تاريخ الجولان منذ الاحتلال حتى اليوم

نتائج هزيمة حزيران 1967 على سكان الجولان

مقدمة

تقع مرتفعات الجولان في جنوب غرب سوريا وتبلغ مساحتها 1860 كم2 وتتبع إدارياً لمحافظة القنيطرة. تمتد هذه المرتفعات من الشواطئ الشرقية لبحيرة طبريا، أي من 299 متراً تحت سطح البحر، لتصل إلى 2,814 متراُ عند جبل الشيخ ولذلك تتعدد المناخات في الجولان فيزرع النخيل عند بحيرة طبريا والكرز والتفاح في المناطق المرتفعة. وتعد منطقة الجولان منطقة غنية بالمياه فهي تغذي بروافدها بحيرة طبريا بكميات كبيرة من المياه سنوياَ.

إبان حرب حزيران 1967 وبعد الهزيمة النكراء التي مني بها الجانب العربي احتلت إسرائيل 1,150 كم2 من مساحة الجولان (أعيد 50 كم2 بعد حرب تشرين 1973) وهدمت حوالي 223 قرية ومدينة ورحلت ما يقارب 130 ألف مواطن سوري من الجولان وحولتهم الى لاجئين في ضواحي دمشق ومدن أخرى في سوريا، (وفقا للمصادر الاسرائيلية التي وردت على لسان يغال كيبنس في كتابه الخارطة الاستيطانية في الجولان عشية حرب الايام الستة كاتدره 116 تموز 2005 ص 123). وكان لبلاغ (66) الصادر عن وزارة الدفاع السورية الذي أعلن سقوط القنيطرة قبل دخول الجيش الإسرائيلي اليها اشد الأثر عل معنويات الجيش السوري الذي انسحب كيفياً من الجولان وكذلك على المدنيين الذين تُركوا ليواجهوا مصيرهم منفردين. 

بعد الحرب بقيت في الجولان خمس قرى فقط في شمالي شرق الجولان هي مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنيا وسحيتا وكلها تنتمي للطائفة العربية الدرزية إضافة الى قرية سادسة هي قرية الغجر التي تتبع للطائفة العلوية وتقع على الحدود السورية اللبنانية الفلسطينية. لاحقاً تم ترحيل قرية سحيتا الدرزية إلى قرية مسعدة القريبة منها وتم هدمها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا أُبقي فقط على قرى الدروز وقرية علوية واحدة؟

الترحيل

قام الجيش الإسرائيلي خلال عدوان حزيران 1967 وبشكل ممنهج ببث الذعر بين السكان المحليين من خلال اقتحام القرى وقتل المدنيين وتهديم البيوت ليجبرهم على الرحيل من أجل إفراغ الأرض من سكانها. وبالمقابل يتحمل الجانب السوري مسؤولية كبرى عن الكارثة التي حصلت للسوريين في الجولان. فقد أدخل أولاً الرعب إلى قلوب السوريين من "الإسرائيلي"، عبر ثقافة وهمية كان يبثها بين السوريين، حيث كان يخترع من خلالها الأساطير عن اليهود، ظنًا منه أنه ينال منهم، أي من اليهود، وكانت النتيجة أنه أدخل الرعب إلى نفس المواطن السوري البسيط وجعله يتصرف بخوف وذعر.

ثانياً، كان لإعلان سقوط القنيطرة، قبل وصول الجيش الإسرائيلي إليها، الأثر الأكبر على معنويات السوريين في الجولان. فقد أعلن سقوط القنيطرة عبر راديو دمشق في الساعة 8:46 وحمل هذا البلاغ رقم 66 الصادر عن وزير الدفاع السوري آنذاك حافظ الأسد، في حين لم يدخلها الجيش الإسرائيلي إلا بعد أكثر من خمس ساعات من موعد صدور البيان.

ثالثاً، الانسحاب الكيفي والمخزي من الجولان والفوضى التي أحدثها، دون وجود أية توجيهات للمدنيين من القيادة السورية، ما أدى إلى إحداث بلبلة كبيرة ساهمت في إجبار قسم من السكان على ترك منازلهم قبل وصول الجيش الإسرائيلي إليها. وأوضح ما يدل على هذه الفوضى هو هروب آمر الجبهة في الجولان، العقيد أحمد المير، إلى دمشق، بعد أن خلع زيه العسكري وهو يركب حماراَ.

من هنا نستطيع القول إن الجانب السوري يتحمل مسؤولية كبرى عما حدث في الجولان. فطبيعي أن تسعى إسرائيل لتهجير السكان السوريين من الجولان ليتسنى لها تنفيذ مخططاتها ولكن، ليس من الطبيعي أداء النظام السوري آنذاك. فقد سهل المهمة على إسرائيل بشكل كبير وجعلها تدعي بأنّ ليس لها يداً فيما حصل. فلو امتلك السوريون إرادة البقاء، حتى لو كانت مكلفة، كما كانت عند الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية الذين رفضوا ترك أراضيهم وتعلموا من تجربة حرب 1948، ولو ساهم النظام السياسي السوري بتشجيعهم على البقاء، أو حتى محاولة إعادتهم بعد خروجهم في الأيام الأولى بعد الاحتلال، حتى لو كان ذلك صعباَ، لأن إسرائيل طبعاَ لن ترضخ بسهولة، لكانت الأمور مختلفة تماماً اليوم. لنا عبرة فيما حدث في الخامس من حزيران 2011، عندما استطاع شبان فلسطينيون وسوريون الوصول إلى قلب مجدل شمس، غير آبهين بحقول الألغام الموجودة على جانبي خط وقف إطلاق النار. 

أما فيما يتعلق بقرى الدروز، فهنالك أسباب عديدة يمكن ذكرها لبقائهم في أرضهم وقراهم:

  1.  تجربة سكان هذه القرى إبان الثورة السورية الكبرى عام  1925 عندما أقدمت فرنسا على حرق قرية مجدل شمس وتهجير سكانها، حيث تحولوا إلى لاجئين حتى نهاية الثورة وذاقوا الأمرين. هذه التجربة ما زالت حاضرة في ذاكرتهم تتناقلها الأجيال، لذلك امتلكوا إرادة البقاء، خصوصاَ أن أعيانهم وقفوا في وجه كل من حاول ترك بيته، مذكرين الناس بأحداث العام 1925.

  2. مما لا شك فيه أن علاقة دروز الجليل والكرمل بدولة إسرائيل ساهمت أيضا ببقاء هذه القرى وبعدم ترحيل سكانها. فقد وصلت وفود من دروز الجليل والكرمل، بإيحاء من إسرائيل، لتطمين أهالي هذه القرى بأن إسرائيل لا تنوي أن تمسهم بسوء إذا رفعوا الأعلام البيضاء وتعاملوا بعقلانية مع الواقع الجديد. وكانت القيادة الإسرائيلية تعرف أن بقاء قرى الدروز سيؤدي لاتهامهم بالعمالة مع إسرائيل وهذا سيسهل عليها إقناع الدروز بمخططاتها القادمة والمعدّة سلفاً.

  3.  كانت أحداث الحرب الرئيسية بعيدة عن هذه القرى، ولذلك لم تتضرر بشكل مباشر من الأعمال الحربية.

  4. طبيعة هذه القرى الزراعية، حيث اعتمد غالبية سكانها على زراعة الأشجار المثمرة     وخصوصا التفاح، فشكل هذا رابطاً قوياً جعلهم يتمسكون بأملاكهم ولا يغادرون قراهم. 

على أساس ما ورد، نستطيع الادعاء بأن بقاء السكان السوريين في الجولان كان ممكناً لو توفرت الإرادة والإصرار على البقاء، ولو كان هناك نظام سياسي داعم يمتلك رؤية استراتيجية لآفاق صراعه مع إسرائيل. فوجود السكان على أرضهم هو الضمانة في أي صراع للمحافظة على هوية الأرض. وبالمقابل، استفادت إسرائيل من هذا الفراغ والبلبلة وقامت بهدم القرى خوفاً من صحوة سورية لإعادة السكان العرب إليها، لأن خط وقف إطلاق النار بقي مفتوحاَ لأشهر بين سورية وإسرائيل وكان من الممكن الانتقال بسهولة ويسر عبره، الأمر الذي كان سيحرجها أيما إحراج. بسبب التخلف والتعصب الطائفي المقيت وقع المحظور، فبدلاَ من دعم السوريين الذين بقوا في قراهم ومحاولة إعادة النازحين والطلب من الأمم المتحدة المساعدة في هذا الأمر، اتهم من بقوا في أرضهم بالتعامل مع إسرائيل، كما توقع الإسرائيليون، دون أن يفهموا ما كانت ترمي إليه الدولة الصهيونية وما بيتت لهؤلاء السكان، واستخدمها النظام كذريعة لامتصاص النقمة الشعبية على الهزيمة؛ لذلك ألصقتها بالدروز الذين بقوا في قراهم! 

لقد أصاب قادة إسرائيل عندما توقعوا أن السكان الذين بقوا في بيوتهم سيُتهمون بالتعاون معها، ولكنهم أخطأوا التقدير في الشق الثاني، بأن هذا الاتهام سيدفع بهؤلاء إلى أحضانهم. فقد حصل العكس تماماً وأثبت السكان الذين بقوا في بيوتهم والمتهمين بالخيانة أنهم الضمانة الوحيدة التي ثبتت عروبة الجولان وجعلت العالم يسمع أن هناك أرضًا سورية محتلة. 

الجزء الثاني: مشروع الدويلة

بعد احتلال الجولان بدأت تتكشف النوايا الإسرائيلية وبدأت محاولة تنفيذ مخططها القاضي بإقامة "دويلة للدروز" مستغلة الواقع العربي المتردي بعد الهزيمة كما فعلت في جنوب لبنان بعد عملية الليطاني عام1978، من خلال إقامة دويلة جنوب لبنان التي ترأسها سعد حداد ومن ثم بعد وفاته أنطون لحد. عندها فقط عرف الجميع لماذا أبقي على الدروز في شمال الجولان، حيث خططت إسرائيل لجعلهم رأس حربة لتنفيذ هذا المشروع الخطر والذي هدف الى تقسيم سوريا ولبنان الى دويلات طائفية متصارعة: دولة درزية، دولة علوية، دولة سنية، دولة كردية ودولة مسيحية في لبنان وذلك لكي يتسنى لها حماية حدودها الشمالية والتخلص بشكل نهائي من التهديد العربي من الشمال، حيث سينصب جل اهتمام هذه الدويلات على الصراع فيما بينها، إضافة الى أن تشكيل الدويلات الطائفية في المنطقة سيعطي المشروعية للدولة اليهودية في فلسطين. 

لقد وردت تفاصيل هذه المحاولة في مصادر عربية وإسرائيلية عديدة، من أهمها كتاب محمد خالد قطمة، قصة الدولتين المارونية والدرزية، الصادر في بيروت في عام 1985 بطبعته الثانية، كذلك كتاب غالب أبو مصلح، الدروز في ظل الاحتلال الإسرائيلي، الصادر عام 1975، كذلك كتاب صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين الدروز، الصادر عن المركز العربي للأبحاث والتوثيق عام 1994. أما بالنسبة للمصادر الإسرائيلية فهي تتجاهل كل مخطط يفشل وتتنصل منه. ولكن، هنالك ذكر لهذا الموضوع عند بعض المختصين الإسرائيليين بالشؤون السورية واللبنانية، مثل موشيه معوز وإيال زيسر، كما تطرق شمعون أفيفي أيضاً في كتابه سدر النحاس الصادر عام 2007 للمراسلات بين يغئال ألون وليفي أشكول، رئيس الوزراء إبان حرب حزيران1967 ، حول مشروع قيام كيان خاص بالدروز، على خلفية احتلال الجولان. 

تفاصيل هذا المشروع كانت كما يلي: يغئال ألون، صاحب المخطط، تردد في أواخر عام 1967مدفوعًا من أجهزة الأمن الإسرائيلية إلى الجولان، ليجري لقاءات مع قيادات المنطقة، وكان كلامهم) أي، الإسرائيليين (واضحاَ وحاسماً- إما القبول بالمخطط وإما الترحيل. فاختارت قيادة الجولان التظاهر بالقبول لكي تمنع الترحيل. لكنهم أصروا ضمناً على إفشال هذا المخطط. اختير عضو البرلمان السوري السابق كمال كنج أبو صالح لخبرته السياسية للقيام بهذه المهمة الصعبة، حيث أخذ على عاتقه إفشال هذا المخطط دون تعريض السكان للترحيل، مستغلاَ عامل الزمن. وبالفعل، استدعي إلى تل أبيب لإطلاعه على بعض تفاصيل المخطط وتظاهر بقبوله. فانتقلوا إلى المرحلة الثانية، وهي التنسيق مع قيادات الدروز في سورية ولبنان لإقناعهم بالمشروع.  

اقترح كمال كنج على الإسرائيليين اسم كمال أبو لطيف لثقته الكاملة بوطنيته، فوافق الأمن الإسرائيلي على أن يكون كمال أبو لطيف صلة وصل بين كمال كنج وقيادات الدروز في سورية ولبنان. ثم سافر كمال كنج إلى إيطاليا برفقة أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية ويدعى "يعقوب" (اسم مستعار - وعرف عن نفسه أنه عقيد في الأمن الإسرائيلي).  ومن هناك استطاع أن يستدعي كمال أبو لطيف، وهو لبناني الجنسية وضابط سابق في الجيش السوري، فاستقبله منفرداً بعد أن أقنع يعقوب بأنه سيمهد له الطريق لقبول المخطط. أخبر كمال كنج كمال أبو لطيف بالتفاصيل، التي كان قد عرفها من يعقوب، واتفقا سوية على إفشال هذا المخطط الخطير ووضع الجانب العربي في تفاصيله، ولكنهما تظاهرا أمام يعقوب بقبوله لاستكمال باقي التفاصيل حول هذه المؤامرة. وبالفعل، عاد كمال أبو لطيف بعد أن استطاعا هو وكمال كنج الحصول على تفاصيل مهمة عن المخطط، إلى لبنان، وأطلع كمال جنبلاط وشوكت شقير )رئيس أركان الجيش السوري سابقاَ) على التفاصيل. وبدوره قام كمال جنبلاط بإخبار الرئيس جمال عبد الناصر. وسافر كمال أبو لطيف إلى دمشق ليخبر عبد الكريم الجندي، رئيس شعبة المخابرات آنذاك، وعرض عليه التفاصيل التي أطلعه عليها كمال كنج والتي سمعها أيضا من يعقوب. وكان كمال كنج وكمال أبو لطيف قد اتفقا على شيفرة للمراسلة بينهما، غير الشيفرة التي كانا قد اتفقا عليها مع يعقوب، مما أتاح لهما التواصل ونقل باقي تفاصيل المخطط والتي كانت كما يلي:

تشن إسرائيل هجوماً على جنوب سورية وجنوب لبنان لتصل إلى جبال الشوف في لبنان بحجة التواجد الفلسطيني وجبل الدروز في سورية، ثم يعلن عن قيام دولة درزية تعترف بها إسرائيل وأميركا. وقد رصد لهذه الغاية مبلغ أولي مقداره 30 مليون دولار. تقوم إسرائيل لاحقا بنقل دروز الجليل والكرمل إلى الجولان الذي أخلي من سكانه. وهكذا تتخلص إسرائيل من الدروز داخل حدود الـ 48 وتسيطر على قراهم. وبالمقابل، يتشكل حزام درزي مدعوم من إسرائيل يشكل حاجزاً بينها وبين الجانب العربي. ولاحقاً يتم العمل على إقامة دولة علوية في الساحل ودولة مسيحية في لبنان ودولة سنية في الداخل السوري، إضافة إلى دولة كردية في الشمال، وهكذا تتحول سورية ولبنان إلى دويلات طائفية تتصارع فيما بينها، مما يضعف بشكل كبير التهديد العربي لإسرائيل من الجبهة الشمالية ويعطي شرعية لقيام الدولة اليهودية.

لم يكن اهتمام عبد الناصر يقلّ عن اهتمام السلطات السورية بالأمر، فأبلغ السلطات العراقية والأردنية بالمعلومات التي توفرت لديه وأخذت وسائل الإعلام العربية تتحدث عن اجتماعات مهمة تعقد لتشكيل الجبهة الشرقية ... ثم أعلن عن قيام الجبهة الشرقية من الدول العربية الثلاث: سورية، العراق والأردن، وأوكلت قيادتها لضابط مصري كبير، وعززت المواجهة في مواقع المحاور التي وردت على لسان يعقوب بقوات عسكرية من دول الجبهة.

هنا، ثارت إسرائيل وأدركت انفضاح مخططها، فتم استدعاء كمال كنج للتحقيق فأنكر ..فبدأت بمراقبته، حيث أستدعي إلى سورية أكثر من مرة، لوضعهم بباقي التفاصيل الملحة والاتفاق على خطة عمل لمواجهة هذا المخطط. وفي زيارته الأخيرة كان ينوي أن يقوم بها كمال كنج أبو صالح إلى دمشق، برفقة أحد رجال الكوماندوس السوري، الذي وصل إلى بيته سراً لمرافقته، تم تطويق مجدل شمس ثم بيته وألقي القبض عليه وعلى رجل الكوماندوس في 8 تشرين الأول 1970 وحوكم أمام محكمة عسكرية في القنيطرة وحكم عليه بالسجن لمدة 208 سنوات. أما كمال أبو لطيف فقد تم اغتياله لاحقاً في بلدته عيحا من قبل الإسرائيليين. 

الجزء الثالث: تطور الحركة الوطنية في الجولان

شكّل إفشال مخطط "الدويلة الدرزية"من جهة، وانخراط عدد كبير من شباب الجولان في العمل الوطني لمناهضة الاحتلال من جهة أخرى، اللبنة الأولى في بناء الحركة الوطنية في الجولان. فقد أجرى الكثير من الشباب اتصالات بأجهزة الأمن السورية، بمبادرات شخصية منهم وعرضوا عليها أن يتنظموا لمصلحة العمل الوطني، خصوصا أن قسماً لا يستهان به من هؤلاء الشباب كان متأثراً بالحركة الناصرية والبعثية، وكانت هناك أيضاً نواة للحزب القومي السوري الاجتماعي، حيث شكل الفكر القومي العربي، الذي حمل شعلته الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من جهة، وألم الهزيمة الذي جرح كبرياء هؤلاء الشباب بالصميم من جهة أخرى، دافعاً لهم على العطاء والانخراط في العمل الوطني.

وهكذا تنظم أكثر من 70 شاباً من مختلف القرى في الجولان في أربع شبكات سرية مختلفة، تعمل مع الأمن السوري. استطاع هؤلاء الشباب تقديم معلومات قيمة جداً، قبل حرب تشرين 1973 حول مرصد جبل الشيخ وخط بارليف، حيث عمل قسم منهم كعمال في هذه المواقع واستطاعوا الحصول على مخططاتها وقدموها للأمن السوري. وبدوره، قدم الأخير مخططات خط بارليف للمصريين. استطاع الأمن الإسرائيلي اكتشاف أمر هذه الشبكات في مطلع السبعينات حيث اعتقل عدداً كبيراً من شباب قرى مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنية، كما استشهد في تلك الفترة شابان بالرصاص الإسرائيلي عندما كانا يؤديان مهامهما الوطنية.

لا شك في أن هذا الحراك الوطني أدى إلى إفشال مخطط التقسيم والشبكات السرية وترك أثره على السكان السوريين تحت الاحتلال، وبدأت تتشكل نواة الحركة الوطنية في الجولان، التي رفضت

الاحتلال وسياسته، والتي تمثلت أمامهم بشخص وسلوك الحاكم العسكري، حيث يمنحه منصبه حق التصرف كيفما يشاء وفقا لمصلحة الاحتلال دون أية مراعاة للمواثيق والقانون والأعراف الدولية، أو حتى القانون المدني الإسرائيلي. وقد كان أول عمل قض مضجع الاحتلال هو خروج مظاهرة عارمة في الجولان بعد إعلان وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام  1970 ووقعت في هذه المظاهرة مواجهات بين الشباب وجيش الاحتلال.

كان لحرب تشرين 1973 ونجاح الجيشين السوري والمصري، في الأيام الأولى من الحرب، في تدمير الدفاعات الإسرائيلية في مرصد جبل الشيخ وخط بارليف وإسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية بصواريخ "سام 6" السوفيتية الصنع آنذاك الأثر الكبير على معنويات سكان الجولان. فرغم خسارة العرب للحرب في النهاية إلا أنهم أسقطوا اسطورة الجيش الذي لا يُقهر كما صورته إسرائيل بعد هزيمة حزيران 67، بهدف إحباط الشباب والمعنويات العربية بشكل عام. 

جاءت المفاوضات الإسرائيلية المصرية والتي توجت لاحقاً باتفاقية كامب ديفيد وأخرجت مصر من الصف العربي. ولكنها استطاعت في المقابل وضع معادلة الأرض مقابل السلام موضع التنفيذ، فأدرك سكان الجولان أن تسوية كهذه سوف تحصل مع سوريا في المستقبل، الأمر الذي شد من عضد الحركة الوطنية من جهة وأضعف بشكل ملموس الأشخاص الذين تعاملوا مع الاحتلال من جهة ثانية، حيث صممت الحركة الوطنية على رفض سياسة الأسرلة التي بدأت بها حكومة الليكود بقيادة مناحيم بيغن التي تسلمت مقاليد الحكم في عام 1977.

بدأت الحكومة الإسرائيلية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، مستفيدة من الفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه خروج مصر من معادلة الصراع، بخطى حثيثة لضم الجولان للضغط على سوريا من جهة، ولإرضاء الرأي العام الإسرائيلي وخصوصاً جمهور مصوتي الليكود الذين احتجوا على الانسحاب من سيناء وتفكيك المستعمرات الإسرائيلية هناك من جهة أخرى. وبدأوا التخطيط لتمرير ضم الجولان عبر السكان الأصليين من أجل عدم إثارة الرأي العام العالمي ضدهم، ليقولوا للعالم إن سكان الجولان السوريين يطالبون دولة إسرائيل بضم الجولان إليها. وبالفعل، بدأ الحاكم العسكري بالترويج للجنسية الإسرائيلية بين السكان، وخصوصاً جمهور الموظفين والمعلمين، لربط قبول الجنسية الاسرائيلية باستمرار العمل في المؤسسات والمدارس.

انتبه السكان، وعلى رأسهم الحركة الوطنية التي بدأ يشتد عودها، لهذا المخطط وتنادوا لاجتماع يمثل كافة الفعاليات الاجتماعية أصدر في 25 آذار من عام 1981 الوثيقة الوطنية لأهل الجولان، التي أكدت على أن سكان الجولان المحتل هم عرب سوريون ويرفضون جنسية المحتل. وفرضت هذه الوثيقة المقاطعة الدينية والاجتماعية على كل من تسول له نفسه من سكان الجولان القبول بالجنسية الإسرائيلية. وبالمقابل قامت سلطة الاحتلال باعتقال عدد من قادة الحركة الوطنية اعتقالاً إدارياً، متهمة إياهم بالتحريض على رفض الجنسية الإسرائيلية.

أدرك قادة إسرائيل أنه لا يمكن تمرير هذا المشروع عبر السكان، لذلك قدم الائتلاف الحكومي مشروعاً للكنيست يقضي بتطبيق القانون والإدارة الإسرائيلية على الجولان، والذي عرف بقانون ضم الجولان وصدر في 14.12.1981 ظناً منهم أن هكذا قرار سيسهل على أهل الجولان القبول بالجنسية الإسرائيلية، لكنهم تفاجأوا بردة فعل السكان الذين رفضوا وبقوة قرار الضم الذي أصدره الكنيست الإسرائيلي.

أعلن السكان اضراباً مفتوحاً اعتباراً من 14.2.1982 احتجاجاً على قرار الضم، استمر لأكثر من خمسة أشهر بقليل وجرت خلاله مواجهات بين السكان والجيش الإسرائيلي الذي طوق القرى وفصلها عن بعضها البعض، وحوّل المدارس إلى مراكز اعتقال. وبدأ الجيش يقتحم البيوت بالقوة وينتزع من السكان الهوية العسكرية ويسلمهم الهوية المدنية الإسرائيلية. وعندما رفض السكان استلام الهويات المدنية رمى الجيش الهويات عند مداخل البيوت. وبعد انتهاء الحصار جمع السكان الهويات المدنية وأحرقوها في ساحات القرى. 

التلاحم السوري الفلسطيني تحت الاحتلال

بعد فك الحصار عن قرى الجولان، والذي استمر من 14.2.1982 حتى الأسبوع الأول من شهر نيسان من السنة نفسها، بدأت الوفود الفلسطينية تتوافد من الداخل الفلسطيني ومن القدس والضفة الغربية وغزة للتضامن مع أهل الجولان المضربين وقدموا لهم المساعدات على جميع المستويات، المعنوية والعينية والإعلامية، وتشكلت لجان للتضامن مع أهل الجولان لمتابعة قضيتهم ونظمت المظاهرات والوقفات احتجاجاً على التعامل الوحشي للاحتلال مع السكان. وقد مثل هذا التلاحم النضالي مثالاً ونموذجاً يحتذى على مساحة الوطن العربي. فقد شكل الفلسطينيون بالنسبة لأهل الجولان العمق والرئة التي كانوا يتنفسون من خلالها بعدما أطبق الاحتلال على أنفاسهم.

وقد وحدت السجون الإسرائيلية بين مناضلي الجولان وفلسطين ونُسجت العلاقات النضالية التي استمرت بعد التحرر والخروج من السجون. وبالمقابل انخرط طلاب الجولان في الجامعات الإسرائيلية أيضاً في إطار النضال الطلابي الفلسطيني الذي كان محوره الصراع مع الحركة الصهيونية وتبوأ العديد من طلبة الجولان مناصب قيادية في إطار العمل الطلابي الفلسطيني دون أية تفرقة بين الطالب الجولاني السوري والطالب الفلسطيني. وهكذا أعطى هذا التلاحم، الذي ما زالت مسيرته مستمرة حتى الآن، نموذجاً شبابياً لملامح العمل القومي العربي. 

لم يقتصر التلاحم السوري الفلسطيني على هذين المجالين فقط، بل امتد إلى المرافق الثقافية واندمج أهل الجولان في العمل الثقافي الفلسطيني من خلال المسرح والموسيقى والمعارض الفنية وأقيمت أعمال مشتركة على مدار عشرات السنين وما زالت مستمرة في مجالات كثيرة حتى اليوم. كذلك، أقيمت المخيمات الصيفية المشتركة لكي تتعرف الأجيال الناشئة على بعضها البعض من أجل توطيد وصياغة علاقات مستقبلية. كما شكلت الضفة الغربية متنفساً للرياضيين السوريين من الجولان وانضم عدد من اللاعبين الى النوادي الفلسطينية وجرت مباريات ودية كثيرة بين منتخبات سورية من الجولان وأخرى فلسطينية.

تعليق الإضراب

استفادت إسرائيل، كما ذكر سابقاً، من خروج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي فقامت بتدمير المفاعل النووي العراقي في العام 1981 مما فتح الطريق لحزب الليكود للفوز بانتخابات ثانية. وفي حزيران 1982 غزت اسرائيل لبنان بهدف اجتثاث الثورة الفلسطينية والوجود الفلسطيني هناك. وبشكل طبيعي، تحول اهتمام الإعلام العالمي إلى الحرب وأصبحت قضية الجولان على الهامش، فقرر قادة الحركة الوطنية في الجولان تعليق الإضراب بعد أن توصلوا لاتفاق مع الحكومة الإسرائيلية على النقاط التالية:

  1. إسرائيل لن تفرض الجنسية الإسرائيلية على أهل الجولان بالقوة، ولكن ستقدمها لمن يرغب في الحصول عليها طوعاً.

  2. إسرائيل لن تقدم على مصادرة الأراضي والمياه التابعة لقرى الجولان الأربع.

  3. إسرائيل لن تستدعي للخدمة العسكرية أي مواطن من الجولان، بحكم القانون الإسرائيلي الذي يفرض الخدمة الإجبارية على الدروز الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية في الجليل والكرمل.


    على أساس هذه الرسالة، قرر أهل الجولان تعليق إضرابهم الذي استمر أكثر من خمسة أشهر بقليل، وأعلنوا التزامهم بالوثيقة الوطنية ورفضهم القبول بالجنسية الإسرائيلية وشددوا الحرمان الديني والاجتماعي على كل من يقبل بها. وفي المقابل، قرروا استلام الهوية المدنية الإسرائيلية لتسيير أمورهم الحياتية. و هكذا تحول السكان السوريون في الجولان وفقاً للقانون الإسرائيلي إلى "مقيمين دائمين" يدفعون الضرائب ويتمتعون بالحقوق المنصوص عليها قانونياً للمقيم الدائم، ولكنهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية ويترتب على ذلك قانونياً أنهم لا يتمتعون بحق الترشح أو التصويت لانتخابات الكنيست الإسرائيلي ولا يحق لهم حمل جواز سفر إسرائيلي وإنما يعطون بطاقة سفر (Travel Document) مسجل فيها في حقل الجنسية "Undefined " (الجنسية: غير معرّف) وهكذا أصبح وضع أهل الجولان القانوني بعد الضم مشابهاَ تماماَ لوضع السكان العرب في القدس الشرقية. 

الجزء الرابع: مرحلة ما بعد الإضراب

استمرت المواجهات بين السكان وقوات الاحتلال خصوصاً عندما كان أهل الجولان يحيون كل سنة مناسباتهم الوطنية في ذكرى الإضراب، يوم 14 شباط من كل سنة، وذكرى جلاء الفرنسيين عن الأرض السورية، في السابع عشر من نيسان. وقد وصلت ذروة المواجهات عندما اضطر شمعون بيرس، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، إلى الخروج من مجدل شمس تحت حماية مشددة خوفاَ على سلامته من المتظاهرين الذين هتفوا ضد وجوده في بلدتهم، إثر زيارة قام بها إلى المجلس المحلي المعين هناك بتاريخ 25 شباط 1986.

ومن الجدير ذكره هنا أنه بعد الإضراب، وتحديداَ في عام 1985، كشفت إسرائيل شبكات جديدة منظمة تعمل بشكل سري ضد الاحتلال وتم اعتقال عشرات الشباب صدرت بحقهم أحكام تأديبية مشددة تراوحت بين 10 أعوام و27 عاماَ. ويتمثل الفارق بين معتقلي السبعينات ومعتقلي الثمانينات في ثلاثة عوامل: أولاً، تشكلت الموجة الأولى في ظل هزيمة 1967 وفي ظل الإحباط الذي ساد بعد الحرب، فكانوا بعملهم طليعيين وشكلوا نواة الحركة الوطنية الوليدة في الجولان، بينما كانت الموجة الثانية نتيجة للمد الوطني وحالة المقاومة العامة في الجولان. ثانياً، متوسط أعمار الشريحة المعتقلة في الموجة الأولى كان أكبر من متوسط أعمار الموجة الثانية، إذ أن غالبية المعتقلين في الثمانينات كانوا شباناً في مقتبل العمر. ثالثاً، ارتبط معظم المعتقلين في السبعينات بالأمن السوري، بينما كانت موجة الثمانينات أكثر استقلالية في عملها.

ورغم الأجواء التي سادت تلك الفترة، إلا أن الاحتلال سلم بالأمر الواقع وفهم أنه لا يمكن قطع علاقات سكان الجولان بوطنهم الأم سوريا، فأعاد فتح الطريق للطلاب لإكمال دراستهم في جامعة دمشق وفتح الطريق أيضاً لرجال الدين لزيارة الأماكن المقدسة للطائفة الدرزية في سوريا، ولاحقاً سمح باستجرار التفاح لبيعه في الأسواق السورية دعماً للقطاع الزراعي في الجولان. 

بداية الترهل والانقسامات في الحركة الوطنية

تميزت هذه الفترة بتدخل أجهزة الأمن السورية مباشرة بما يجري في الجولان. فقد حاولت، بوسائل مختلفة، التدخل في مجريات الأحداث وكانت تصيب مرة وتخطئ مرات عديدة. وساهمت الزيارة السنوية التي يقوم بها رجال دين من الجولان إلى الوطن بزيادة تأثير هذه الأجهزة، ما زاد اتساع شقة الخلاف في الجولان. وكان كل ذلك يجري على مرأى ومسمع من الاحتلال الذي ترك الأمور تسير على طبيعتها، مستفيداً من التناقضات بين السكان، حيث استوعبت إسرائيل أن سياسة العصا تأتي عليها بنتائج عكسية، ولذلك قررت تغيير استراتيجيتها، فتنازلت عن سياسة العصا وتوقفت عن استجلاب قوات من الشرطة لقمع السكان عند إحيائهم للمناسبات الوطنية وأبقت على قوات رمزية خارج القرى للحالات الطارئة. 

بدأ الترهل يصيب جسد الحركة الوطنية، حيث أصبحت المواقف بلا ثمن، مما شجع الكثيرين على الانخراط في العمل الوطني، فأفرغت الحركة الوطنية تدريجياً من مضمونها ولم يبق من المواقف إلا الجانب الرمزي لها، وهو الإضراب الذي كان يلتزم به الجميع في هذه المناسبات. فما أن وصلنا إلى بداية التسعينات من القرن الماضي حتى أضحت المواقف الوطنية أشبه بالكرنفال الاحتفالي. وقد ساهمت أجهزة الأمن السورية في وصول الحركة الوطنية إلى هذا الوضع، حيث حولت المناسبات الوطنية إلى مناسبات للتحية وإعلان الولاء للنظام السياسي في سوريا.

تسريع وتيرة الأسرلة

جاءت الثورة السورية في آذار 2011 لتدق المسمار الأخير في نعش العمل المشترك. فقد تميزت هذه الفترة بتفتت الحركة الوطنية وشلل عملها المشترك في الجولان السوري المحتل كلياَ، إذ انقسمت الحركة الوطنية بين مؤيد ومعارض للنظام ووصلت التناقضات إلى مرحلة المواجهة وتخوين كل من أيد الثورة ووقف ضد الحل الأمني الذي مارسه النظام. وهكذا فقدت الحركة الوطنية فعاليتها، وشلت بشكل نهائي، وأثرّ هذا التناقض ليس فقط على العمل الوطني، وإنما على الحياة الاجتماعية أيضاً، إذ وصلت الأمور الى مرحلة المقاطعة في المناسبات الوطنية وحتى الاجتماعية.

استغلت سلطة الاحتلال هذه الفرصة وبدأت بتسريع سياسة الأسرلة، فقطعت كل علاقة بين السكان وبين وطنهم الأم سوريا، وقلصت بشكل كبير عملية إرسال الطلاب للدراسة في جامعة دمشق، وأوقفت أيضاَ نقل التفاح ليباع في الأسواق السورية. بالمقابل بدأت بإغداق الأموال على المجالس المحلية المعينة من قبلها من أجل إقامة مشاريع مهمة في المنطقة، من بناء مدارس على الطراز الحديث، وتحديث الطرقات، وتحويل المنطقة إلى منطقة سياحية. هذا ناهيك عن البرامج التي أدخلت إلى المدارس لتسريع وتيرة الأسرلة، وفي خطوة تظاهرية رُفعت الأعلام الإسرائيلية على المدارس وزادت الشرطة من حضورها داخل القرى وشجعت انضمام الفرق الرياضية إلى الدوري الإسرائيلي.

تهدف هذه السياسة الجديدة، بلا شك، إلى جعل هذا الجيل الصاعد المتأثر بالحداثة يقارن بين "رفاهيته" تحت الاحتلال وبين ما يجري من قتل وتدمير في وطنه، ليصل إلى نتيجة مفادها أن من مصلحة السكان في الجولان أن يبقوا تحت الاحتلال الإسرائيلي. إن استراتيجية إسرائيل الجديدة تعيدنا إلى سنوات السبعين وتهدف إلى ابتلاع الجولان بشكل كلي وتحويله إلى لواء إسكندرونة ثان. لم تخف إسرائيل رغبتها في ذلك عندما طلبت حكومة نتنياهو من دول العالم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان وقامت بخطوة رمزية بعقد اجتماع للوزارة الإسرائيلية في الجولان في السابع عشر من نيسان 2016 متزامناً مع احتفال الشعب السوري عامة وأهل الجولان خاصة بعيد الجلاء. وفي 25 آذار 2019 اعترف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان.

وكخطوة استفزازية، قامت سلطات الاحتلال بفرض انتخابات للمجالس المحلية في تشرين الأول من عام 2018 للمرة الأولى في قرى الجولان منذ الاحتلال في حزيران 1967. فقد درجت سلطة الاحتلال على تعيين رؤساء وأعضاء المجالس المحلية بقرار يصدر عن وزير الداخلية. ووفقاً للقانون الإسرائيلي يجب على المرشحين للرئاسة أن يحملوا الجنسية الإسرائيلية وذلك في محاولة لترغيب الشباب بطلب الجنسية لكي يتسنى لهم ترشيح أنفسهم لرئاسة المجلس المحلي. 

رفض السكان هذه الخطوة واعتبروها محاولة استفزازية لفرض الأمر الواقع على السكان ولشرعنة الجنسية الإسرائيلية بين سكان الجولان. قامت سلطة الاحتلال بقمع المظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي نظمها السكان بوحشية من خلال استعمالها للقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي. إلا أن هذا المشروع فشل في النهاية في دورته الأولى بسبب رفض السكان المشاركة في هذه الانتخابات مما اضطر سلطة الاحتلال إلى إعلان فوز المرشحين بالتزكية أو ببضعة أصوات لا تتجاوز العشرات.  

ورغم المحاولات الدؤوبة من قبل سلطة الاحتلال لترغيب الجيل الصاعد في الجنسية الإسرائيلية ورغم الأحداث الدموية في سوريا، إلا أن سكان الجولان ما زالوا متمسكين بجنسيتهم السورية. فوفقاً للإحصاءات التي يجريها المرصد- المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان، بين الفينة والأخرى، يقول تقريره الأخير الصادر أواخر 2021 ما يلي: وباحتساب التحديثات الأخيرة للبيانات الإحصائيّة التي حصل عليها المرصد، فإنّ الأشخاص الذين تقدّموا، طوعاً وبإرادتهم الحرّة، بطلبات للحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة، وفق معطيات سلطة السكّان والهجرة، خلال 54 عاماً؛ أي منذ عام 1967 حتى أواخر أيلول/سبتمبر 2021 (تشمل الأحياء والمتوفين) هو 2,159 طلباً، أي ما يعادل 8.5% من تعداد السكّان الحاليّ.

وفي هذه الآونة يقف سكان الجولان أمام تحد جديد، ما زالت تتفاعل مفاعيله وهو قرار حكومة إسرائيل منح شركة إنيرجكس الترخيص لبناء توربينات عملاقة لإنتاج الكهرباء في الجولان. ضمن هذا المخطط سيتم إنشاء حوالي 28 مروحة عملاقة يبلغ طولها أكثر من 200 متراً على أراض تعود ملكيتها لأهالي الجولان، الأمر الذي يرفضه السكان جملة وتفصيلاً. فقد أثبتت الأبحاث العلمية مدى الضرر الذي تسببه هذه التوربينات للبيئة والطيور وكذلك للإنسان. وقد نظم أهل الجولان مجموعة من الوقفات احتجاجاً على هذا المشروع الذي سيدمر بأقل تعديل جزءاً من الأراضي الزراعية التي يعتمد عليها السكان في معيشتهم، لكن يبدو أن الأمور تسير باتجاه المواجهة لأن الحكومة الإسرائيلية على ما يبدو لا تنوي التراجع عن قرارها من جهة، والسكان لن يقبلوا بأنشاء هذه التوربينات على أراضيهم من جهة أخرى.

وأخيراً، بالرغم من اعتراف دونالد ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان، ورغم قرار الحكومة الإسرائيلية مضاعفة عدد المستوطنين اليهود في الجولان حتى العام 2030، ورغم قرارها بناء مستوطنتين جديدتين في الجولان، ورغم قرارها بناء توربينات عملاقة على أراضي السكان، ورغم الأحداث الدامية في سوريا، ورغم اتفاقيات السلام التي عقدتها بعض دول الخليج مع إسرائيل والوضع العربي المتردي بشكل عام، رغم كل هذه الأمور التي ذكرت، ما زال سكان الجولان متمسكين بانتمائهم لسوريا ويرفضون الأسرلة التي يسعى الاحتلال بكل قوته لفرضها، لكي يشرعن احتلاله للجولان وليسهل على دول العالم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، كما فعلت أمريكا، ليبتلع الجولان نهائياً كما ابتلعت تركيا لواء إسكندرون.


الصورة: لجنود اسرائيليين في القنيطرة في حزيران 1967. تصوير: موشيه ميللر.

د. ثائر أيو صالح

كاتب وباحث سياسي من الجولان السوري المحتل

شاركونا رأيكن.م