شخصية العام 2021: "المشتكي المجهول"
"الشيطان يكمن في التفاصيل الصغيرة" كما يقول المثل الأجنبيّ. يعتبر الإعلام والجمعيات، القوة الأهم في المجتمع المدني ولديهما الوسائل والمهارات لطرح قضايا وإثارة الرأي العام حولها، غير أنهما بعيدان تمامًا في كثير من الأحيان عن القضايا اليوميّة للناس، الّتي قد تبدو لهم من صغائر الأمور، وحتّى في القضايا التي تحظى باهتمام وعناوين، قد تغيب التضفاصيل الصغيرة عن ناظر الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.
هذه المحدودية، المفروغ منها، في عمل الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، تجعل نجاح تلك المؤسسات في الخوض في تفاصيل القضايا المختلفة والتعاطي معها منوط بتلقيها المعلومات والإيضاحات اللازمة من الشارع - من النّاس. هذا صحيح أيضًا بالنسبة للإعلام، وإلى حدّ ما للشرطة أيضًا والمؤسسات الرسميّة، إلّا أن الجمعيات وبخلاف هؤلاء، تفتقر غالبًا لوسائل التحري والتحقيق، ولا يتّبع هذا الأسلوب في عملها.
لذا فوعي الجمهور، مساهمته في عرض الحقائق والمواضيع من منظوره اليومي، وطرحها أمام مؤسسات المجتمع المدني هو المفتاح لاهتمام تلك المؤسسات ومتابعتها للقضايا. الأمر يكتسب أهمية خاصة عندما يكون الحديث عن مسألة مثيرة للجدل والخلاف داخل المجتمع. فقد يكون من السهل أن يكشف المواطن العربي في البلاد عن سلوك عنصريّ من قبل مؤسسة حكومية أو عن تقاعس الشرطة في معالجة العنف، ويلقى حاضنة شعبية لذلك، بينما قد يصعب عليه توجيه نقد لعمل مؤسسة في بلدته، إذ تتداخل على الفور في مثل هذه القضايا اعتبارات وضغوط عائلية واجتماعية، لتبقى هذه المواضيع في طي الكتمان. في هذه الحالة تكمن أهمية خاصة في إمكانية التوجه بشكل فردي (أو سريّ) لوسائل الإعلام أو الجمعيات ذات الصلة، فينقل المواطن الكرة لملعب تلك المؤسسات.
مؤسسات المجتمع المدني الّتي تُعنى بقضايا الفساد الإداري، وقضايا السلطات المحليّة على وجه الخصوص، كعملنا في جمعية ""محامون من أجل إدارة سليمة""، وكذلك الجمعيات الّتي تعالج قضايا اجتماعية أخرى، هي مثال واضح على تلك المؤسسات الّتي تعمل، في كثير من نشاطها، بناء على توجهات الجمهور والقضايا الّتي يطرحها، وبالتحديد بناء على توجهات أشخاص مستائين من واقع اجتماعي معيّن، إلّا أنهم لا يملكون القدرة أو الوسائل للعمل على تغيير ذلك الواقع.
وفق النظرية الديمقراطية، لرأي الجمهور وثقته بمؤسساته ومنتخبيه دورٌ مركزي في التأثير على نظام الحكم وعمل المؤسسات، وفي تحديد هوية من سيقودون تلك المؤسسات في الانتخابات، وتعطى أهمية بالغة ومضاعفة لحريّة التعبير في القضايا السّياسية، إلّا أنه وللأسف، هذه الحريّات تبقى نظرية إلى حدّ كبير، في ظل الطابع والممارسات العائلية في الحكم المحلي العربي. أيّ نقد قد يفسر في كثير من الأحيان كإعلان المناكفة ولربما العداء لمنتخب الجمهور وعائلته، فكيف إذا كان النقد قد تمثل بتوجه المواطن للقضاء لإبطال قرار أو إجراء معين اتخذته السلطة!
لذا، لوجود الجمعيات والمؤسسات أهمية خاصة، إذ تسد فجوة الإمكانيات والوسائل الّتي غالبًا ما يفتقر إليها المواطن، تسهل إمكانية معالجة المشكلة الّتي يطرحها، وتمكّن المواطن من المساهمة في عرض الحقائق وكشف الفساد والتجاوزات دون الخوف من تعرض الآخرين له (خاصة في ظل آفة العنف المنتشرة). نجاح تلك المؤسسات بمعالجة القضايا المختلفة منوط بتلقيها توجهات من المواطنين وتزويدها بمعلومات هامّة.
من "الفسّاد"؟
لغويًّا، كلمة الفسّاد قد تعبّر عن شخصٍ مفسد، أو كثير الفساد. إلّا أنها تطلق في اللغة المحكيّة على من ""يشي"" أو يكشف أمرًا أو سرا معينًا، فيقال ذلك فيمن يكشف أمرًا ما للشرطة، لمؤسسة رسميّة أو حتى للطفل الّذي أفشى عن سر بينه وبين صديقه أو أخيه. ربمّا نتيجة للظروف السياسية الّتي مرّ ويمرّ بها المجتمع العربي في البلاد، يختلط هذا التعبير مع أوصاف مثل ""الخيانة"" ""الجاسوسية"" وغيرها.
الغريب في الأمر، أنه وبخلاف الفكرة الديمقراطية ومبدأ رقابة الجمهور ونقده وبخلاف الحصانة القانونية والدعم الشعبي الّذي يحظى به الكاشفون عن الفساد (بالإنجليزية يقال ""Whistleblower"" وبالعبرية يقال ""חושף שחיתות"") في دول ومجتمعات عديدة، كثيرًا ما يُطلق هذا المصطلح المهين على من يكشف قضايا فساد أو تجاوزات خطيرة. ففي عمل ""محامون من أجل إدارة سليمة"" كثيرًا ما يُصادفنا السؤال (المصحوب أحيانًا بكيل من التهجم والإساءة) عن هوية ""الفسّاد"" الّذي كشف أمر تعاقدات بمبالغ طائلة من السلطة أجريت بشكل غير قانوني، أو إعطاء الوظائف لمن لا يستحقها، أو التعيينات العائليّة!
المضحك المبكي أن من يبحثون عن ""الفسّاد"" في الكثير من الأحيان، هم في الحقيقة يتساءلون عمّن كشف عن الفساد في عملهم وممارساتهم.
لحسن حظ المجتمع، ولسوء حظ من يقومون بتجاوزات ومخالفات فساد، كثر ""الفسّادون"" والمشتكون في السنوات الأخيرة، الّذين يطرحون قضايا المجتمع أمام الجمعيات، والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة، ويقدمون بذلك مساهمة هامة لمعالجة وحل تلك القضايا. متابعة تلك القضايا وطرحها بقوة من قبل الجمعيات، ونخص بالذكر قضية الفساد وإصلاح الحكم المحلي الّتي ذكرت مثالًا، تساهم في ترسيخ قيم اجتماعية هامة (بدلًا من أفكار وممارسات سلبيّة)، وبالتّالي تصبح هذه القيم ثابتة ومتعارفًا عليها بالرأي العام، وقد يصبح طرحها مستقبلًا أسهل على المواطن.
إذن مشاركة الجمهور في محاربة الفساد الجمهور بما يملكه من معلومات، ينقلها ""المشتكي المجهول"" (الّذي يفضل التوجه للجمعيات في كثير من الأحيان دون ذكر اسمه، أو بطلب تحييد اسمه، خشية ممارسات عنيفة أو ضغوط)، هي حلقة وصل هامة بين مؤسسات المجتمع المدني والمجتمع ومفتاح لمتابعة الكثير من القضايا.
فللباحثين عن شخصية العام والأجدر بالتقدير، إنهم أولئك المنتمون لقضايا مجتمعهم، ويسعون لتغيير حاله للأفضل.
على أمل أن يأتي يومٌ يحتاج فيه ""الفسّاد"" والمخطئ الحقيقي للتستر والخجل، لا من يكشف أمره!
الصورة: ""نصب تذكاري للشجاعة."" نصب تذكاري في جنيف يكرم سنودن وأسانج ومانينغ في جني - سويسرا."