انتخابات المقعد السادس

في كل حقبة تاريخية يمر المجتمع بتجارب تُظهر مدى متانته وتماسكه، نوعية ومميزات مركباته ومدى حكمة وبعد نظر قادته. في الفترة الأخيرة مررنا بمنعطف تاريخي بلا شك، واتضح لنا مدى هشاشة مجتمعنا، سطحية التحليل وضبابية الرؤيا، والاهم ربما، أزمة القيادة والتمثيل والخضوع لأهواء الشعارات والشعبوية التي اعتقدنا أنها تميز اليمين اليهودي فقط، وها هي تميز اليمين واليسار والمتدينين العرب. الشعبوية هي، على ما يبدو، ما يتبقى عندما يسيطر الآني على بعيد المدى، الحزبي على الوطني والقومي، والرمزي على العملي والمجدي.

نشوة النصر في الانتخابات للكنيست الـ-23 والحصول على 15 مقعدًا أثارت القلق والاستياء في اليمين. تفكيك "القائمة المشتركة" كان يجب أن يكون المشروع الأهم، وهذا ما حدث فعلًا.

الاستراتيجية التي كان يجب (باعتقادي) تبنيها هي اللحمة الحزبية بأي ثمن، لهدف واحد هام، مفصلي وفوق كل الأهداف: طرد بنيامين نتنياهو من الحلبة السياسية. هذا السياسي المحنك هو ألد عدو للعرب وللمسلمين، أكبر ند للشعب الفلسطيني وخطر على كيانه. لذلك، كل عمل سياسي أو تحالف، ولو مع جهات سلبية لنا، هو أمر مشروع بل واجب. نتنياهو صاحب قدرات سياسية غير مسبوقة، تأثيره في العالم الغربي، وخصوصا الولايات المتحدة، كبير جدًا. هو وابنه المتطرف يجب أن يخرجا والفرصة سانحة.

ولكن، أنا مخطئ على ما يبدو. المقعد السادس، وما أدراك كم هو هام للأمة العربية هذا المقعد وكيفية تقسيمه!!

الاستراتيجية في الجانب الآخر كانت واضحة. اليمين لا يضيع الوقت ولا يستسلم للوهم. وعليه، قام بتفكيك "المشتركة" بسرعة كبيرة عبر صفقات مع "القائمة الموحدة". عملية الخداع السياسي تستند إلى الاغراء. وهذا ما فعلوه. من إنجازات وهمية وحتى حديث عن تعاون مشترك وحتى كبار مساعدي ومستشاري نتنياهو، بدأوا بالحديث عن إشراك العرب في السلطة والقيم المشتركة للإسلام واليهودية. من هنا بدأت نهاية "المشتركة" ككابوس أقلق مضاجع اليمين. ولكنّ الأمر لم يقف هناك، بل استمر لزرع مساعدي اليمين العرب في الأحزاب وفي الصحافة العبرية والعربية، معتمدين على صحافة غير مهنية، شعبوية هي الأخرى وسطحية عديمة الشجاعة في الكثير من الأحيان، الأمر الذي سبب الكثير من الضرر للأحزاب العربية فيما بعد.

إحدى المسرحيات المثيرة للاستهجان، إن لم يكن للسخرية واليأس، هي "مفاوضات المقعد السادس" – من سيحصل على ثلث أو ربما نصف المقعد، وكيف نخرج هذا الحزب خارج اللعبة، الخ... هنا تكمن الحقيقة المؤسفة إزاء نوعية ومستوى القيادات، ليست كلها بالطبع ولكن بعضها. وهذا البعض كان له أثر كبير وغير بنّاء فيما بعد. قسم لم يرتق إلى مستوى المسؤولية وأهمية اللحظة السياسية. قسم اختفى من الحلبة وقسم تنازع فتات المقعد وكأن في ذلك نصرًا للامة العربية. سيل من الشعارات الفارغة رافق هذه المسرحية التي كانت مهزلة تارة مهزلة وكابوسًا يهدد إنجازاتنا وربما تمثيلنا وصيانة مصالحنا الأساسية، تارة أخرى. النتيجة معروفة: تفكك إضافي كاد يودي بتمثيلنا البرلماني، ولكنه بالطبع تسبب لنا بكارثة انتخاب هذه الحكومة وتداعياتها التي بتنا نراها. نحن في بداية الطريق. الآتي أسوأ وأعظم.

دخول الانتخابات بهذه التركيبة كان ينذر بالفشل من البداية. أحد مسببات الأزمة هو كثرة الهواة في السياسة الحزبية، إلى جانب اعتبارات حزبية، وحتى طائفية ضيقة. وهكذا أصبحنا نحارب الواحد ضد الآخر بدلًا من أن نحارب الواحد إلى جانب الاخر. معركة محسومة مسبقًا. 

كان الخطر الواضح لكل خبير سياسي سقوط "التجمع" وإعطاء هدية لا تقدر بثمن لليمين الفاشي، باعتبار الانتخابات "لعبة صفر" (Z.S.G.). وعليه، فكلما زاد تأييد "التجمع" زاد خطر وكم الأصوات التي ستصب في الجانب اليميني من الخارطة السياسية. هذه هي ظاهرة المتسلق أو المقامر: كلما زاد مبلغ المقامرة، زاد الربح المرجو ولكن أيضا الخسارة الفادحة. ممثلون عن التجمع أظهروا جانبًا من "الديمقراطية" التي طالما تغنوا بها وهاجموا من حذر من هذا الخطر. صحفيون اتصلوا بي واعتذروا عن أنهم لا يستطيعون إسماع صوتي لأنّ هناك من "طوشونا تليفونات"... هذا لا يدل فقط على الاستعمال الأداتي للمبادئ الديمقراطية، وانما يدل أيضًا على مدى "مهنية" قسم لا بأس به من الصحفيين. هذا أمر هام جدًا لأن له علاقة بتوعية المواطنين وتثقيفهم سياسيًا. صحافة لا تقوم بواجبها كما يجب هي خطر على المجتمع أحيانًا. 

في الفترة التي كان ممكن أن نحقق إنجازًا جيدًا ومهمّا جدًا، وإن لم يكن ليغير الواقع من الأساس، تفرقنا وأهدرنا قوتنا الانتخابية. ثقة المواطنين بأعضاء الكنيست العرب تضعضعت بسبب هذا الفشل الذريع وبسبب زرع الأوهام في عقول المصوتين، خصوصًا الشباب المتحمس الذي صوت تصويتًا هوياتيًا، مقتنعًا بما قال قادة الأحزاب عن أن صوته سيؤثر ويكون حاجزًا أمام العنصرية والفاشية، ثم اتضح أن صوته ذهب أدراج الرياح وساهم في قيام حكومة نتنياهو- بن جفير- سموتريتش، الأكثر عنصرية وكراهية منذ قيام الدولة.

هناك من استسلم لوهم مفاده أن بعض قادة الأحزاب ومروجي الشعارات والهواة السياسيين سيقومون بإعادة حساباتهم وفحص أخطائهم، وربما تحمل المسؤولية عمّا تسببوا به. أنا لم أوهم نفسي بأن شيئًا من كل هذا سيحدث: للسياسيين ميزتان يصعب علي مناقشتهم بسببهما: الميزة الأولى هي ثقافة الشعارات المجدية حزبيًا وسياسيًا وحتى شعبويًا، ولكنها مخدرة واحيانًا ضارة عمليًا. 

الثانية في طريقة التفكير الحتمية التي تقول "في كل الأحوال، كنا سنصل إلى وضع سيء". وهكذا تتلاعب بالعقول وتستخف بالمنطق. هذا الأسلوب في التفكير مسؤول عن الكثير من المصائب التي حلت بالعالم العربي. لا يوجد بنظري أسوأ من هذا التفكير الدائري، الحتمي والذي لا يخضع لإمكانية الدحض أو التفنيد.

قبل أيام معدودة سمعت اثنين من أعضاء الكنيست يتهجمان أحدهما على الآخر بتهم متبادلة حول المسؤولية عن وضعنا. هنا فهمت أنه ليس هنالك الكثير من المتسع للتفاؤل، فعلًا. القافلة الحزبية والشخصية تسير والمواطنون أمثالنا يترقبون في أطراف الطريق، بلا قدرة حقيقية على تغيير هذا الوضع المؤسف.


(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

د. سليم بريك

محاضر وباحث في العلوم السياسية

شاركونا رأيكن.م