عام انتصار الأبرتهايد, فماذا بعد؟

يميل الكثير من الزملاء الأكاديميين والناشطين في الحقل السياسي والاجتماعي إلى الاستشهاد بحالة الانتقال الديمقراطي في جنوب أفريقيا كحالة ممكن ""نسخها"" في فلسطين، وهذا برأيي مبالغ فيه، ولا ينظر إلى فروق جدية بين الحالتين، لكنننا بالتأكيد نستطيع أن نستلهم إمكانيات التغيير مما حصل في جنوب افريقيا قبل ثلاثة عقود، ونستطيع النظر إلى بعض الدروس لأجل قراءة ما يحدث في فلسطين. ومن هذه الدروس هو فهم اللحظة أو المرحلة التي أصبح فيها بالإمكان إدانة الأبرتهايد والعمل جليا على تقويضه كوضع يستند إلى نضوج الأبرتهايد أو تغوله ووضوحه، فكما كل شيء يُعمل على نفيه أو إبطاله، تكون عملية مقاومته أسهل أو أوضح عندما يكون شفافا، واضحا وجليا.

عام 2021، كما كل ما سبقه، مجبول بالكثير من الأحداث والشخصيات والتطورات، لكنني أختار ""انتصار الأبرتهايد"" ووصوله الذروة كسيرورة، وتعبير عن بنية، وليس حدثا محددا كأهم أحداث العام. أقترح أن نتخيل العام 2021 كعام انتصار الأبرتهايد في فلسطين، أو وصوله الذروة، وذلك ليس لأننا لم نشهد أحداثا مفصلية أقوى بكثير مما حدث خلال قرن، أو أكثر، من سيطرة قوة استيطان-استعماري في فلسطين، مثل إعلان بلفور عام 1917، أو إعلان صك الانتداب عام 1922، أو النكبة وتهجير الفلسطينيين عام 1948، أو حرب يونيو 1967، أو اتفاقية اوسلو عام 1993، إلخ من الأحداث التي تركت أثرا قويا وعميقا ومؤثرا إلى أبعد الحدود، بل لأن الاستعمار الاستيطاني الذي أسس نظام أبرتهايد متكامل، وصل إلى أعتى قوته، ونجح في حالات كنا قبل عقد أو أقل نظن أنها غير ممكنة، مما استدعى نشر تقارير دولية تتعقب تطور هذا النظام وتموضعه كنظام فصل عنصري حسب القانون الدولي والنظرية السياسية، وأهمها تقرير صدر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، وتقرير صدر عن ""هيومن رايتس واتش"" وتقرير صدر عن مؤسسة ""بتسيلم"" الإسرائيلية، عدا عشرات الدراسات والأوراق المنشورة حول الموضوع.

أعني ""بانتصار الأبرتهايد أو وصوله الذروة"" قائمة طويلة من ""الإنجازات""، أولها نجاحات واختراقات إسرائيلية غير مسبوقة في العالم الثالث الذي ساند الفلسطينيين أكثر بكثير من دعمه لإسرائيل قبل عقدين أو اقل، فضلا عن اتفاقيات التطبيع مع دول عربية واختراق العالم العربي، وهزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل غير مسبوق، وزيادة تبعية المواطنين الفلسطينيين للنظام الإسرائيلي ولمضمونه بشكل أعمق من أي فترة مضت. وفوق كل ذلك، أو فيما يتعدى ذلك، تكامل تشييد بنية سياسية يهودية-إسرائيلية تدعم نظام الفصل والتفوق، وتفتت من عمل على عكس ذلك داخل المجموعة اليهودية، أو أدخلهم في نفق الدعم الفعلي لمشروع الأبرتهايد، إننا باختصار أمام وصول الأبرتهايد وتقدم المشروع الكولونيالي الاستيطاني إلى نقطة الذروة، قد يأتي ما بعدها ذروات لاحقة، لكنها ممكن أن تتغول أكثر أو أن تزول تدريجيا، وذلك يتعلق كثيرا بنا، نحن الفلسطينيين، الضحايا الأساسيين لهذا النظام المتفاقم.

بعد ثلاثة عقود من مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو، التي مثلت ذروة الاعتقاد بأننا نقترب من تحقيق حل الدولتين والتصالح بين الشعبين، اليهودي-الإسرائيلي والعربي-الفلسطيني، ونشوء حالة من التطبيع بين التطلعات القومية للشعبين، تبين لاحقا أن تلك الذروة كانت ممكنة؛ لأن اللاعبين المركزيين محليا ومناطقيا ودوليا، رغبوا بها، لكنهم لم يعدوا أو يسيروا جديا لتنفيذها، وتصدر أحد اللاعبين المركزيين لتلك الذروة، وأعني إسرائيل، وأفسدها تماما، مخلفا لحظات للتأمل والتفكير، والخلاف حول معناها، بدون أية امكانية لتنفيذها.

هنا أود أن أوضح معنى الانتصار أعلاه، سوف أقدم باختصار شديد تجليات هذا الانتصار، مع تأكيدي بأنها تستحق كتابا أو أكثر، لكنني سأعرضها باختصار ملائم لمقال قصير، وبشكل يفيد توضيح فكرتي حول هذا الانتصار.

أولا، انتصار مشروع اليمين الاسرائيلي وتلاشي اليسار إلى نقطة غير مسبوقة. فبعد أربع جولات انتخابية خلال العامين الفائتين، تمخضت الانتخابات الأخيرة –مارس 2021- عن إقامة حكومة إسرائيلية هجينة من يمين ويسار وفلسطينيين، قائمة على استثناء نتنياهو والليكود وحلفائه من الاحزاب المتدينة. وتعرض الحكومة على أنها ""حكومة تغيير"" ومع برنامج جديد، إلخ. الحقيقة أنه لا يوجد أي أساس لهذا الادعاء، وخصوصا في قضايا الصراع مع الفلسطينيين، والتي تقع ضمن القضايا الخلافية كما اتفق بين مركبات الائتلاف، والتي لا يجوز اتخاذ قرارات وإجراءات بصددها، أي إن ما كان زمن نتنياهو سيكون هنا. بكلمات أخرى استمرار مشروع التهويد والاستثناء وعدم توقيفه. وتدل الميزانية الأخيرة التي أقرت بدايات نوفمبر الحالي بذلك. كما في ذلك القضايا الجوهرية للفلسطينيين في إسرائيل، مثل قانون القومية وباقي القوانين التي تعد مركبا أساسيا في نظام التفوق العرقي، ولا في قضايا توزيع الأراضي، ولا في قضايا التمييز المركزية، وتكتفي بفتات من دعم مالي محدود جدا، بالإضافة إلى اعتراف مشروط بالتنازل عن الأرض لثلاث قرى بدوية في النقب، مع ترك باقي القرى –حوالي 25- في مهب الريح والعرضة للاقتلاع والتهويد.

في سبيل التدليل على ما أقول، قام د. منصور عباس – رئيس القائمة الموحدة، قبل أيام، وبعد تصويته ضد مشروع إقامة مستشفى في سخنين، بتصريحات تبرير، بأن هناك اتفاقًا داخليًّا داخل الائتلاف بعدم دعم مشاريع غير متفق عليها، وإيضاحه بأنه لا يدعم مشاريع مثل مشروع المستشفى تماما كما يفعل شركاؤه في الائتلاف بعدم تقديم مشاريع خاصة –إضافية- لدعم الاستيطان. في هذا الكلام خداع كبير لجمهور المستمعين، فإفشال مشروع قرار لإقامة مستشفى في سخنين (وحتى قرار إقامة مستشفى) لا يعني أبدا إقامة مستشفى حكومي في بلد عربي، أما تقديم مشاريع قانون لدعم الاستيطان وإنجاحها أو إفشالها فليس لها أي تأثير، فالاستيطان قائم بقانون وبغيره، ولا تستطيع الحكومة ولا الكنيست، وبأي نوع من القرارات توقيف ذلك. أي إنه عمليا د. منصور عباس جزء من حكومة تدعم الاستيطان ضمنا، إذ لا عباس - ولا غيره - يستطيع توقيف ذلك، بينما موقفه ضد إقامة مستشفى يحمل معنى واحدًا، أنه يقف هو ومن يدعمه ضد مصالح شعبه، حتى لو أن ذلك من قبيل الإعلان وليس له علاقة بإمكانيات التنفيذ.

ثانيا، اختراقات دولية وعربية غير مسبوقة. هنا القصد بأنه مع استمرار الاستيطان والتهويد وتوحشه، ومع الإعلان للحكومة الحالية وسابقتها برئاسة نتنياهو، ومع الوقوف بوضوح ضد إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال، وهي شروط كانت تسوّقها دول مساندة للفلسطينيين، بما في ذلك في العالم العربي، وقبل عقد من الزمن أو أقل، كشرط لفتح علاقات مع إسرائيل، بدأت دول أفريقية والهند والصين وروسيا ودول في أمريكا الجنوبية وخمس دول عربية –الإمارات والبحرين والسودان والمغرب وموريتانا- ببناء وفتح علاقات غير مسبوقة مع إسرائيل، التي تمارس سياسات قمع وتهويد وأبرتهايد مكشوفة، أكثر من أي وقت مضى. أقصد بأن نظام الأبرتهايد يحصد نجاحات واعترافات ودعمًا دوليًّا غير مسبوق، وهذه إنجازات وصلت أوجها عام 2021.

ثالثا، تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية وأدائها بشكل غير مسبوق وتحولها إلى مركب مهم في تشكل الأبرتهايد. وهي عملية تراجع ممتدة منذ عدة عقود، وتعاظمت مع وصول محمود عباس إلى قيادة الحركة الوطنية، المنظمة والسلطة، لكنها وصلت ذروتها متمثلة في التراجع في العام 2021، وخصوصا بعدما أعلن عباس إبطال الانتخابات العامة بسبب خشيته من خسارة حركة فتح في الانتخابات، وتزامن ذلك مع تصعيد كبير في الاعتداء على المواطنين والنشطاء بشكل أكثر من ذي قبل، عبر عن ذلك باغتيال الناشط نزار بنات وقمع وحشي لتظاهرات الاحتجاج في أعقاب ذلك.

كل هذه التطورات مع توضيح بأننا لسنا أمام حل منصف، ولو قليلا للفلسطينيين، بل نحن أمام سلطة وطنية هي بالحقيقة بانتوستان مساند للاحتلال ويعمل على حفظ مصالح إسرائيل وأمنها، ومن خلال ذلك الحفاظ على المصالح الشخصية المادية والمناصب للمتنفذين للسلطة، بما في ذلك دعمهم الضمني لنظام الأبرتهايد وكونهم جزءًا مهمًّا من تشكله. هنا يمكن الإطالة بالشرح والتفسير، لكن الأمر واضح برأيي وكتب عنه كثيرا خلال السنة المنصرمة وقبلها، وممكن الرجوع لذلك لمن يرغب بالاستزادة.

رابعا، تحول جوهري في نشاط الفلسطينيين في إسرائيل، من مقارعة الأبرتهايد إلى دعمه. تاريخيا ناضل الفلسطينيون في إسرائيل بغالبيتهم الساحقة في إطار ما سماه كل من أريج صباغ-خوري ونديم روحانا ""المواطنة الاستعمارية""، وشهد تاريخ نضالهم موجات من الصعود والتراجع، من نضالات الخمسينيات من القرن الماضي، مرورا بمقاومة الحكم العسكري حتى أواسط ستينيات القرن الماضي وصولا إلى نضالات يوم الأرض وفي سبعينيات القرن الماضي، ونضالات المسكن والمساواة المدنية التي تعاظمت في ثمانينيات القرن الماضي مع ارتفاع منسوب الإيمان بإمكانية إنهاء احتلال الضفة والقطاع وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى جانب اسرائيل، مع قبول الفلسطينيين في إسرائيل بمكانة المواطنة المتساوية في إسرائيل، وهو مسار وصل ذروته مع أوسلو ودعم حكومة رابين من قبل الأحزاب العربية في الكنيست.

تنامت في تسعينيات القرن الماضي وما تلاها قوة الفلسطينيين في إسرائيل وعناصر تنظيمهم الجماعي، مما قاد إلى ارتفاع صوتهم بوضوح ضد نظام الاستعمار الكولنيالي والفصل والتفرق الإثني -الأبرتهايد وقد تجلت مواقفهم المناهضة للأبرتهايد والداعية إلى مساواتهم في وطنهم في إعلان وثائق ""التصور المستقبلي""، التي شارك في إعدادها مثقفون وسياسيون من كل التيارات السياسية لدى الفلسطينيين في ال-1948، وخصوصا في وثيقة ""التصور المستقبلي"" التي رعاها رئيس لجنة المتابعة العليا، وأقرت رسميا في لجنة رؤساء المجالس والبلديات في بداية عام 2007.

صيغت وثائق التصور المستقبلي في سياق انسحاب إسرائيل من إمكانيات التسوية السياسية مع منظمة التحرير، لكن غالبية المشاركين في التحضيرات لإطلاق هذه الوثائق اعتقدوا بوجوب الاستمرار في مطلب إقامة دولة فلسطينية وعودة اللاجئين والمساواة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. لكن مسألة الحل السياسي على أساس المفاوضات نفقت نهائيا مع صعود نتنياهو للحكم عام 2009، وبذلك فإن فكرة الحل السياسي لم تعد حتى تسمح بوجود أمل بأي حل سياسي معقول، وبدا مشروع بناء نظام الأبرتهايد أكثر وضوحا ما سبق، بما في ذلك تقوية وتدعيم نظام التفوق العرقي داخل الخط الأخضر، ووصوله إلى الذروة بإقرار قانون ""إسرائيل الدولة القومية"" عام 2018. هذه التطورات أدت إلى فرز واضح داخل الفلسطينيين في إسرائيل، بين من يعارض نظام التفوق العرقي ويواجهه، وبين من يتماثل معه ويسانده، وحتى أنه يبادر إلى تقوية العلاقة الحميمية والتماثل معه. وقد زادت قوة التيار الثاني، الداعم للأبرتهايد، بشكل مباشر وواضح أو بشكل غير مباشر في العامين المنصرمين، وهذا التطور شكل انتقالا جديا في سياسات الفلسطينيين في إسرائيل على مركباتهم الأساسية، الموحدة والمشتركة بشكل أساسي، كما سنبين أدناه.

عند الحديث عند دعم الأبرتهايد في العقد الأخير يذهب الكثيرون إلى الأعضاء العرب في الأحزاب اليهودية المركبة للائتلاف الحالي والذين قبلوا الانضواء داخل الأبرتهايد ضمنيا وخدمته، بما في ذلك تمثيل إسرائيل في العالم، بما في ذلك دول العالم العربي وفي لقاءات مع السلطة الفلسطينية ورئيسها، أو إلى ظاهرة د. منصور عباس ودخول القائمة الموحدة للحكومة، التي تمارس وتشيد نظام الفصل العنصري والأبرتهايد بشكل لا يقل عن سابقاتها، لكنني أعني أن الأمر أكبر وأبعد من مشاركة الموحدة ومنصور عباس. بالنسبة للموحدة وللدكتور عباس، الأمر واضح ولا لبس فيه، فقد اختار أن يكون جزءا من حكومة أبرتهايد، من حيث إعلان إقامتها كما في حيثيات عملها، وتنازل طوعا عن مواقفه السابقة ضد التفوق العرقي. وتدلل على ذلك عشرات الوقائع والتصريحات لمركبات الموحدة: دعم سياسات الحكومة داخل الخط الأخضر وخارجه بما في ذلك في القدس، ومسؤوليتها في ذلك كشريك في الحكومة، وتمرير ميزانية تدعم الأبرتهايد، وتصويتها إلى جانب أو امتناع بعض أعضائها في قانون ""لم شمل العائلات""، وتغاضيها عن قوانين التفوق العرقي وعشرات الخطوات العملية التي تعتبر جزءا من الأبرتهايد ومبنى الفصل والتفوق العرقي، وتصريحات منصور عباس بشأن دعمه ""لميزانية تدعم أمن إسرائيل""، وهنا أيضا لا حاجة للتوسع، فالدلالات كثيرة وكتبت تقارير ودراسات عديدة بصددها، ويمكن الرجوع إليها بسهولة.

الأمر الذي لا يقل خطورة في هذا السياق هو ما قامت به المشتركة بقيادة رئيسها النائب أيمن عودة. لقد تقلد عودة منصب رئيس قائمة الجبهة الديمقراطية، وترأس القائمة المشتركة أوتوماتيكيا بفضل ذلك، وكشاب له مساهمات في التصورات المستقبلية وفي نضالات سابقة توسمت خيرا من انتخابه ورئاسته للمشتركة وحتى أنني نشرت مقالتين في المجلة العالمية ""فورن أفيرز""، عنه وعن المشتركة وأهميتها. فعلا، شكلت القائمة المشتركة إمكانية جدية لتنظيم صفوف الفلسطينيين وتعضيد قوتهم في مجابهة نظام التفوق العرقي وسياسات الدولة، داخل وخارج الخط الأخضر. إلا أن الواقع حمل الكثير من التراجع في السياسات الجماعية للفلسطينيين في إسرائيل وتردي قوتهم السياسية في الحيز العام، وذلك بدأ قبل انسحاب القائمة الموحدة من القائمة المشتركة، لكنه تعاظم بعدها، ومنعها من تقديم أي إنجاز جماعي ملموس لمصلحة مجتمعنا، ويمكن أن ينسب إلى القائمة المشتركة خلال ست سنوات من نشاطها، وذلك رغم أن المشتركة مثلت ارتفاعا موضوعيا جديا في قوة الجمهور الفلسطيني في إسرائيل، فما تفسير ذلك؟

يرجع هذا الإخفاق إلى عدة أسباب، أهمها قوة الدولة وسياساتها في إخضاع أبناء الأقلية العربية، والدعم الكبير لسياسات التفوق العرقي لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل، ومن أسباب التردي يمكن إيراد ضعف الأداء السياسي المنفرد للأحزاب المشكلة للمشتركة، وضعف قياداتها في تناول القضايا الجمعية والوطنية للفلسطينيين في إسرائيل، وتراجع الوضع العربي والفلسطيني عموما. لكن أهم الاسباب، هو دور أيمن عودة شخصيا في إضعاف النضال الفلسطيني في إسرائيل، وذلك يرجع إلى عاملين أساسيين؛ الأول ضعف دوره كقائد وعدم تمكنه من أداء هذا الدور، وثانيا، اتباعه مواقف وطرق مقصودة لأجل خدمة أهداف ليس لها علاقة بالوضع الجماعي للفلسطينيين في إسرائيل؛ أعني تحديدا قيامه بالانضواء تحت سقف سياسات الأبرتهايد والاستعمار الكولونيالي، وقيامه شخصيا بالدعوة من على منصات عديدة لقبول إسرائيل كدولة ""يهودية"" وقد قام بذلك محليا وعالميا من خلال منصات وفرتها له جمعيات ومراكز أبحاث ولوبيهات تعمل في سياق دعم اليسار الصهيوني ومشروعه في دولة ""يهودية-ديمقراطية"" وتدعم حل ""الدولتين"" الذي أصبح غير منطقي وغير ممكن عمليا. فضلا عن التصويت على غانتس والإعلان عن دعم حكومة يشكلها، وفقط رفضه منع استباق تجربة القائمة الموحدة ولو بشكل أقل حدة.

باختصار، تفسيري المركزي هو أن عودة، ومن ورائه المشتركة، عمل قصدًا على منع بناء مشروع سياسي جماعي ووطني للقائمة المشتركة يقوم بتحدٍّ جماعي للأكثرية وممثليها وسياساتها، وذلك بفضل ضغوطات وقعت عليه و\أو تقييمات شخصية، هدفت إلى إرضاء اليسار الصهيوني وجمعياته وصناديق وممولين يعملون على دعمه، خصوصا من قبل يهود أمريكيين، وشمل ذلك وصول أموال بمبالغ كبيرة لدعم جمعيات عربية ونشر ثقافة إفساد مثقفين وإعلاميين، وهي أموال لا زالت تتدفق حتى كتابة هذه السطور، وتهدف برايي إلى ""شراء المشتركة"" والجمهور الفلسطيني في إسرائيل من خلفها. والأسوأ من ذلك كله هو تشجيع قيادات في السلطة ومنظمة التحرير وجزء كبير من قيادات ونخب الأحزاب الفاعلة في الداخل، لهذا النهج الذي ضرب العمل الوطني في العمق.

هدف اليسار الصهيوني وممولوه من يهود أمريكيين وغيرهم إلى إخضاع الفلسطينيين في إسرائيل لمشروع ""الدولة اليهودية-الديمقراطية"" وبث أمل واهم بأن مشروع حلّ الدولتين لا يزال قائما، وأن المساواة الفردية في الدولة اليهودية للفلسطينيين في إسرائيل هي الحل لمشاكلهم، وقد لعب عودة، ومن خلفه المشتركة، دورا مركزيا أفقد الفلسطينيين في إسرائيل قوتهم المفترضة في إحداث تغيير جدي في مواجهة الاستعمار-الاستيطاني في فلسطين ونظام التفوق العرقي القائم منذ عام 1948 والمتعاظم بعد احتلالات 1967. وطبعا لا يمكن فهم هذا من غير الانتباه إلى تهتك العمل الجماعي وتعمق النيوليبرالية الاقتصادية الفردية بين الناس، وتفتيشهم عن أي إنجاز تحت شعار ""بدنا نعيش"" والأمر مدعوم بطيف كبير من المثقفين والإعلاميين والمروجين لخط الخلاص الفردي، وحتى الجماعي، من خلال القبول بانتصار التفوق العرقي والعيش في كنفه.

ملاحظة عن ""محاربة العنف""

لا يمكن فصل الإخفاق والتردي في العمل الجماعي، عن تفشي ظاهرة العنف والجريمة، وطرق تعاملنا نحن، المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، ونخبنا وقياداتنا، معها. فقد شكلت، ولا زالت، أهم ظاهرة تقض مضاجع مجتمعنا في كل المستويات، وهي كذلك لأنها أصبحت شاغلا للناس ومصدر خوف رئيسيًّا لهم. طبعا كلنا نعرف أن ظاهرة العنف ليست جذر المشكلة، بل إنها العارض لمشكلة تشكلت تدريجيا نتيجة لسياسات الدولة الاستعمارية ولترتيبات نظام التفوق العرقي، كما لانفصالنا عن الهوية الجمعية الفلسطينية من حيث المشروع السياسي، بالإضافة إلى عوائق اجتماعية وبنيوية لها علاقة بمجتمعنا.

تصل ذروة العنف في أعداد متزايدة من الضحايا الذين يقتلون في بيوتهم والمقاهي والشوارع، لكنه من المهم الإشارة هنا إلى أمرين؛ الأول، القتل، وهو ذروة العنف، قد يصل من حيث الكم إلى عشرة بالمائة من ظاهرة العنف – على أعلى تقدير- إذا فكرنا في العنف الاجتماعي والفردي والعائلي وفي المدارس وفي الشوارع والاعتداءات على الأملاك العامة وإغلاق الشوارع في المناسبات الخاصة، إلخ... وثانيا، تتنوع مصادر القتل على الأقل بحسب السياق، أعني أن نصف من قتلوا –حسب تقارير جمعيات تعمل بالموضوع- تم الاعتداء عليهم في سياق اجتماعي من حيث شجارات وتجاوزات اجتماعية، وخلافات داخل العائلات وبينها، بينما تصل نسبة الاعتداءات من قبل عصابات الاجرام على خلفية الخاوة والمنافسات على تملك مصادر مالية في المجالس المحلية وغيرها إلى 50 بالمائة، أو أقل.

في هذه الوضعية، ما يمكن أن يكون مجابهة شاملة للظاهرة، هو العمل على إعادة بناء مجتمعنا وسبل تعضيد بنائه الاجتماعي والثقافي، على الأقل بنفس الحالة التي كانت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو ما رمت إليه المتابعة في ""مشروعها الاستراتيجي لمكافحة العنف""، والذي عملت على إنجازه طاقات مهنية عربية رائعة وكبيرة. لكن قياداتنا والكثير من نخبنا اختارت الطريق الأسهل، وهو التحميل الحصري لشرطة إسرائيل ومؤسساتها مسؤولية ذلك من حيث علاج المشكلة. وتكفي هنا مراجعة التصريحات في الآونة الاخيرة لرئيس لجنة المتابعة، ولأعضاء الكنيست ورؤساء سلطات محلية. وكلها تدور حول مسؤولية الدولة حصريا وحول أهمية ""مشروع مكافحة العنف"" المقر من قبل حكومة إسرائيل، ومطالبة الشرطة لتطوير أدائها، إلى آخره،.. أي تسليم الدولة مهمة مكافحة العنف والتلويح بإخفاقاتها أو نجاحاتها كل حسب موقعه.

طبعا تحمل الدولة والشرطة مسؤولية جمع السلاح، الذي سهلت انتشاره سابقا، وهو أمر واضح، ويجب أن يكون، لكن تسليم الدولة ومؤسساتها وأذرعها، من شرطة وشاباك ووزارات، إلخ.. مسؤولية مكافحة العنف، كما سلمناها سابقا تعليمنا كاملا، واقتصادنا كاملا، وقسطا كبيرا من ثقافتنا، إلخ.. لأننا لا نملك إرادة وطنية جماعية مقاومة للتفوق والفصل العنصري واستمرار مصادرة وطننا وإرادتنا، وعدم مطالبة فعالياتنا ومجالسنا وجمعياتنا بذلك، يعني أن هندسة مجتمعنا من خلال إعادة بنائه على خلفية الخراب الحالي ستكون مهمة خارجة عن إرادتنا وستعمل الدولة على هندسة مجتمعنا كما تريد. وهذا يعتبر انتصارًا آخر للسياسات الاستعمارية ولنظام التفوق العرقي، طبعا بسكوت جزء كبير منا وبدعم نشط لجزء ليس بأقل.. إننا نسلم مجتمعنا ثمرة ناضجة لنظام الأبرتهايد؛ لأن قياداتنا ونخبنا، في غالبيتها الساحقة، لا تريد أو لا تستطيع تحمل دورها في هذا السياق تحديدا.

نحو المستقبل

وصول الأبرتهايد إلى الذروة من حيث انتصاراته ونجاحاته، ممكن أن تكون نقطة الذروة لحظة تقود لانتصارات أخرى، وممكن أن تكون بداية التهاوي والسقوط كما حدث في جنوب أفريقيا. فتغول الأبرتهايد والسياسات الاستعمارية، داخليا وخارجيا، هي التفسير لصدور تقارير دولية وإسرائيلية حول الأبرتهايد وجريمة التفوق العرقي، وهي التفسير لاعتقاد غالبية الأكاديميين الذين يعملون حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في جامعات الولايات المتحدة والغرب، بأن ما يحصل في إسرائيل\فلسطين هو نظام تفوق عرقي، أبرتهايد (واشنطن بوست 17\9\2021 ). هذا الفهم وانتشاره في العالم، هو التفسير المركزي لنجاحات تقودها طاقات شبابية في الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، مثل حركات المقاطعة، وطرد سفيرة إسرائيل في بريطانيا من ندوة جامعية، وغيرها من عشرات النشاطات التي تشير إلى تعمق الفهم بأن إسرائيل أقامت نظامَ استعمارٍ استيطاني طور نظام الأبرتهايد والتفوق العرقي، أعني أن وضوح ""الإنجازات الإسرائيلية"" هي التي مكنت معارضي الأبرتهايد من تدعيم مواقفهم ضد هذا النظام، تماما كما حدث في برامج مقاومة الأبرتهايد في جنوب أفريقيا وفي الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، في ثمانينيات القرن الماضي.

نستطيع التقاط فرصة ""ذروة الأبرتهايد"" للعمل على تقويضه نهائيا، ولو بمراحل، والنخب الفلسطينية، وعموم فعاليات الشعب الفلسطيني، داخل وخارج الخط الاخضر، تستطيع القيام بالكثير في سبيل ذلك، ولنا في تجربة المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع تحت الاحتلال عام 1967 وفي تجربة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لدينا هنا في الداخل، دروس كثيرة في كيفية التصدي وبناء المجتمع وإرادته. لقد بدت ملامح تغيير فلسطيني ممكن خلال مواجهات مايو 2021، في تشييد موقف وعمل ميداني فلسطيني وموحد وعابر للحيثيات الخاصة لكل مجموعة، وهو مجهود أُجهِضَ لأسباب عدة أهمها دخول حماس على ""خط المقاومة"" وإطلاقها صواريخ في العمق الإسرائيلي، مما أفقد المناضلين الشباب في الشوارع والأحياء المختلفة، داخل وخارج الخط الـخضر، صوتهم وقوتهم المميزة في مقارعة التفوق العرقي واستراتيجيات الاستعمار في القدس وغيرها. لكن إمكانيات العمل لا زالت مفتوحة وتنادينا لالتقاط الفرصة. بداية يجب أن نعمل على إعادة بناء الوعي العام، من قبول التفوق والانخراط به، إلى مقاومته، من خلال العمل على تشييد وعي وطني للكل الفلسطيني وملتزم بالقيم الانسانية المعادية للأبرتهايد وللتفوق العرق. كما نستطيع المساهمة في رسم خريطة طريق لخروج دولي وعربي وفلسطيني وإسرائيلي من الأبرتهايد والوضع الاستعماري، إلى ما بعده – وهذا أضعف الإيمان في هذه المرحلة، فهل نقوم بذلك؟

الصورة: للناشطة الاجتماعية المقدسية امل النشاشيبي."

بروفيسور أسعد غانم

محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا وعضو "ملتقى فلسطين"

شاركونا رأيكن.م