النقب غريبا؟ وهو كذلك، طوبى للغرباء

عصابات العنف والجريمة، شكرا

اقترنت النهضة العمرانية والثقافية للبلدان بمدنها الساحلية، وتعد محرك اقتصادها الأساس ليس لها وحدها فحسب إنما لكل البلد، وكذلك الأمر من حيفا وحتى غزة وصولا إلى البحر الأحمر؛ لذلك ركزت الهجرات اليهودية الأولى منذ العام 1881 على استقدام ""المرتزقة"" إلى جانب اليهود في استيطان البلاد من اليمن وحتى شمال أفريقيا والإبقاء عليهم في التجمعات السكانية التي تم تفريغها من سكانها الأصليين أو جلبهم إلى ""مدينة الغريب"" وهو ما اصطلح على تسمية مدننا الساحلية. جبل أولئك ""المرتزقة"" سريعا بطين هذه البلاد اللزج وأصبحوا جزءا من ترابها، وأكثر من دافع عنها في أوقاتها العصيبة، إلا أن الخطة بقيت على ما هو عليه، كل موجة هجرة يهودية جديدة الإتيان بموجة مماثلة من ""المرتزقة"". يرتفع صيتهم وتشرق لهم الشمس في حين، وفي أحايين كثيرة يبقون على حالهم المزرية في الإهمال المتعمد كي لا ينسوا مهمتهم الأولى أنهم أولا وأخيرا ""مرتزقة"" لا غير.

عملية تفشي ورم الجريمة باقية ووصلت مؤخرا إلى بيوت المسنين، ليقتل الابن والده في وضح النهار وتحديدا تحت كاميرات المراقبة. تفتيت المجتمع العربي من الداخل باستخدام الحديد والنار، جاء بالنتائج المرجوة التي طمحنا بها طويلا وهو تعاضد المجتمع ومؤازرة بعضه بعضا من الجنوب وحتى أقصى الشمال دون أي تمييز بين سني وأحمدي ومعروفي ومسيحي وصوفي وبهائي وعلوي، هذه النتيجة العكسية تحديدا ما لم تأخذها عصابات الإجرام في الحسبان بينما تواصل الليل بالنهار وهي تعيث خرابا وقتلا على طول البلاد وعرضها. عصابات الجريمة السوداء، شكرا لمساهمتكم الجليلة في إعادة لحمة هذا الشعب والعمل على تمكينه أكثر.

النسابون الجدد.. ما بعد الهولوكوست

قامت الدنيا ولم تقعد بعد تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشأن الهولوكوست، وشرعت الشرطة القضائية في برلين فعلا خلال آب/أغسطس 2022 بفتح تحقيقها حول شبهة ""التحريض على العنف""، بناء على شكوى قدمت ضده حيال تصريحاته التي أدلى بها خلال مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس في برلين، وذلك على الرغم من الإيضاح المفصل من قبل عباس الذي أوضح موقفه مشددا على أن ""الهولوكوست هي أبشع الجرائم التي حدثت في تاريخ البشرية الحديث"". إلا أن هذه الحمى لم تبقَ على حالها إنما انتقلت سريعا الى النقب، حيث اتخذ النسابون الجدد في النقب طريقة لا زالت موشومة على أذرع من نجا من ويلات الهولوكوست أثناء الحرب العالمية الثانية.

قل لي من عائلتك أذكر لك رقمها بين عشائر بئر السبع، ما هي الخطوة التالية ما دمنا نحمل أرقاما على أجسادنا؟ هل هي ذات الأرقام التي تعرفنا بها عصابات الجريمة غير العشوائية والمنظمة بدقة لتفتيت نسيجنا الاجتماعي رغم معرفتها أنها لن تتمكن من هذا المجتمع؟ ظاهرة ترقيم العوائل التي لفظها المجتمع جملة وتفصيلا، لا خير فيها ولا فيمن أحياها وهذا الجسم الدخيل لا يمكنه البقاء بيننا. كل التحية للمفتشين والمدراء والهيئة التدريسية كافة إلى جانب الهيئة الاستشارية والنفسية الذين عملوا ليل نهار على وقف هذه ""الدعابة الثقيلة"" داخل أبهى الصروح العمرانية في النقب ألا وهي مدارسنا عماد عمران الجنوب وقضاء بئر السبع.

افتحوا الأرشيف: كنائس الأرض المقدسة تتجاهل بئر السبع

حال المسيحية العربية في الشرق لا يختلف كثيرا عن حالة التخبط التي يعيشها الإسلام على حوض المتوسط وما بعده، إلا أننا ونحن في حضرة بئر السبع لا بد لنا تذكر أصالة العوائل المسيحية التي زادت التعددية الثقافية التي امتازت بها بوابة صحراء السبع على مر التاريخ، ولم يبخل الكتاب المقدس في التوراة والإنجيل على ذكر بئر السبع بل يأتي على ذكرها ووقائعها بتفصيل يدعو إلى الدهشة.

اجتاز دور العوائل العربية وهي كثيرة ولا مجال لحصرها مثل أبو داوود والنجار والطرزي التي عاشت في محيط المحكمة الشرعية القديمة في بئر السبع وأسست لها كنيستها التي يرثها لحالها في البلدة القديمة حدود بئر السبع إنما امتدت إلى عرعرة النقب وكسيفة وتل الملح ومناطق واسعة على الخط الواصل بين بئر السبع والبحر الميت في النقب الشرقي، وفي بلدة عرعرة النقب يؤتى حتى يومنا هذا على ذكر إحدى حاراتها على أنها ""أرض المسيحي"" نسبة لشاب مسيحي ميسور الحال، إضافة إلى أرض آل سكيك حيث سكن جدي المرحوم عاشور عبدالله أبو سكيك في قرية بير المشاش أطلق عليها كذلك ""أرض النصارى"". دأبت هذه العوائل وكانت السباقة في الانتباه لمسألة وخطورة تطويب الأراضي فقامت على تسجيل الأرض، بداية مع فترة الحكم العثماني وسجلت الطابو قبل وصول الانتداب البريطاني بسنوات.

مدينة بئر السبع التي يسكب الخمر في فناء مسجدها دون أي رادع، وهي التي عرفت التعايش الديني السلمي بكل ما للكلمة من نقاء وبهاء لم تكن فقط نقطة الوصل مع مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، بل إنها أيضا نقطة الوصل مع البتراء عاصمة الأنباط وميناء العقبة. اشتهرت صحراء بئر السبع أنها ملاذ المؤمن المسيحي الهارب ومن ويلات وظلم الرومان، والشواهد الأثرية أكثر من أن تذكر. لا يمكننا التعويل فقط على الأرشيف المتاح جزئيا في عواصم الشرق والغرب دون فتح الكنيسة ارشيفها بما يتعلق بقضاء بئر السبع. هذا الإجحاف بحق مسجد بئر السبع الكبير، والقرى البدوية غير المعترف بها في النقب لا يمكنه الاستمرار دون أي حراك يذكر. صمت كنائس الأرض المقدسة لا يليق بها وبدورها الريادي في هذه البلاد المباركة خصوصا ونحن مقبلون على فصل الشتاء، برد الصحراء القارس لا يمكن أن يواجه برد بارد من قبل الكنيسة المجبول تاريخها بتاريخ هذه البلاد بينما نطالب بحقنا بكرامة على أرضنا في النقب.

مصوّت، مقاطع، وبكرا مداوم

أهالي القرى غير المعترف بها في النقب ليس في عجلة من أمرهم في ""مواكبة العصر"" والانتقال للعيش في بيوت كما علب سمك السردين وسط القرى المعترف بها المجاورة التي يقطع بها التيار الكهربائي صيف شتاء، ولا خدمات حقيقة لحفظ الأمن الفردي والجماعي. عمليات الجريمة البشعة تجري تحت أعين كاميرات المراقبة التي تحمل شعار ""مدينة بلا عنف"" ومقابل مراكز الشرطة، اذن لما العجلة؟ لا يمكن لهذه الرومانسية إلا بالاصطدام بالواقع المركب. وأوله لماذا لا نقوم بتبني الخطط التي لا تعمل وفق الخطط الحكومية المعدة سلفا، تعدد مناهج الحياة في البناء القروي اليهودي أكثر من أن تذكر، لماذا نقبل بخطط النسخ لصق المعدة سلفا؟

ما دام الوضع تعيسا ولا يطاق ما هو دورنا من أجل الخروج من هذا الوضع المتأزم، نعلم يقينا أن المؤسسة مقصرة ومجحفة جدا بحقنا ككل المجتمع العربي من أقصاه إلى أقصاه لكن هذه نصف الحقيقة، لا لوم على الضحية بقدر ما هي مساءلة أولا عن دورنا في تغيير الواقع الذي لن يتغير ما دمنا نلقي اللوم على كل العالم دون النظر على أصبع الاتهام، بينما أصبع واحد موجه للمسؤول هنالك ثلاثة أصابع موجهة نحوي. الأزمة السكنية ليست مشكلة جديدة ما هي الخطط التي تناسب عيشنا في النقب؟ التحرش الجنسي داخل مؤسساتنا العامة والخاصة، إلى متى يبقى الصمت سيدا للقهر؟ سداد نفقات شظف العيش التعيس هي مجرد حجة تساق في الإبقاء على القاء اللوم على الآخرين. والأمثلة كثيرة لا تتوقف عن ابتزاز كبارنا جداتنا وأجدادنا عندما نختلس نفقات التأمين الشهرية بحجة أن البنك ابتلعها بسبب عمولات ربوية سابقة بينما نحن من قمنا بسرقتها وفي حال اعتراضهم، نضربهم؟ من الشاهد؟ لا أحد إذن فنحن ضربنا كبارنا وهم لن يشهدوا ضدنا سنبقى نضربهم الشهر المقبل كذلك، وهكذا نضمن في تقدمنا في العمر ينتظرنا ذات المصير؟ عمارة النقب وعمرانه، هو ليس الترف العابر إنما هو واجب الفرد تجاه نفسه اولا ومجتمعه ثانيا، هكذا علمتنا قيمنا وأخلاقنا وديننا الذي لا نعيره أي اهتمام.

كم عدد مؤسسات المجتمع المدني التي تنادي بالمساواة وكرامة العيش في النقب؟ كم هي المشاريع والبرامج والكتيبات التي أصدرت عن النقب وأحواله وتم طرحها في لجان الكنيست المختلفة ودائرة الأراضي وطرح الحلول لقضايا الأرض والمسكن في النقب بالاستناد إلى مطالب الأهالي. الواقع المعقد في الجنوب هو مسؤولية جماعية ولن يتغير واقع الحال ما دامت المصلحة الخاصة للفرد والأسرة والعائلة هو محركنا الأساس وليست المصلحة العامة. الانتخابات يوم والأزمات دوم، ما يفرقنا على صندوق الاقتراع يجمعنا عند الأزمات.

مصدر الصورة: سباق للخيول والهجن في بئر السبع، بتاريخ الرابع من أيار/مايو 1940 - مكتبة الكونغرس."

كايد أبو الطيف

مزارع ثقافة في حقل إنتاج المعرفة (باحث في مجال الدراسات الثقافية) ومبادر منصة هٌنا الجنوب

شاركونا رأيكن.م