب.

كنت دائمًا أعارض فكرة السّفر والعيش خارج قطاع غزة، وألوم أحيانًا الأشخاص الذين يخطّطون لذلك، لكن اليوم أبرّر لمن يفكر بالهجرة أو العمل خارج القطاع خاصة الشّباب، وأدافع عن وجهة نظرهم، لأنني أيقنت تمامًا بأنه لا يوجد مستقبل أو أفق لحياة آمنة وجيدة قريبة أو حتى بعيدة.


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

شاركونا رأيكن.م