عن "التأثير" و"التأثير بكرامة" والتأثير المنشود في الخطاب السياسي للأحزاب العربية

أيام قليلة تفصلنا عن انتخابات الكنيست ال ٢٥ في إسرائيل وهي الانتخابات الخامسة خلال السنوات الأربع الأخيرة. لست هنا في هذا المقال بصدد نقاش هذا الإشكالية السياسية، البرلمانية والحزبية الإسرائيلية المستمرة، إنما نخصصه لواقع الأحزاب العربية في هذه الانتخابات. وفي هذا السياق أيضا هنالك العديد من القضايا التي يمكننا مناقشتها، إلا أنني أرغب في نقاش مسألة واحدة، مركزية، ترافق خطاب الأحزاب العربية بشكل لافت وهي مسألة "التأثير" كخطاب مركزي لجميع الأحزاب العربية في الانتخابات الحالية كما كان الحال في جميع الجولات الانتخابية السابقة منذ انتخابات الكنيست ال 20 في عام 2015 الذي خاضت فيها هذه الأحزاب الأربعة (الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، التجمع الوطني الديموقراطي، الحركة الإسلامية الجنوبية والحركة العربية للتغيير) في قائمة واحدة (القائمة المشتركة) لأول مرة في تاريخ المشاركة السياسية والتمثيل البرلماني للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل. كذلك من المهم التأكيد على أن هذا المقال لا يستطيع ولضيق المساحة المتاحة ان يناقش بتوسع مسألة التأثير في خطاب كل واحد من هذه الأحزاب والاختلافات فيما بينها إنما يسعى الى المساهمة إعادة تسليط الضوء عليها ومحاولة تفكيكها في قراءة أولية قابلة للنقاش والتطوير.

لقد بدأ التركيز على خطاب التأثير مع إقامة القائمة المشتركة لانتخابات الكنيست العشرين في 2015 حيث عبرت القائمة المشتركة في بيانها السياسي الذي نشر آنذاك برغبتها في زيادة قوة وتأثير الأحزاب العربية في الكنيست للتأثير في الحد من استمرار سيطرة اليمين واليمين المتطرف داخل الكنيست، الحد من ازدياد الفاشية والعنصرية في إسرائيل وتحدي سياسات التمييز والإقصاء الرسمية ضد المواطنين العرب[1]. تفككت القائمة المشتركة بعد أقل م ن أربعة أعوام ودخلت مكوناتها الأربعة الانتخابات البرلمانية في شهر كانون الثاني 2019 بقائمتين منفصلتين ولكنها تداركت هذا الانقسام في الانتخابات التي تلتها في نفس السنة لتعود الأحزاب الأربعة للوحدة في إطار القائمة المشتركة وتحصل على تمثيل 13 عضو كنيست. راكمت المشتركة برئاسة أيمن عوده هذا الإنجاز العددي في انتخابات العام 2020 لتحصد العدد الأكبر من أعضاء الكنيست في تاريخ المشاركة السياسية للأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل والممتدة علي مدار عقود حيث نجحت الوحدة بين الأحزاب في استقطاب ثقة المواطنين العرب الذين ضمنوا لها هذا التمثيل غير المسبوق (15 عضو كنيست). لقد تم التركيز في هذه الحملات الانتخابية على الربط بين القوة العددية والوحدة وبين إمكانية التأثير داخل النظام السياسي الإسرائيلي، وتعززت هذه الرغبة عندما تحولت القائمة المشتركة إلى القوة الحزبية الثالثة في الكنيست مما فتح أمامها أبواب ترؤس بعض اللجان البرلمانية والاستحقاقات الوظيفية الأخرى داخل أروقة البرلمان الإسرائيلي وصولا إلى وزن سياسي في التوصية على المرشحين لتشكيل الحكومة (أبرزها التوصية على بيني غانتس). كما حظيت القائمة المشتركة ومركباتها وممثليها في الكنيست على اهتمام إعلامي وسياسي رسمي محلي وإقليمي ودولي مما عزز خطاب التأثير لدى أعضائها ولدى جمهور ناخبيها أيضا. داخليا، وأقصد هنا داخل القائمة المشتركة وبين مركباتها الحزبية الأربعة وكذلك على المستوى الفردي بين أعضائها، برزت للمتلقي حالة من النشوة والتنافس على القدرات الفردية للتأثير والظهور الإعلامي والتنافس على المناصب البرلمانية وعزو بعض النجاحات البرلمانية لاجتهادهم الشخصي وعلاقاتهم وفاعليتهم داخل أروقة الكنيست. استمرت هذه الرغبة في التأثير في الانتخابات للكنيست ال 24 العام الماضي (2021) حيث شهدنا تصدعا جديدا في المشتركة انتهى بقرار القائمة الموحدة برئاسة منصور عباس في خوض تلك الانتخابات كقائمة مستقلة عن المشتركة. كانت الخلفية الأساسية لهذه الخطوة مسألة التأثير، حيث أخذت القائمة الموحدة خطاب التأثير إلى سياق جديد وهو التأثير من خلال المشاركة السياسية الفعلية بحسب ما صرح به رئيسها وعينيا من خلال الدخول في الائتلاف الحكومي لحكومة بينيت – لابيد لاحقا بعد انتهاء الانتخابات.

تشارك الأحزاب العربية وعلى إثر تفكك إضافي للمشتركة في الأسابيع الأخيرة الانتخابات المحلية في ثلاث قوائم انتخابية: تحالف الجبهة والعربية للتغيير في قائمة واحدة أما التجمع الوطني الديموقراطي كما القائمة العربية الموحدة فهما يخوضانها بقوائم مستقلة. يضع هذا التفكك الحاصل وتراجع التصويت للأحزاب العربية في كل مرة تفككت فيه جزئيا أو كليا شعار التأثير والتأثير المنشود، حقيقيا كان أو متخيلا، والذي كان رافعة مركزية للدعم الشعبي والإنجاز الانتخابي الذي حظيت به القائمة المشتركة أمام مساءلة جدية وحاجة إلى قراءة حقيقية وواعية، كما ويبدو لنا أن هذا الشعار الذي حقق للمشتركة النجاح سابقا قد يكون الآن أحد الأسباب المركزية والجديرة بالتوقف عندها لتفكك المشتركة وخيبة أمل جمهور الناخبين منها ومن عدم تحقيق التأثير الذي وُعد به خلال السنوات الأخيرة.

الأمر اللافت هو بقاء خطاب التأثير على السياسة الإسرائيلية حاضرا ومركزيا في خطاب القوائم الثلاث التي تخوض الجولة الحالية للانتخابات. حيث تواصل جميعها رفع خطاب التأثير وإن كان ذلك بلغة ومفردات وتصورات عامة وفضفاضة مختلفة حينا ومتشابهة في أحيان أخرى. تستمر في هذا السياق القائمة الموحدة في التعبير عن رغبتها بالتأثير من خلال الاستعداد لتجديد الشراكة مع الأحزاب التي شكلت الحكومة الأخيرة في تشكيل ائتلاف حكومي مقبل وقد يكون الأمر مطروحاً أيضاً في حال تشكلت الحكومة المقبلة من أحزاب أخرى. تؤكد القائمة الموحدة على استمرارها في نهجها الجديد الذي يسعى إلى التأثير من خلال التركيز على هموم المواطنين العرب اليومية والحياتية المدنية والحقوقية والمطالبة في زيادة الميزانيات من خلال توسيع دائرة المشاركة السياسية من التمثيل البرلماني أيضا في السلطة التنفيذية، أي الحكومة. أما قائمة الجبهة والعربية للتغيير تركز في خطابها على "التأثير بكرامة". لا أعي تماما ما القصد من الكرامة وكيف نعرف هذه المفردة وكيف ستترجم التأثير بكرامة، لكن من خلال المتابعة الدقيقة والمكثفة لصاحبات وأصحاب هذا الشعار الجديد، أزعم بأنه ليس إلا رد فعل على نهج التأثير الذي خطته الموحدة خلال السنة الأخيرة وحتما ليس أكثر من شعار عاطفي لا يحمل مشروعا سياسيا واضحا لتحقيق التأثير. أما التجمع فهو خلال حملته الانتخابية مؤخرا لا يرفع شعار التأثير بشكل واضح لكنه يعبر عنه من خلال التأكيد على مصيرية وأهمية استمرار تمثيل الحزب في الكنيست وسعيه إلى للتأثير على طابع الدولة وتحويلها لدولة ديموقراطية حقيقية أو بكلماتهم "دولة كل مواطنيها".

ليست المشكلة في خطاب التأثير بالمطلق ولا في السعي إليه وضرورة التأثير على ما يجري في هذه الدولة في إطار ممارسة المواطنة وتغيير واقع سياسي، اجتماعي، اقتصادي و/ أو قانوني يخص الشأن الجمعي، وهذا ينسحب على المواطنين كأفراد ومجموعات كما على مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. كنت في السابق وما زلت من المنتقدين لرفع سقف التوقعات من القائمة المشتركة وتحديدا من خطاب التأثير الذي حملته ورفعت معه سقف التوقعات لدى الكثير من مجتمعنا لدرجة تسميته آنذاك بوهم التأثير[2] وذلك لسبب رئيسي وبالغ الأهمية ولا يمكننا إغفاله وهو طبيعة هذه الدولة التي نعيش فيها وجوهر نظام الحكم فيها ولمحدودية الحيز البرلماني عندما يصبح هو حيز النضال المركزي والوحيد لأقلية قومية أصلانية في دولة تعرف نفسها كدولة اليهود أي المجموعة القومية التي تشكل الأغلبية في إطار المواطنة الإسرائيلية. وهنا علينا أن نعيد طرح الأسئلة التالية: ما هي حدود التغيير والتأثير الذي يمكن للأحزاب العربية تحقيقه داخل البرلمان الإسرائيلي ومن خلال تمثيلها بداخله؟ ما هي حدود وإمكانيات التأثير في تغيير جوهر هذه الدولة ونظامها السياسي الذي يقوم على التفوق العرقي اليهودي وتستمر في فرض سيطرتها العسكرية على بقية السكان غير المواطنين فيها (المناطق المحتلة عام 1967)؟ ما هي مجموعات الهدف التي تريد الأحزاب العربية التأثير عليها خارج المؤسسة السياسية الإسرائيلية الرسمية وكيف يمكن فعليا التأثير في حدود المواطنة الضيقة وفي ظل محاولات نزع الشرعية عن حقها في المشاركة السياسية من قبل غالبية الأحزاب الصهيونية؟ أي مشروع سياسي وطني علينا أن نبني لنحول التأثير من خطاب فضفاض ومبهم وعام إلى استراتيجية سياسية، برلمانية، شعبية وإعلامية موحدة وواعدة رغم الاختلافات الأيديولوجية بين الأحزاب المختلفة وقد تكون غير مرتبطة بوحدتها في قائمة انتخابية واحدة كما هو الحال الان، وترجمة هذه الاستراتيجية إلى برامج وآليات عمل ونضال شامل ومركب وممنهج للبدء بمشروع جدي للتأثير على الواقع الذي نعيش فيه يكون فيه التمثيل السياسي والانخراط في البرلمان الإسرائيلي وربما المستويات السياسية الأخرى هو أحد أعمدة هذه الاستراتيجية وليس الهدف النهائي والاوحد. كل هذا دون أن نغفل المركب الثاني في هذه المعادلة وهو مرتبط بالدولة نفسها بمؤسساتها السياسية ونظامها وجوهرها والأغلبية اليهودية من مواطنيها ويتمحور حول جاهزية النظام السياسي بمركباته الحزبية الحالية في توسيع حدوده والتنازل عن الهيمنة اليهودية الصهيونية المطلقة وإعادة صياغة حدود المواطنة الإسرائيلية المبنية على أسس عنصرية لتسمح بالمساواة الحقيقية، الفردية والجمعية، والشراكة الفعلية للأحزاب العربية، أي لمن هو خارج الانتماء الضمني لهذه الهيمنة الاستعلائية والإقصائية.

 

الإحالات:
  1. عن البيان السياسي للقائمة المشتركة ٢٠١٥:
    https://www.arab48.com/انتخابات-2015/الصوت-العربي/2015/01/28/القائمة-المشتركة-تعلن-برنامجها-السياسي

  2. لقراءة المقال: https://forum.vanleer.org.il/ar/?p=1971

د. رولا هردل

باحثة في "معهد هارتمان" في القدس

شاركونا رأيكن.م