النقب.. من رد الفعل إلى فرض واقع ضد التهجير والأسرلة
قرابة 8 أشهر مرت منذ هبة النقب ضد سياسة التشجير الإسرائيلية الهادفة لسلب أراضي منطقة نقع بئر السبع، وعام ونصف على هبة الكرامة في الداخل الفلسطيني، طورت إسرائيل فيها ادواتها القمعية اعتقلت الآلاف من شباب الداخل الفلسطيني واستفردت بالنقب فملأت شوارعه بعناصر وآليات الشرطة، وضاعفت من عمليات هدم البيوت وكمية الملفات القضائية، ولإرضاء المجموعات الإسرائيلية المتطرفة التي تجوب شوارع مدينة بئر السبع من مليشيا بآريئيل، وسكان المدينة الذين ينادون بتطهيرها من العرب ويلاحق فيها الشباب البدو الفلسطينيين لمجرد وجودهم في المدينة كما وعززت البلدية من نشاطاتها الجماهيرية في ساحة المسجد الكبير في بئر السبع، والمصممة مضامينها بأكثر طريقة موجهة لإيذاء مشاعر المسلمين الغيورين على مسجدهم.
ملاحقة سياسية وجنائية وهدم للبيوت والعشرات من الشبان مازالوا وراء القضبان، واختطاف للطلاب والطالبات من قلب الحرم الجامعي في بئر السبع لا لشيء سوا تعبيرهم عن فلسطينيتهم، وتحريض مستمر على عرب النقب وصل حتى اصدار الكتب التي تعبر عن عرب النقب على أنهم غزاة ومجرمون.
أكثر من أحد عشر مخططًا تنمويًا حسب تعبير إسرائيل بدأ العمل فيها في النقب و 12 مستوطنة جديدة تم الإعلان عنها ليهود وأوكرانيين وأوروبيين كلها تهدف لسلب الأرض، وتهدد أكثر من 100.000 فلسطينيًا من النقب بالترحيل.
نهج الحقوق مقابل الانخراط خيانة
الأزمة الإنسانية التي يظهر وجهها جليًا في النقب يحركها الاحتلال لإرضاء الفاشية الإسرائيلية، التي لا يعجبها شكل ولون ولباس وأصلانية وحق الفلسطيني البدوي في أرضه وعدالة قضيته، ولدفع العرب على مغادرة أراضيهم بالتضييق والاقتلاع.
في مقابل القمع والتضييق والفاشية مازال مخاتير إسرائيل وأصحاب ما يسمى النهج الجديد مستميتين في محاولة كي الوعي العربي وزرع مفهوم المواطنة الزائف والمربوط لديهم بالتنازل الكامل عن الثوابت، ان أخطر ما في هذه المحاولة هي محاولة محو قيم هبة الكرامة وهبة النقب من الوعي الجمعي للجيل الشاب في الداخل الفلسطيني الذي استطاع ان يمحو قرابة 30 عامًا من مجهود الأسرلة والمليارات من الميزانيات التي تصب لصناعة العربي الإسرائيلي في أسابيع فقط من رد الفعل الوطني ودفع الدماء.
رآهن العديدون على أن نتيجة القمع ستكون الخنوع، والتضييق في قسائم البناء ومنع الماء والكهرباء والبنى التحتية عن القرى البدوية سيؤدي الى التهجير الطوعي، لكن يمكن القول ان الاحتلال لم ينجح في تهجير عائلة عربية واحدة في النقب من ارضها رغم هدم 14.000 بيتًا في 6 أعوام فقط.
كما راهنوا أن سلب المسجد الكبير في بئر السبع وتحويله الى متحف والتضييق على الوجود العربي في المدينة التي تعني الدنيا للسبعاوي، سيفرض أمرًا واقعًا في السنوات ينسينا قضيتنا ويجعلنا نقبل الحال بدافع الضعف ونقص القدرة، لكن الأيام لا تزال تثبت العكس.
عدوى الصمود تتفشى رغم القمع وعرب النقب وصلوا مرحلة الفعل الوطني
مشهد لخيام اعمدتها من الخشب ومولد قديم للكهرباء يعمل بالبانزين صوت المحرك ورائحته وهواء الجبل يختلطان بحديث المستضيفين، يحدث أصحاب الخيام عن معاناتهم وما دفعهم للوصول الى الجبال التي هجر أهلها واستولت عليها إسرائيل، بغضب وكرامة ووطنية فطرية، يعود أهالي النقب في حالتين لا واحدة الى ارضهم، هي ممارسة وطنية من الدرجة الأولى ذكرتني بمحاولة الشباب الفلسطيني قبل أعوام في الضفة الغربية لإقامة قرية باب الشمس في جبال منطقة سي ردًا على توسع الاستيطان الإسرائيلي الذي ينهش الأرض والقلب الفلسطيني.
في الحالة الأولى تستضيف عائلة الدبسان العريقة ضيوفهم وتحدث عن معاناتها، حيث هجرهم الاحتلال من ارضهم إبان النكبة واضطروا العيش في ارض غيرهم، لم يجدوا بديلًا ولا استقلالًا او حلًأ وزاد الأزمة التكاثر الطبيعي، دون أفق لحل ينجيهم او يحسن شكل حياتهم، حتى لحق بهم الظلم الذي سببته جريمة التمدين القسري وانخرطوا في خلافات مع جيرانهم في ارض هم فيها ضيوف وكل محاولات دائرة أراضي إسرائيل في هذا السياق هي ضرب العرب بالعرب ودفع الشعب الواحد للتفكك والاقتتال فيما بينهم فبهذا يضعف القرار الواحد وننسى السبب الحقيقي في المعاناة ألا وهو الاحتلال .
تختلف الحالة الثانية للفعل الوطني بأنها ليست مبنية على أساس عائلي، ففي مدينة رهط ثاني أكبر مدينة عربية في البلاد تعاني الأزواج الشابة ضائقة كبرى فأكثر من 12.000 حالة من الأزواج الشابة والعائلات في المدينة لا تزال بانتظار قسائم بناء منذ تأسيس المدينة في سنوات السبعين ومع السنوات، وتشترط دائرة أراضي إسرائيل العنصرية فتح ضواحي المدينة واحياءها المخططة منذ تأسيسها بالموافقة على تهجير أهالي قرى مسلوبة الاعتراف اليها، وفي حالة ضاحية 11 تخطط الدائرة لتهجير عائلات من قرية الزرنوق اليها على حساب أهالي مدينة رهط، عملًا بعقلية أكثر عدد من السكان على أقل مساحة من الأرض وصناعة أحياء فقر "" جيتاوات "" للعرب.
ردًا على ذلك تشكلت مجموعة من عشرات الشبان من مدينة رهط رفضًا للمخطط وفرضت أمرًا واقعًا بانتقالها للضاحية رغمًا عن مخططات "" المنهال"" أي دائرة أراضي إسرائيل، ورغم هدم خيام عائلة الدبسان وشباب رهط، يرفض الطرفان الانتقال من الأرض والخنوع لمخططات إسرائيل الإقتلاعية .
مرحلة الفعل الوطني
إن المميز في الحالتين هو توقف حالة الانتظار واستجداء العطف من المستعمر وفي حين سابقًا كان فرض الأمر الواقع مجهودًا اسرائيليًا استعماريًا فقط يستخدم في سلب الأرض عبر تشجيرها من طرف الصندوق القومي الإسرائيلي، او بإقامة المستوطنات فوق القرى البدوية، أصبح فعلًا وطنيًا في أكثر من حالة واحدة وإعادة للحضور العربي في الحيز النضالي ويمثله أيضًا عودة عرب النقب للصلاة أمام مسجدهم المسلوب في بئر السبع والتظاهر لاسترجاعه رغم تشكل الميليشيات المسلحة وملاحقة العرب، عاد السبعاويون للحيز وتظاهروا في قلب بئر السبع التي جابها المستوطنون مسلحين بحثًا عن العرب للاعتداء عليهم وقتلهم قبل 8 أشهر فقط.
ان فطرة العربي في قضاء بئر السبع والفلسطيني في الداخل، تجعل كرامته فوق اعتبارات عيشه، وهذا ما دلت عليه فعليًا هبة الكرامة في الداخل الفلسطيني.
أصبح الفعل الوطني الفطري في ديار بئر السبع أمرًا واقعًا وتبقى تنظيمه في إطار معرفي في وجه محاولات صبغ المعارك الوجودية بصبغة خدماتيه، ان معركتنا هي في وجه الاحتلال لا لتحسين شروطه، وان محاولة عزلنا فكريًا عن المصير الفلسطيني الواحد بحجة تحسين شروط العيش هي محاولة لتحسين شروط العبودية، ولمحو مواقف هذا الشعب الذي سطره بالدماء والصمود، وان المعركة على الوعي بنفس أهمية المعركة على الأرض والوجود.
تصوير: وليد العبره.
رأفت أبو عايش
ناشط سياسي وصحافي من قرية اللقية في النقب, حاصل على بكالوريوس في الحقوق