انقسام حقيقي حول وهم الديمقراطية

حذّر محافظ بنك إسرائيل مؤخرًا رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو من المخاطر الجسيمة، التي يحملها مشروع "تغيير أسس النظام" على الاقتصاد الإسرائيلي، وانضم بذلك إلى المئات من علماء الاقتصاد والإدارة وآلاف المحاضرين الجامعيين وعشرات آلاف العاملين في مجال التكنولوجيا المتطوّرة، وكذلك عشرات آلاف المحامين والقضائيين، وإلى مئات آلاف المتظاهرين الغاضبين. السبب الأول للتململ وللاحتجاج هو أن الطبقات الوسطى العلمانية الليبرالية تشعر بتهديد حقيقي على مكانتها ودورها، وأسلوب حياتها في ظل تغييرات راديكالية تتلهّف حكومة نتنياهو وحلفائه لفرضها على المجتمع الإسرائيلي، في مسعى محموم للهيمنة الكاملة على الدولة العميقة، وعلى مفاصل الحكم كافة. ويبدو أن الزوبعة، التي تمر بها الدولة الصهيونية هذه الأيام هي تعبير عاصف عن انقسام حقيقي بين من يريدون الحفاظ على الوضع القائم، كما هو، ومن يسعون إلى نسف وتقويض بعض مكوّنات ومقوّمات الحكم والنظام.

علام الانقسام؟

في خضم ضجيج "الطوشة" العمومية في إسرائيل، لا بد من الإشارة إلى أنّها لا تمس جوهر المسلمات الصهيونية الأساسية المتمثّلة، بتهجير يهود العالم إلى فلسطين وإسكانهم على أرضها في دولة يهودية – صهيونية على حساب أهل البلاد الأصليين، وعبر قمع أي محاولة لهم للدفاع عن أنفسهم وعن وجودهم وعن أرضهم ووطنهم. ويقف النقاش الساخن في المجتمع الإسرائيلي على أساس ثابت من الإجماع العملي على استمرار الاحتلال والاستيطان والحصار والفصل العنصري والتمييز والفوقية ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي عمومًا. ولأن هناك مسلمات غير قابلة للنقاش وتوافقًا عمليًا حول الأمور الجوهرية، يتسع المجال لعلو صخب أصوات الخلاف بلا خوف على وحدة الشعب وسلامة النظام. ولكن علام الانقسام؟ يمكن تلخيص موقف المعارضة بجملة واحدة وهي، أنّها تعارض خطة الحكومة للتغييرات في نظام الحكم، وتسعى إلى الإبقاء على الوضع كما هو عليه. أما الائتلاف الحكومي فهو يطرح عشرات الخطط والمشاريع لاستبدال الوضع القائم بقوانين وأنظمة وإجراءات تمكّن اليمين الحاكم من الإمساك بكل مفاصل الحكم، ومن ثم فرض هيمنة كاملة على السلطة القضائية وعلى بيروقراطية الدولة وعلى الإعلام والأمن والتعليم والثقافة، ومن التحكّم بالاقتصاد وبالمؤسسات الأكاديمية، وحتى بالمجتمع المدني. ومن الواضح أن المتضرر المباشر الأول من سياسات حكومة نتنياهو الجديدة هي الطبقة الوسطى، التي تدعم تقليديًا القوى المعارضة لهذه الحكومة. الجهات الإسرائيلية التي ترى نفسها ليبرالية وعلمانية وتريد أسلوب حياة غربيًا يماثل المراكز الحضرية الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة، ترى في ارتفاع قوّة ونفوذ الأحزاب الدينية التوراتية تهديدًا مباشرًا لنمط حياتها، وتخشى من الإكراه الديني في قضايا مثل السباحة المختلطة والسفر والتجارة والعمل أيام السبت. هذه الجهات عمومًا منفتحة على العالم وتخاف من تصدّع صورة إسرائيل "الديمقراطية" في العالم ومن خسارة دفاع المحكمة العليا عن حقوق الفرد، وكذلك من حالة حصار تجعلها جزرًا منعزلة في بحر ممن تعتبرهم "رعاعًا يمينيًا منفلتًا".

وهْم ديمقراطي

أكثر ما يجري تداوله في إسرائيل هذه الأيام هو النقاش حول مستقبل "الديمقراطية الإسرائيلية". ما من شك بأنّه من الناحية الشكلية والإجرائية هناك "ديمقراطية إسرائيلية"، ولكن لها مرجعية ومنطق مخالف لمفهوم الديمقراطية. هذا المفهوم بأبسط تعريفاته هو "حكم الشعب"، وعادة يدور النقاش حول مسألة الحكم، لكن "الديمقراطية الإسرائيلية" قامت على أساس تغيير الشعب، حيث جرى استبدال أهل البلاد الأصليين بمهاجرين، وبعد ضمان أغلبية يهودية عبر التهجير، جرت انتخابات "ديمقراطية" فاز فيها من فاز. هذه بالطبع ليست ديمقراطية، بل رواية كاذبة ومخادعة عن الديمقراطية. وكذلك، ما الذي يمنح الأغلبية البرلمانية المنتخبة "ديمقراطيًا" تخويلًا باتخاذ قرار بحبس مليوني إنسان في غزّة؟ ومن قرّر أن تصويت أهالي تل أبيت يقرر مصير أهالي نابلس؟ المتظاهرون في تل أبيب دفاعًا عن الديمقراطية يعيشون وهمًا مزدوجًا: الأول أن الديمقراطية الإسرائيلية هي فعلًا ديمقراطية، والثاني أن الخطر على الديمقراطية ينحصر في اليمين المتطرّف، الذي يصارعون ضده، وليس في النظام الإسرائيلي القائم، الذي يتظاهرون دفاعًا عن استمراره. في الحقيقة مظاهرات تل أبيب هي لحماية "ديمقراطية المستوطنين" وليست ذودًا عن القيم الديمقراطية الإنسانية الكونية السامية. والدليل، أن لا ذكر للاحتلال ولجرائم الاحتلال في شعارات المظاهرات وكلمات المتحدثين فيها. ومن يتجاهل الاحتلال لا يمكن أن يكون مناهضًا للأبارتهايد.

الهاجس الاقتصادي

الرأي السائد في صفوف النخب الاقتصادية الإسرائيلية هو أن الإجراءات الحكومية، التي تشمل نسف استقلالية القضاء، وإلغاء جهاز البث الجماهيري وشل الرقابة القضائية على عمل الوزارات وما يعتبر تلطيخ صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية، ستضرب الاقتصاد الإسرائيلي في الصميم عبر خفض التصنيف الائتماني ووقف وسحب الاستثمارات الأجنبية وهجرة الأدمغة. وعبّر المئات من المحاضرين في علوم الاقتصاد والإدارة عن قلقهم في رسالة إلى نتنياهو جاء فيها: "المس باستقلالية القضاء والخدمات العامّة سيزيد بشكل كبير من احتمالية الإضرار بالتصنيف الائتماني للحكومة الإسرائيلية، وبفرص تجنيد استثمارات في الشركات الإسرائيلية. (وكذلك) أضرار طويلة الأمد لمسار نمو الاقتصاد ونوعية حياة سكّان إسرائيل، وانخفاض الاستثمارات سيلحق الضرر أولا وقبل كل شيء بصناعة الهايتك، محرّك نمو الاقتصاد، كما سيؤدّي إلى قيام شركات بنقل مراكزها إلى الخارج. وإضافة لذلك، فإن الجمع بين المس بحقوق الفرد وباقتصاد الهايتك سيزيد كثيرًا من هجرة الأدمغة. يبدو أن أكثر الضغوط العكسية تأثيرا في نتنياهو هو خطر التراجع الاقتصادي، حيث اعتمدت عودته المتكررة إلى السلطة على الجمع بين التحريض الشوفيني والتطوّر الاقتصادي وارتفاع مستوى الحياة. وإذا فكّر نتنياهو في مرحلة ما بوقف الهجوم الكاسح على السلطة القضائية وعلى الدولة العميقة، فإن العامل الاقتصادي سيكون المحرّك الأول. قطاع الهايتك هو الحصان الذي يجر عربة الاقتصاد الإسرائيلي. وقد تظاهر هذا الأسبوع الآلاف من العاملين فيه ضد خطة "الانقلاب على النظام"، ودعوا إلى وقفها وعبّروا عن خشيتهم من أنّها تضر بشكل جدّي بمستقبل عملهم. ومن جهة أخرى يعتمد الهايتك الإسرائيلي، الذي يشكّل نصف الصادرات، على الاستثمارات الأجنبية ومن دونها سيحدث انهيار اقتصادي وليس مجرد تراجع.

هجرة

من حظ نتنياهو، وكثيرا ما يحالفه الحظ، أن هناك أزمة اقتصادية عالمية وانحسارًا في قطاع الهايتك، وإقالة لعشرات آلاف العاملين في مجاله. فلو كانت أحوال الهايتك في العالم اعتيادية، لارتفعت معدّلات هجرة الأدمغة إلى مستويات تهز الاقتصاد والمجتمع في إسرائيل. ومنذ تشكيل حكومة نتنياهو والإعلان عن خطط "الإصلاح القضائي"، بدأ الحديث العلني عن الهجرة وانتشرت مواقع كثيرة لمساعدة ومساندة الراغبين في الهجرة. ومنها موقع "الهجرة من إسرائيل"، وموقع "منتدى الهجرة إلى برلين"، وموقع "منتدى المهاجرين الإسرائيليين في كندا، وغيرها. وتقدم هذه المواقع توجيهات وإرشادات حول المعاملات والإجراءات وكيفية الحصول على تأشيرات هجرة إلى دول كثيرة. حتى في ظروف أزمة الهايتك العالمية، وجد مهندسون ومبرمجون ومبادرون طريقهم إلى خارج إسرائيل، ولا تتوفّر إحصائيات ومعلومات عن حجم الظاهرة، لكن هناك توقّعات بأن يزداد حجمها ويتوسع مجالها مع اشتداد حدّة الصراعات الداخلية في إسرائيل، وتبعا لتنامي المخاوف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدى الطبقة الوسطى، التي تحمل العبء الأكبر للاقتصاد الإسرائيلي.

هل من حل وسط؟

تحمل مظاهرات تل أبيب ضد حكومة نتنياهو غضبًا فعليًا ومن المتوقّع أن يزداد عدد المشاركين في هذه المظاهرات، ومن المتوقّع أيضًا أن يرتفع منسوب الغضب. وقد جرفت موجة السخط معها نخبًا أكاديمية وقضائية واقتصادية وأمنية (سابقة). في المقابل، يشتد إصرار اليمين على تمرير مخططاته بلا تعديلات وبلا تنازلات. من هنا، تبدو إمكانية الحل الوسط بعيدة في هذه المرحلة على الأقل، إذ لن يجرؤ أحد من القيادات السياسية على إبداء أي مرونة، لأنّه سيتهم فورًا بالتخاذل وخيانة العهد. لكن الحل قد يأتي في خضم أزمة ما، اقتصادية أو أمنية أو حتى سياسية. الإدارة الأمريكية من جهتها تضغط في الكواليس وبقوّة لحماية إسرائيل من نفسها، وبموازاة ذلك تزداد المخاوف من تبعات "الثورة القضائية" اليمينية على الاقتصاد الإسرائيلي، وكذلك تدق مؤسسات تقييم ودراسة الأمن القومي أجراس التحذير بأن فقدان صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية هو خسارة استراتيجية من الوزن الثقيل.

إمكانية التوصل إلى حل وسط، كما تريد الإدارة الأمريكية، ضعيفة لكنّها ليست معدومة. الأرجح أن تستمر حالة الانقسام الصدامي في إسرائيل. الأزمة في بداياتها ولم تتحرك كل مفاعيلها ويبدو حاليًا أن التصعيد والمزيد من التصعيد قد يقود إلى صدام ما أو إلى حسم ما. السؤال هو: هل نقف متفرجين؟ وهل هي فرجة؟ أم أنّها فرصة نادرة يجب استغلالها لصالح قضية فلسطين، التي يسعى الجميع في إسرائيل إلى تهميشها ووضعها على الرف.


عن موقع "القدس العربي"

(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected])

د. جمال زحالقة

رئيس حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" في أراضي ال48

رأيك يهمنا