غزة التي تواجه الأوتاد

منذ زمن ربما أصبح لا يعد، غَرْس البؤس في كل زاوية من غزة له وتد، ربط فيها حباله المليئة بالعقد، عقد كلما مرت الأيام أصبحت أشد وأشد، لا يتراجع البؤس ولا تترك حباله الوتد، أما غزة فلم تقف ساكنة، وإن غُرس فيها كل يوم ألف وتد.

لا مجال هنا لعد الأوتاد أو حتى العقد، ففي كل جانب من جوانب حياة الغزيين الكثير من العقد؛ لكن الغريب في غزة أنها تتعايش مع كل هذا الكم الكبير من الألم، والغريب أيضا أن لديها القدرة على الكثير من الصبر والتعايش.

في غزة تعايشنا مع الظلام، تعايشنا مع أصوات الطائرات التي لا تهدأ، تعايشنا مع الفقر مع الرصاص مع حرمان السفر، لقد تعايشنا مع كل ما يخطر في بالك، تعايشنا مع البؤس بأوتاده والعقد، لكن لم نتعايش مع الجهل ولو لدقيقة واحدة.

رغم كل ما تمر به غزة من آلام، ورغم نسب البطالة التي وصلت إلى 46.6 بالمائة، ورغم أن المنشآت الصناعية والتجارية أصبحت مكدسة بالخريجين الذين يعملون كعمال وبأجر لا يليق بطموحاتهم، إلا أن الغزيين يخوضون حربًا من أجل التعليم.

عندما نقول "حرب" لا نهول إطلاقا، إنهم يحاربون من أجل التعليم فعلا، وفي تفاصيل الأيام الدراسية لأصغر طالب في المرحلة الأساسية تجد أن معركة كبيرة يخوضها الأب والأم في سبيل تمكن ابنهم من الذهاب إلى المدرسة.

فعليًا التعليم مجاني في مدارس الأونروا والمدارس الحكومية؛ لكن "المصروف" والذي لا يتجاوز الشيكل الواحد، والقرطاسية والزي المدرسي أمور تتطلب من رب الأسرة أن يخوض معركة لأجل توفيرها، إنه مستعد للعمل 24 ساعة لأجلها، إنها أولوية عن الطعام، ورغم ذلك تجد طلاب يذهبون إلى مدارسهم بلا مصروف وبملابس مهترئة، لماذا؟؛ لأن والدهم خسر المعركة، لكنهم ذهبوا بلا مصروف؛ حتى لا يخسروا التعليم.

قبل ما يزيد عن عشرة أعوام، وعندما التحقت بالجامعة، كثير من زملائي بالثانوية العامة لم يتمكنوا من الالتحاق بالجامعة، ذهبوا للعمل في البناء والمخابز والأسواق؛ لكنهم لحقوا بنا في الفصل الثاني ومنهم من لحق بنا في العام الثاني، المهم أنهم لحقوا ولم يستسلموا.

ليس ذلك فقط، كنا حين نفتقد زميل من زملائنا في المحاضرة نعرف تلقائيا أنه لم يأت؛ لأنه لم يستطع توفير أجرة الطريق، أما عند التخرج فلم يتخرج عدد لا بأس به من الزملاء، لأنهم اضطروا لتأجيل الدراسة أكثر من مرة، في النهاية لا أذكر أن أحدًا ترك الجامعة، جميعا تخرجوا، وغالبيتهم انضموا إلى طوابير العاطلين عن العمل.

هذا قبل عشرة أعوام، كانت الأوتاد أقل بكثير من اليوم، فما بالكم الحال الآن، إنه مليء البؤس المتربع على مقاعدنا الدراسية، فقد تشير الإحصائيات إلى أن نحو 31 بالمائة من الأسر في غزة تواجه صعوبات في الوفاء باحتياجات التعليم الأساسية، كالرسوم المدرسية والكتب؛ بسبب شح الموارد المالية.

يقع مكان عملي وسط منطقة الجامعات في غزة، عندما كنا نغادر أنا وزملائي نجد مئات الطلاب يسيرون على الأقدام لمسافات طويلة، سألنا ذات مرة، لنجد المفاجأة، إنهم يقطعون ما يقارب نصف الطريق مشيًا على الأقدام؛ ليوفروا نصف الأجرة لليوم الثاني، إنه تقاسم الأيام في غزة.

هل ينتهي القتال هنا، فعليا لا، لم يتوقف الغزيون أبدا، هي ليست مجرد عادة، لا يريدون فقط الحصول على شهادة البكالوريوس، إنهم يقاتلون لأجل الحصول على الدرجات العليا، في كل عائلة تجد أعدادًا لا بأس بها من الحاصلين على الماجستير والدكتوراه.

قد يخطر في بالك أن الغزيين يحاربون للحصول على الدرجات العليا كي يحصلوا على حظوظ أعلى في فرص العمل، ربما البعض لديه هذه النظرة؛ لكن الأغلبية ليس لذلك يحاربون، تخيل أن سيدة باعت ذهبها لتحصل على الماجستير، شاب آخر باع شقته السكنية واشترى واحدة أقل ثمناً ليكمل الدكتوراه، والكثير منهم اختاروا أن يدخلوا بضائقة مالية؛ لأجل الحصول على درجات عليا.

أعداد كبيرة من حملة الشهادات العليا لا يزالون ضمن قوائم العاطلين عن العمل، وآخرون يعملون على سيارات أجرة، إنهم يعملون في أي عمل يوفر لهم قوت يومهم، إنهم محاربون فقراء.

أعلنت مؤخرًا نتائج الثانوية العامة، وعمت الفرحة في غالبية البيوت، وفي جانب آخر بدأ صراع داخلي كبير لدى الآباء، كيف ومن أين سنوفر تكاليف الدراسة، أسئلة كبيرة تدور بالأذهان، وجوابها واحد مليء بالمواساة :"ربنا بسهلها إن شاء الله".


الصورة: من موقع وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين الأنوروا."

عبدالله مغاري

كاتب وصحافي فلسطيني غزي

شاركونا رأيكن.م