خمسة عشر عاما على فقدان الحياة

يقول جيل فيري (Jules Ferry) إنه من متطلبات النظام الاستعماري أن يحاول سد طريق التاريخ على المستعمَرين (بفتح الميم).

في هذا الشهر يدخل الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة عامه السادس عشر، خلال 15 عاما من الحصار سعت خلالها إسرائيل لزرع اليأس وانعدام اليقين وفقدان الأمل لأكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في قطاع غزة، لم تستثنِ إسرائيل أيا من السكان الفلسطينيين من عقوباتها، سواء الأطفال أو النساء أو المسنين أو الرجال، لم تستثني المرضى أو الطلاب أو الأكاديميين أو الصيادين أو العمال أو المزارعين أو أصحاب المهن الصغيرة، تحاول إسرائيل سد طريق التاريخ على المجتمع الفلسطيني عبر تدمير ممنهج لكافة البنى التحتية والمنشآت الحرفية والتعليمية.

تحاول إسرائيل سد باب الأمل أو اليقين أو الحلم بواقع أو مستقبل أفضل، واضعة كل الفلسطينيين ضمن تصنيف واحد أنهم كيان معادٍ.

خلال خمسة عشر عاما من الحصار اندلعت 4 حروب مدمرة وما بينها من اعتداءات وقصف شبه شهري أو أسبوعي، قتلت إسرائيل في هذه الاعتداءات أكثر من 5000 فلسطيني أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء والمسنين، وأصيب فيها ما يزيد عن عشرين ألف مواطن فلسطيني نصفهم من الأطفال، ودمرت إسرائيل البنية التحتية والمرافق وفي حالات كثيرة لم تستثنِ البيوت والمستشفيات والمدارس ولم تسلم من التدمير، ناهيك عن البني الاقتصادية والصناعية التي هي في الأصل بسيطة ومتواضعة، ووفقا لمؤشرات الأمم المتحدة يفتقر 68% من السكان في قطاع غزة إلى الأمن الغذائي ويعتمدون على المساعدات الخارجية، ويفتقرون إلى الخدمات الأساسية والضرورية لتمكينهم من البقاء على قيد الحياة والعيش بكرامة، إذ ارتفع معدل البطالة بين الأفراد المشاركين في القوى العاملة، ووصلت إلى 47% في قطاع غزة وهذه أرقام خطيرة تزيد من الأعباء المتراكمة.

وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، إلى أن هناك مليون طفل يعيشون في غزة، ويبدو أن قدر هؤلاء بالعيش في تلك البقعة، حتم عليهم رؤية الموت رأي العين، بين حرب تنتهي و أخرى تبدأ إذ تشير اليونيسيف أيضا، إلى أن هناك نحو 250 ألف طفل من أطفال غزة، يعانون من مشكلات نفسية، وفي حاجة للمساعدة والدعم، ووفقا لمجلس اللاجئين النرويجي، فإن أحد عشر طفلا فلسطينيا، من أصل 60 طفلا لقوا حتفهم، نتيجة القصف الجوي الإسرائيلي الأخير على غزة، كانوا يشاركون في برنامج للمجلس، يهدف إلى مساعدتهم على التعامل مع الآثار النفسية الناجمة عن المآسي التي يعيشونها.

ووفقا لبيانات المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان فإن 91 في المئة من صغار غزة يعانون من صدمات واضطرابات نفسية بعد القتال العسكري الأخير في مايو (أيار) الماضي، أما قبله فإن 33 في المئة من الأطفال كانوا بحاجة إلى دعم نفسي نتيجة الصدمة الناتجة عن الهجمات السابقة.

أن تكون فلسطينيا يسكن في قطاع غزة معناه أن تفقد السيطرة على حياتك، لا تستطيع أن تتحكم في مجريات حياتك سواء السفر أو العلاج أو الدراسة أو العمل، ألا تعرف لماذا تبدأ الحرب وكيف ستنتهي، أن تبقى أسيرا لقلق الانتظار وعدم اليقين، لا تستطيع أن تخطط لمستقبلك أو مستقبل أطفالك أو أسرتك.

في قطاع غزة هذه المنطقة الصغيرة المكتظة بالكثافة السكانية العالية، تأخذ الأشياء والظواهر معاني مختلفة وإن تشابهت المسميات، في غزة لا يبدأ النهار عندما تشرق الشمس، في غزة يبدأ النهار عندما تأتي الكهرباء حيث دمرت إسرائيل محطة الكهرباء التي تغذي قطاع غزة بمعظم احتياجاته من الكهرباء، فجأة وفي سكون الليل إذا سمعت الجيران ينادون أجت الكهرباء فاعرف أن دورك في ساعات قليلة من الكهرباء قد جاء، تشعر أن النهار قد بدأ حيث تقوم الأمهات بتشغيل الغسالات وكي الملابس وأعمال المنزل، ويبدأ الرجال بتشغيل مواتير المياه لعلهم يحصلون على كمية من المياه تعبأها المواتير في براميل المياه بغرض القيام بأعمال البيت وليس للشرب حيث إن التقارير تفيد بأن 90% من مياه قطاع غزة لا تصلح للشرب، ويبدأ الجميع بشحن التليفون والكمبيوتر قبل أن ينقطع التيار الكهربائي.

إذا كنت أكاديميا تعمل في غزة وتلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر علمي فلن تستطيع المشاركة إلا إذا وجهت الدعوة لك قبل مدة طويلة لكي تستطيع أن تسجل للسفر عبر معبر إيريز أو معبر رفح والحصول على التصاريح اللازمة وإلا لن تستطيع المشاركة،

في غزة لا تستطيع أن تعرف متى سوف تسافر للعلاج لأن لا أحد يستطيع أن يخبرك بموعد محدد، قلق الانتظار هو المسيطر على الموقف بما يحمله من ضغوطات نفسية وتوتر وقلق خاصة عندما تكون من ذوي الأمراض الحرجة مثل السرطان، أو تحتاج للعلاج في الضفة الغربية أو القدس أو مستشفيات إسرائيل، لا تحتاج لموافقة المستشفى أو التغطية المالية فقط بل تحتاج لموافقة أمنية من قبل الأمن الإسرائيلي،

إذا كنت تملك إقامة في أي دولة أخرى أنت مجبر للتوقيع على تعهد بعدم العودة قبل عام كامل أو 6 شهور إذا أردت استخدام معبر إيريز للسفر،

في غزة لا تعرف لماذا لا يستطيع دكتور الأسنان توفير الحشوات الجيدة للأسنان، يكتفي بالقول "استخدام مزدوج" تدفع ثمنه من ألمك، لا تستطيع أن تفهم لماذا هناك قائمة طويلة من الأشياء الممنوعة لأنها مزدوجة الاستخدام.

في غزة ليس سهلا عليك أن تعمل في مجال الصحة النفسية، السكان في غزة هم في صدمة دائمة منذ سنوات طويلة تسبق الحصار وازدادت الضغوط النفسية خلال فترة الحصار، أنت لا تتعامل مع كرب ما بعد الصدمة، هو كرب الصدمات المستمرة، الضغوطات النفسية والاكتئاب الناتج عن البطالة والعنف والانتظار وعدم اليقين، تدرك في كثير من الأوقات أن التقنيات والاستراتيجيات التي تستخدمها لا تستطيع أن تصمد لمدة طويلة، فالحصار وآثاره تفقد التدخلات النفسية جدواها.

بعد 15 عاما من الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة وأكثر من 4 حروب مدمرة، تستطيع أن تدرك معنى انسداد طريق التاريخ، ستعرف كيف أثر هذا الحصار على تدني مستوى الخدمات الطبية والنفسية والتقنية، حيث هجرة الكثير من الكوادر الطبية والعلمية والفنية والثقافية بسبب عدم قدرتهم على الاستمرار في لعبة الروليت القاتلة، لا يستطيع أن يحتمل الاستمرار في لعبة الحظ والنجاة من الحروب المتكررة والقصف العشوائي والتسجيل للسفر وعدم التمكن من معرفة متى سيأتي الجواب على أي شيء، لا تستطيع أن تجيب على سؤال متى موعد السفر، لا تشتري تذكرة الطيران إلا قبل ساعات معدودة من السفر حين يتم إبلاغك بأنه تمت الموافقة على سفرك "حصلت على الموافقة الأمنية".

بعد 15 عاما من الحصار لا يبدو أن إسرائيل تفكر في التراجع عن حصار قطاع غزة، ولا يبدو أن لديها الرغبة في تغيير سياسة العزل والفصل والتمييز ضد الفلسطيني، ولكن أيضا لا يبدو أن إسرائيل تستطيع تحمل فاتورة الأعباء الأخلاقية والقيمية التي تترتب على استمرار الاحتلال وسياسة التمييز العنصري الذي تمارسها ضد الفلسطيني، ولكن لنتذكر جميعا: أن إرادة الحياة والبقاء غالبا ما تنتصر على القتل والتدمير.


تصوير: عبد زقوت، قطاع غزة، يوم 15 تشرين ثاني \ نوفمبر 2019."

نشر في منصتا يوم 1 حزيران 2022.

د. إياد حسين الكرنز

استشاري نفسي لضحايا الصدمات والاكتئاب، يحمل اللقب الثالث في علم النفس بتخصص الآثار النفسية للعنف ويعمل في "مؤسسة نجوم الأمل لتمكين النساء ذوات الإعاقة"

شاركونا رأيكن.م