حكاية النقب وبداوة العصر الحديث

الكتابة عن النقب أشبه برواية ألف ليلة وليلة، في حين تحاول درج موضوع واحد أمام القارئ تجد نفسك مضطرًا لشرح واقع آخر، هكذا ببساطة قد ينبلج الصباح على شهرزاد النقب وشهريار الحكم ردحًا من الزمن لتكتشف أن النقب لا يستطيع أن يروي حكاية واحدة، بل روايات كبيرة، فيها الأمل والحزن، والنكبة، والتهجير والطرد ومعارك نسيت وتاريخ كتبه المنتصر، روايات فيها شموخ الماضي وفيها تعقيدات الحاضر الذي يكفيك أن ترى التعقيد في زمن بُنيت فيه البداوة على البساطة.

أصل الحكاية قديم، ولكن جوهر الرواية هو أننا مجتمع في مرحلة قسريةٍ وربما طوعية للبعض نمر في مرحلة هجر البداوة التقليدية، لبداوة العصر الحديث، ففي النقب تعيش اليوم في الغالب أربعة أجيال وربما خمسة في بعض الأحيان، قلة من أولئك الذين شاهدوا الحرب العالمية الأولى بقيت، وقلة ممن عاصرت أحداث النكبة، والجيل الغالب هو الذي ولد بعد ثمانينات القرن الماضي، هذا الجيل الذي يصارع بين بداوة المدينة ومدنية البداوة.

هذا الصراع الذي نقل القبيلة من عزها إلى واقع جديد، حين كان الفرد يذوب في الجماعة، أصبح عنوانها الجديد الجماعة تبحث عن الفرد، والفرد له شخصيته وكيانه، الفرد الذي كانت القبيلة هي المأوى بدأ يتخلى عنها بنهج روح الحضارة الغربية والمدنية الحديثة تاركاً خلفه التراث والتقاليد بحب أو إكراه لم يدر أن نمط المدنية الجديد يحتم عليه العيش في منظومة قيم غريبة عنه، قد تبدو مألوفة للمدني الذي لا يعرف جاره، ولكن هنا في النقب أنت تعرف المدينة، والمدينة تعرفك، لا تترك لك فرصة للنجاة والاختباء بعيدًا، في مدنية القرن الواحد والعشرين يعيش المجتمع العربي النقباوي حالة التخبط بين القديم الأصيل الجمعي، وبين الحديث الفردي.

فصراع النقب الداخلي في نظري هو الأقوى لأن الوعي لقضايا الخارج أسهل، فعندما نجادل عن قضايا الأرض والهجرة القسرية نستطيع شرح حالنا بسرد تاريخي، عندما نوجه سهام أقلامنا وعصارة فكرنا نحو الحاكم ومنظومة السيطرة نستطيع شرحها والبكاء بحرقة عليها، لكن تجربة السنين علمتنا أن الصراعات الداخلية هي التيارات الأقوى، وهي التي تغير مسار حياة العرب في النقب، فصراعات الحكم المحلي، أعادت إلى الواجهة نظام القبيلة المستحدثة، بل ونظام المحاصصة مع شركاء اليوم وخصم الغد في المعارك الانتخابية، كتبت دون قانون خطوط شفافة لنظام داخلي

ما تحتاجه لتصبح مسؤولًا، ففي حين لا تكفي الألقاب والتجربة العلمية والكفاءة، أنت بحاجة أكبر للعشيرة الذين كلما ازداد عددهم كبر تأثيرهم السياسي، بدأ ينخر في عظام المجتمع العربي مرض التعيينات العائلية بغض النظر عن الكفاءة، فقد كان البدوي يرضى لابنته زوجًا من قبيلته في ذلٍ على عز الغريب، كان يقول (تحت أرجل الأقارب ولا قصر الغريب) فأصبحت منظومة القيم المستحدثة تقبله للتوظيف، ففي الغالب، مدير المدرسة والحارس والمعلم ونائب المدير وعامل التنظيف وبائع السندويشات جميعهم من نفس العشيرة والقبيلة، فماذا ننتظر عندما نتشدق بالكفاءة ولكن نضرب بها عرض الحائط، ففي النهاية يصبح سيد الموقف الذي ضاع عليه كل شيء هو المستقبل الذي يضيع بين يدينا، ويبكي المسؤول والشيخ والأم على ضياع الأبناء ويتهمون المؤسسة الخارجية ويخشون مواجهة أنفسهم، لا لشيء سوى أن القاعدة هي عدم كسر النموذج، الصراعات الداخلية لا نحركها لأنها قد تحرق الأخضر واليابس.

فقضايا النقب الحارقة هي صراعاته الداخلية، هي منظومة التنفذ والسيطرة على الموارد والحكم، وقد يعود ذلك لعدم الثقة أن فرد واحد قد يخدم الجميع، فيما يبقى التزامه في الأساس نحو القبيلة والعشيرة.

التحدي القادم نحو النقب هو المستقبل الغامض، فالسلطة أخر همومها النقب وما نراه من عمل دؤوب ليس محبة في النقب ولكنه حساب المستقبل الذي تحاول السيطرة عليه،حتى يبقى في حدود قدرتها على تحريكه كما تريد هي لا كما يريد أهل النقب، ما زال طرح الحلول لدى السلطة تقليديًا ومتراجعًا يذكرنا بأوسلو السلطة الفلسطينية، كل اتفاقية جديدة هي أسوأ من سابقتها، هكذا يدخل النقب في مرحلة الخوف من المستقبل المجهول، فنحو ٣٠٠ ألف عربي في النقب لا يملكون مقدراتهم في التخطيط لأنفسهم، لا يستطيعون طرح أفكار سوى تلك التقليدية، وينظرون إلى الغد بعين الخوف، فما زال النقب في قاع السلم الاقتصادي والسياسي.

قد يبدو للزائر أن النقب مترامي الأطراف هادئًا، سوى أنه فوهة بركان لا ندري متى ينفجر وعلام ينفجر، فكل قضايا المجتمع العربي موجودة هنا، الأرض، المسكن، الفقر، ضياع الفرص وعدم الإنصاف، العنف المستشري، وصراع السلطة، العائلية والقبلية كلها هنا تصعد على السطح واحدة تلو الأخرى في تزامن مرهون بغليان الحالة.

في النقب يعيش الخير داخل كل هذه المعطيات، فالبداوة التي في طياتها إغاثة الملهوف تتجلى في أروع صورها عند الحاجة، ونصرة الضعفاء والمحتاجين جعلت منه عنوانًا، في النقب التنافس يأخذ منحىً إيجابيًا في تعداد الأطباء المتخرجين كل عام، التنافس بدأ يتدرج نحو عالم الهايتك، النقب يملك مقدرات جميلة ورائعة سوى أنه في مرحلة انتقالية، إن أسرع بمواجهة ما بداخله سيستطيع حتمًا الوقوف على مستقبله بوضوح وجرأة أكبر.

تصوير: وليد العبره.

يوسف أبو جعفر

مدير عام مؤسسة "نجوم الصحراء" وأمين صندوق مجلس حوره المحلي ورئيس رابطة مياه رهط وأمين صندوق عنقود النقب الشرقي ومحاسب لجنة التخطيط والبناء الشرقي ومحاسب عام بلدية رهط وكاتب وناشط اجتماعي وخطيب جمعة في مساجد رهط. حاصل على لقب أول في الإدارة العامة والقانون من كلية "سبير " وماجستير في العلوم السياسية والإدارية من جامعة "هارفارد" الأمريكية وماجستير في الإدارة العامة من كلية "سبير"

شاركونا رأيكن.م