الاحتلال الأخضر.. سلاح التشجير في مواجهة أصحاب الأرض

ذهنية الاستعمار الاستيطاني وتضييق الخناق على عرب بئر السبع يأتي استمرارا لنهج الحكم العسكري القائم منذ خمسينيات القرن المنصرم، وهي سياسة ثابتة في عقلية المؤسسات الإسرائيلية وإن تغيرت تركيبة التحالفات الحكومية، على خطى حلم العجوز (دافيد بن جوريون) ""إعمار النقب"" أي حصار وتركيز أكبر عدد ممكن من عرب بئر السبع على أقل رقعة ممكنة من الأرض. والخلاصة هي تهويد النقب.

تبدلت الأدوات والآليات واختلفت المسميات والمخططات، سلطات تقلع وأخرى تقمع، باءت جميعها بالفشل إذ لم ولن تفلح في قطع صلة الرحم بين العربي وأرضه في ديار بئر السبع/ النقب، للاستيلاء على الأرض الفلسطينية ومحو التاريخ العربي البدوي الفلسطيني للنقب.

وفي الآونة الأخيرة، طورت الحكومة الإسرائيلية أدوات وآليات جديدة ضمن السياسات العدائية تجاه عرب بئر السبع، التي ترى في المجتمع العربي في النقب تهديدا للدولة، حيث كان أبرزها تحويل نضاله في الحفاظ على الأرض والمسكن إلى قضية أمنية، وتشويه صورته وتصويره مجتمعا عنيفا لا يحترم القانون، بغية تسهيل وتشريع استعمال أدوات القمع والاقتلاع، وتبرير استخدام العنف المفرط والأساليب الاستعمارية التي تنهب الأراضي ضمن حملة التحريض المستمرة على سكان النقب، تحت مسمى إعادة هيبة القانون وفرض الحكم على المواطنين العرب في النقب.

نتيجة تطبيق هذه الأدوات والتحريض ضد عرب النقب وتصويرهم بأنهم غزاة لأراضي الدولة، حث الحكومة الإسرائيلية على اللجوء إلى سياسة التشجير ""لحماية أراضي الدولة""، التشجير الذي تحول من غرس الأشجار وزراعة الغابات إلى حملة عسكرية في عدة نقاط داخل النقب ضد أصحاب الحق، وسلاح سري في أيدي أذرع الحكومة الإسرائيلية وأجهزة الأمن والمخابرات.

مخطط تشجير النقب؛ اقتلاع وتهجير، حصار القرى ومصادرة عشرات آلاف الدونمات

يمتلك ""الصندوق القومي اليهودي"" نحو 2.6 مليون دونم، وتبلغ نسبة الأراضي العامة في إسرائيل 93% من أصل نحو 22 مليون دونم، حيث يعود جزء كبير منها إلى أملاك فلسطينية لبلدات هجرت أو هدمت وأراض صودرت من العرب استنادا إلى مجموعة كبيرة من قوانين المصادرة.

ما يحدث في النقب مؤخرا يعكس محاولة الحكومة الإسرائيلية حسم ملف الأراضي في النقب والاستيلاء عليها وفرض السيطرة على أكبر مساحة أراض ممكنة تعود ملكيتها إلى عرب النقب. وذلك ضمن مخطط عسكري من مجموعة مخططات ممنهجة للاستيلاء على أراضي النقب، حيث تعمل 'دائرة أراضي إسرائيل' بالتعاون مع ""الكيرن كييمت"" (الصندوق القومي اليهودي) على تحريش أراضي النقب رغم أن هذه الأراضي تخضع لإجراءات تسجيل الملكية ومسألة ملكيتها لم تحسم بعد، والتي قد أطلق عليها اسم 'أراضي تسوية'. وهذا معناه أن عملية تحريش أراضي النقب (التسوية) عبارة عن فرض حقائق على أرض الواقع؛ حرمان الأهالي من حقهم بالتملك ومصادرة الأرض من أصحابها وتحويلها إلى ""الكيرن كييمت"". الأمر الذي ينافي قانون تسوية الأراضي وقانون الغابات. وذلك بالتعاون مع الأذرع الأمنية الإسرائيلية وتحت حماية الوحدات الخاصة التابعة لوحدة ""يوآب"" وممثلي ما يسمى ""دائرة أراضي إسرائيل"".

إذ تقوم قوات كبيرة من الشرطة والوحدات الخاصة على فرض حصار على منطقة التجريف والتحريش، من خلال نصب حواجز شرطية وقمع جميع أنواع مظاهر الاحتجاج بما في ذلك استخدام وحدات المستعربين في تنفيذ الاعتقالات، وهو استخدام عنصري يندرج في مجال التصنيف العرقي.

بالإضافة إلى استخدام شتى الوسائل من قنابل صوتية ورصاص مطاطي والغاز المسيل للدموع المحرم دوليا بواسطة طائرة مسيرة. هذه الصورة ليست سوى جزء بسيط من مجمل القمع الشرطي العنيف الذي تمارسه قوات الشرطة الإسرائيلية المسلحة، بذريعة اتاحة تجريف وتحريش أراضي النقب من قبل ""الكيرن كييمت ""، بشكل أشبه بالحملات العسكريّة الذي يجسد الأساليب الاستعمارية التي تنتهجها السلطات الإسرائيلية.

خريطة تظهر جزء من المناطق المقترحة للتحريش في النقب تحت غطاء "حماية أراضي الدولة" من قبل "لجنة سكوب". (جمعية حماية الطبيعة في إسرائيل 2020)

خريطة تظهر جزء من المناطق المقترحة للتحريش في النقب تحت غطاء ""حماية أراضي الدولة"" من قبل ""لجنة سكوب"". (جمعية حماية الطبيعة في إسرائيل 2020)

سياسة التشجير تحت غطاء ""حماية أراضي الدولة"" ليست حديثة ولا هي صنيعة الحكومات الأخيرة، وإنما هي سياسة ثابتة في عقلية الحاكم العسكري، وهو سلاح تم تطويره مؤخرا نتيجة التماس جمعية حماية الطبيعة في إسرائيل عام 2015 (15/8391) حيث أقامت المؤسسة الإسرائيلية لجنة خاصة أطلقت عليها ""لجنة سكوب"" أسندت إليها ""حماية أراضي إسرائيل"" من الغزاة في حالات عينية طارئة فقط، حيث يكمن تهديد فوري للاستيلاء على أراضي الدولة. والغزاة هم أصحاب الحق، مواطنون غير مرئيين في نظر الحاكم العسكري. وفي الواقع ""لجنة سكوب"" عبارة عن لجنة ديكتاتورية يرأسها ممثل عن ""دائرة أراضي إسرائيل""، بالإضافة إلى ستة أعضاء: ممثل عن سلطة الطبيعة والحدائق في إسرائيل، ممثل عن سلطة التخطيط، ممثل عن وزارة الزراعة، ممثل عن وزارة حماية البيئة، مراقب عن ""الكيرن كييمت"" ومراقب عن المستشار القانوني للحكومة. إذ تعقد هذه اللجنة جميع جلساتها بسرية تامة ثم تقوم على تقديم توصياتها ومخططاتها لتحريش الأراضي هنا في النقب وفي فلسطين التاريخية إلى المؤسسة الإسرائيلية بما في ذلك ""دائرة أراضي إسرائيل"" دون المصادقة على المخططات من قبل اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء، ودون أي تهديد يذكر من ""الغزاة"" للاستيلاء على أراضي الدولة. وعليه، هذه اللجنة تستغل صلاحيتها بصورة غير قانونية تحت غطاء بند ""الغزاة"" لتبييض الأراضي، أي أن البدو غزاة وبالتالي توصي على غرس الأشجار كي تقتلع البشر. ومن خلال هذا كله تحاول أن تدفع أصحاب الأراضي اللجوء إلى المحاكم لتسوية الملكية من خلال فرض حل أحادي الجانب.

وكما قال لي شيخ سبعيني قبل عدة أيام، حيث تعزم ""دائرة أراضي إسرائيل"" الاستيلاء على قطعة أرض ورثها عن والده ووالده عن جده، تبلغ مساحتها 1200 دونم، كي تبتلعها غابة جديدة على يد ""الكيرن كييمت"": ""عنصرية، ما ودهم إياك هني.."". نحن ملح هذه الأرض، هم الغزاة وإنا هنا باقون نزرع القمح والأمل.

تصوير: وليد العبره.

المحامي مروان أبو فريح

محامي ومركّز فرع مركز "عدالة" الحقوقي في النقب

شاركونا رأيكن.م