توظيف خطاب الاستعمار الاستيطاني والأصلانية
يشهد العقد الاخير نشاطاً أكاديمياً وثقافياً فلسطينياً لافتاً، يتمحور حول فكرة التحرر من الاستعمار الصهيوني. ويتصدر هذا النشاط أكاديميون نقديون، من الجيل المخضرم، وجيلٌ جديد من الباحثين والمثقفين النقديين، في إطار التصدي لما أنتجه أوسلو من ردة في الخطاب السياسي، والاخلاقي. أعاد هذا النشاط الحياة ألى إطار التحليل الاستعماري الاستيطاني، وكذلك إلى نموذج الشعوب الاصلانية. إن خلفية ودوافع هذه العودة والإحياء، تعود إلى تطورين؛ الاول فرض الهيمنة الصهيونية الكاملة على كل فلسطين وما يترتب عن ذلك من جرائم وفظائع بحق الفلسطينيين، السكان الاصليين، ومأسسة ذلك إدارياً وقانونياً، وايدلوجياً. الثاني؛ الانحلال الذي اصاب الحركة الوطنية الفلسطينية بحلتها التقليدية. وساعد في ظهور هذا النشاط، ظهور تيار نقدي داخل الأكاديمية الغربية، يتبنى إطار التحليل الكولونيالي ونظرية الشعوب الاصلية، خاصة بعد أن شهد العقدان الماضيين، نهضة الشعوب الاصلية في دول إستعمارية استيطانية قديمة، مثل القارة الامريكية، بشقيها الشمالي والجنوبي-اللاتيني، واستراليا وكندا، ونيولندا وغيرها.
بالنسبة للفلسطيني إنه لأمر مفروغ منه أنه إبن هذا البلد، وأنه جزء من الشعب الأصلي الذي عاش في فلسطين منذ القدم. ولم يكن ليحتاج لتنظير أو تبرير وجوده على أرضه. ولكنه وجد نفسه منذ عقود طويلة، في مواجهة قوة خارجية وافدة تسعى إلى تجريده مما هو بديهي. فكما كل شعب أصلي واجه قوة غازية من هذا القبيل، عاد شعب فلسطين الى التاريخ والثقافة، ليعيد إنتاج روايته وسرد مسيرة حياته الجماعية على مرّ التاريخ، وليطلق فعله الثوري دفاعا عن ذاته، واستقلاله. واشتبك نضاله التحرري، خاصة في حقبة حركات التحرر الوطني، في الستينات والسبعينات، مع نضال الشعوب الاصلانية في أسيا وافريقيا، وأمريكا اللاتينية، من أجل التحرر والسيادة، وحق تقرير المصير.
لم يَبْتلِ شعبُ فلسطين باستعمار كلاسيكي همه استغلال موارد البلاد وعمالها وفلا حيها، كالاستعمار البريطاني، فحسب، بل تعرض، ولا زال، لواحدٍ من أشدّ أنواع الاستعمار فتكاً، ووحشيةً؛ إنه الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، المسنود بقوة استعمارية خارجية، منحته ارضاً ليس له.
تختلف الحالة الكولونيالية، او الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين في بعض الجوانب عن انواع استعمار عالمية أخرى، ومنها ادعاءاتها الدينية- التوراتية الخرافية. وإذا كانت الحالات الاستعمارية الاخرى قد تطورت، وتبلورت تصوراتها النظرية في مجرى الغزو وعملية السيطرة والمواجهات مع السكان المحليين، فإن الصهيونية جاءت من الخارج بعد أن بلورت تصوراتها النظرية الأيدلوجية والاخلاقية، أي جاءت ببرنامج معد مسبقا، يقوم على ايدلوجيا التطهير العرقي والابادة. فمنذ البداية، أي أواخر القرن التاسع عشر، حدد قادة المشروع الصهيوني، الذي هو أوروبيّ المنشأ، هدفهم بوضوح؛ إقامة دولة يهودية في فلسطين، حيث يعيش شعب أصيل، ما معناه محو أصلانية الشعب الفلسطيني، واعتبار اليهود، يهود الخارج، أحفاد يهود فلسطين، الذين "" تم تشريدهم على يد الامبراطورية الرومانية عام ٧٠ م"". وبكلمات اخرى تحويل يهود الدول الاوروبية، الى سكان أصلانيين في فلسطين، مكان السكان الاصليين الحقيقين، وتحويل بلد عربي الى بلد يهودي- صهيوني.
لم يخف قادة الصهيونية الاوربيين، عنصريتهم، واحتقارهم للشعب الفلسطيني، وإن أدبياتهم تزخر بالشواهد على ذلك، وقبل أن يترجموا ذلك عمليا على أرض فلسطين. ولأن الاستعمار الاوروبي الاستيطاني وغير الاستيطاني، كان في ذلك الزمان جزءًا طبيعياً من ممارسات الدول والامبراطوريات، لم يخجل الصهاينة من اعتبار مشروعهم جزءاً من ظاهرة الاستعمار الاوروبي، بل والسعي الى التحالف معه، مع كل ما ينطوي ذلك من ممارسة غير أخلاقية.
وككل أنواع الاستعمار الاستيطاني، نفذت الصهيونية، أساليب مشابهه؛ غزو، واحتلال وطرد، واحلال، والتي تتوجت بطرد نصف الشعب الفلسطيني، وإقامة اسرائيل على ٧٨٪ من فلسطين، ومن ثم لاحقا، عام ١٩٦٧، على كل فلسطين، وصولا إلى الفصل العنصري، الذي تولد عن المشروع الكولونيالي الاستعماري.
وارتبط، أصلا، فهم الفلسطينيين للحركة الصهيونية، باعتبارها حركة استعمارية استيطانية، بالنضال الفلسطيني، على أنه نضال تحرري لشعب أصلي، ضد حركة كولونيالية إحلالية خارجية. وانعكس ذلك في خطاب حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وفي أدبيات الباحثين الفلسطينيين.
غير أن ذلك الخطاب المناهض للكولونيالية، خفت من الخطاب السياسي الرسمي، بل واختفى من خطاب غالبية النخب الفلسطينية، بعد اتفاقية أوسلو، وتغير بصورة جذرية، ليصبح الصراع الكولونيالي، ذو الطابع الوجودي، نزاعاً بين حركتين قوميتين، متساويتين في الحق. وتبين لاحقاً حجم الضرر السياسي والثقافي والاخلاقي الذي لحق بحركة التحرر الفلسطيني وبالنضال الفلسطيني، حيث واصل المشروع الصهيوني توسعه وإحكام هيمنته الكاملة، عبر منظومة متعددة أنظمة السيطرة والتحكم والقهر، بحق الشعب الفلسطيني. وتمكن الكيان الاسرائيلي بفضل استسلام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي وقعت على تطبيع العلاقة مع الصهيونية، ولأسباب أخرى، تمكن من مدّ علاقاته التطبيعية مع المزيد من الانظمة العربية، بل التحالف الامني معها، والأخطر من ذلك ظهور اصوات ووسائل إعلامية مقربة من تلك الانظمة، تُبرر شرعية الوجود الصهيوني في فلسطين، وبالتالي شرعية الرواية الصهيونية الاستعمارية.
ورداً على كل ذلك، عاد الخطاب الكولونيالي للظهور، على يد نخبة من الأكاديميين المخضرمين، وجيل جديد الباحثين الشباب، ومعه خطابا الابرتهايد والشعوب الاصلانية، في إطار جهد نظري وثقافي، خاصة بعد انحسار وتحلل الحقل السياسي، خطاب يهدف إلى تفكيك الخطاب الصهيوني، وإسرائيل كحالة استعمارية استيطانية، احلالية، انتجت نظام ابارتهايد كالذي تهاوى في جنوب افريقيا بفضل المقاومة الشعبية الداخلية والمقاومة المدنية الخارجية التي تمثلت بالمقاطعة التي دفعت المجتمع الدولي لحسم قراره وسحب الاعتراف من هذا النظام.
أما خطاب الشعوب الاصلانية الذي أسند قانونياٍ في قرار الامم المتحدة الصادر في ٩ آب عام ٢٠٠٧، فقد أكمل ما كان ناقصا في الخطاب الكولونيالي، وهما في المجمل خطاب واحد. ذلك أن بعض الباحثين يرون أن اهمية خطاب الاصلانية، يسبق الخطاب الكولونيالي، لأنه يصف حياة وثقافة الشعوب قبل الغزو وقبل تمكن الغزاة من تحقيق اهدافهم. ويرى هؤلاء أن استخدام خطاب الاصلانية في الحالة الفلسطينية أكثر تعقيدا، مشيرين الى بعض الاطر الناشطة في مجال المرافعة الدولية، التي وظفت الخطاب في الدفاع عن التجمعات البدوية، في النقب والضفة، بشكل منفصل ومستقل عن بقية الشعب الفلسطيني. ويقولون أنه يجب النظر الى المجتمعات الفلسطينية البدوية، كجزء من المجتمع الفلسطيني ككل وأن نضالها هو جزء من النضال الفلسطيني العام.
لا يتسع المقام للخوض في هذا النقاش، وقد تناوله، ويتناوله خبراء بالنقد والتحليل، ولكن ما نود الإشارة له هو أن عودة وتجديد الخطاب الكولونيالي، والشعوب الاصلانية، هو في غاية الاهمية، في إطار المجهود الثقافي والانتاج المعرفي، التحرري، ولكن يبقى التحدي في كيفية تعميمه على جمهور المعنيين والمنخرطين في العمل النضالي والسياسي، او جمهور النشطاء. إن غالبية القيادات الفصائلية في الارض المحتلة عام ١٩٦٧، والحزبية داخل الخط الاخضر، بل حتى غالبية النشطاء الحزبيين، غير مواكبة لهذه التطورات الفكرية والثقافية، في مقاربة إسرائيل، وقد جاءت تطورات عاصفة أخرى، مثل هبة الوحدة والكرامة، هبة فلسطين من البحر الى النهر، أيار عام ٢٠٢١، وصدور تقارير دولية تباعا في السنوات الاخيرة، تعيد تعريف إسرائيل كنظام ابرتهايد، حرك المياه الراكدة، وفتح افقا جديدا.
نقول ذلك لأن التحدي الاكبر هو كيف ننجح في توظيف الخطاب الجديد لصالح النضال الفلسطيني، ومن هو مؤهل لتحويل هذا الخطاب، أي إعادة تأطير الصراع، وإعادة تعريف اسرائيل، وللقضية الفلسطينية، الى رؤية وطنية ديمقراطية جامعة عابرة للتجزئة الاستعمارية، تُتوج ببناء جبهة وطنية تحررية ديمقراطية، لخوض النضال، الطويل، من أجل تحقيق التحرر والعدالة والمساواة في فلسطين على أنقاض نظام الابرتهايد، الاستعماري الاستيطاني.
*المقالات المنشورة تعبّر عن آراء كاتبيها.
عوض عبد الفتاح
كاتب - صحافي والأمين العام السابق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي وأحد مؤسسي حملة "الدولة الديمقراطية الواحدة"