النصف المُظلِم
من المواضيع الهامة التي يتناولها الأدب العلاقة بين الرجل والمرأة، وما تمارسه السلطة الذكوريّة على المرأة من تسلّط وتحكّم بمصيرها وقمع حريّتها النفسيّة والاجتماعيّة؛ لذلك تلعب المرأة دورًا فاعلًا في الأدب عامةً، وتسعى من خلاله إلى هدم النظام الأبويّ، التقليدي الذي يمارس وحشيته وقسوته على المرأة دون أيّة رحمة، فتحاول أن تتخطى العراقيل التي يضعها المجتمع أمام تحقيق ذاتها، فتجعل من الرجل ضعيفًا تارة وذلك بهدم معايير الذكورة التي اعتاد عليها الشعب العربي. كما وتنتقد الكاتبات ازدواجيّة الرجل المثقف الذي رغم تقدّمه وتحرّره من بعض المعتقدات الاجتماعيّة إلا أنه ما زال مؤمنًا بوجوب خدمة المرأة له رغم ما تفعله المرأة من تضحيات وممارسات ثوريّة. كما وتحاول الكاتبات المطالبة بمطالب أساسيّة جدًا، كالإصغاء والمحاورة التي تنعدم في العديد من البيوت العربيّة، ومنحها حقّ التعبير عن الرأي، وتغيير وجهة المجتمع الذكوريّ ( Taha, I. Arabic minimalist story. Wiesbaden reichert 2009, p.90-105).
في كثير من الدراسات تبيّن أن الكاتبات أخذنَ يسلِّطن الضوء على القضايا النسائيّة واهتمامات المرأة أكثر من القضايا الاجتماعيّة العامة، وكان هنالك ذكر قليل للقضايا السياسيّة والأحداث الآنيّة الطارئة. ومن الأمور التي أولتها الكاتبة الفلسطينية أهمّية كبرى المواضيع المتعلقة بالحب والجنس والحديث عن الطابوهات التي لم تخضها سابقًا بشكل مباشر، إلا أنّ فرصتي التعلم والعمل أثّرتا عليها بشكل كبير وغيّرتا مفاهيمها للأمور فصارت أكثر جرأة وحريّة في التعبير عن نفسها. ومع هذا فقد برز أن الكاتبة التي تعيش في الداخل، أو في الضفة الغربيّة والقطاع كانت أقل جرأة من باقي الكاتبات العربيات في شتى البلاد العربيّة، وتجنّبت الكلمات الحميميّة، واللغة الفظة والقاسية والمواضيع التي تعتبر حسّاسة في المجتمع وذلك لأنها تعيش في مجتمع تقليدي وصغير، مما يتطلب منها أن تكون أكثر حذرًا في طرح المواضيع وانتقاء الكلمات المناسبة ( Gottesfeld, D. ""A Compass for The Sunflower"". Hawwa: Journal of Women of the Middle East and the Islamic World, Vol. 8, 2010, pp. 214, 215).
تطرح العديد من الكاتبات موضوع العلاقات الزوجيّة غير الناجحة والتي تنبني على عدم الوفاق، الخيانة، تسلّط الرجل على المرأة، العنف الممارس ضد المرأة كلاميًا وجسديًا. وفي أغلب القصص كان الحل الذي اختارته المرأة هو الصمت أو التنازل عن حقّها في العيش الكريم. وفي كثير من القصص تكون شخصيّة المرأة غير حاضرة، إنما يتحدث عنها الراوي بصيغة الغائب كقصّة تدليل للكاتبة الفحماوية عايدة نصر الله التي تتناول موضوع العنف المستشري في الوسط العربي والازدواجية في تعامل الرجل مع المرأة على المستوى الشعوري والفكري، فهو يحلم ويعبّر عن أفكاره ومشاعره بطريقة مثالية تتضمن العديد من الحركات الرومانسية البعيدة عن الواقع، ويرفع المرأة إلى مستوى القدسية لكنها تفاجئنا في نهاية القصّة بحدث يناقض كل ما ذكر في بداية القصّة وتعكس طريقة تعامل وحشية من قِبل الرجل ذاته تجاه المرأة الأمر الذي يصيب القارئ بالدهشة نتيجة الفجوة الظاهرة بين الحلم والواقع.
تدليل
سأتركك تنامين .. سأشعل لك ضوء بيت النعاس .. أفرش لك السرير .. أخرِج لك بيجامتك من الدولاب .. أمسح المخدة بكفي.... أقبّلك بين عينيك .. وقد أبوسك .. وقد .. وربما ترك وعده في منامه .. وعندما جاء الصباح قرّر نحت حذاء مدبّب على وجهها.
(نصر الله، ع. www.sudanray.com/showthread.php/2227)
نلحظ في هذه القصّة أن المرأة مغيّبة ولا نجد لها أي أثر يُذكر، ويسلَّط الضوء على شخصيّة الرجل وقوله منذ البداية وحتى النهاية. وانعدام حضور المرأة يبيّن انعدام الشخصيّة لديها وعدم قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث وفي مصيرها الذي يخطّطه الرجل وفق أهوائه ووفق وعوده الكاذبة التي تُمّحى في كل صباح. ولذلك يكون الرجل هو المخطِّط الأول والأخير لحياتها ويشكلّها كيفما يريد لأن شخصيتها الممحوَّة تعطيه هذه الفرصة. ونلحظ أيضًا أن دور المرأة يتغيّر، ففي البداية تكون مخاطَبة لأنه بحاجة إليها، لكشف أوهامه ووعوده الكاذبة التي تنطلي عليها طيلة الوقت، فلا تبدي أيّة ردة فعل تجاه أقواله لأنها مغيّبة بنظره وبنظر المجتمع، وستبقى كذلك إلى أن تقرر أن تتخذ خطوة تخالف توقعاتهم.
إنّ شخصية المرأة مغيّبة وغير مرئية (Invisible Character) وصوتها غير مسموع (Voiceless)، ففي قصة ""خلاعة"" للكاتبة الغزاوية صباح القلازين تكون المرأة غير حاضرة إنما تكون مستقبلة لكل النظرات البذيئة دون أن تبدي أية ردة فعل أو تدافع عن نفسها.
خلاعة
في أعماقنا غابات لم تشذّب، وحيوانات مفترسة تتحين لحظة الانقضاض، ورجال بدائيون عراة يقدحون نارًا، لذلك كله حين مضت الفتاة ذات الجينز الضيق والبلوزة الورديّة والجسد المنحوت إلى التواليت لتجدد زينتها طفحت الأعين من محاجرها كمجاري الصرف الصحي وهي تتلقف خطوها المتئد على أرضيّة المقهى الرخاميّة الزلقة وبما أنّ البذاءة تحتفي بالكتمان فقد أعدّ كل رجل في حيطة كاملة خطته الجهنميّة ليحظى بها منفردًا وعلى نار هادئة. (القلازين، ص. http://anfasse.org/next51-osaka/xmkb1-240001152802/4450.html)
عند قراءة العنوان ""خلاعة"" تتبادر إلى أذهاننا مباشرة صورة أنثى، لكن يتضّح من القصّة أن تفكير الرجال هو الخلاعي وليس الفتاة، ولهذا يعكس العنوان مفارقة حدثيّة بين المتوقع والحاصل فعلًا، فالمرأة تطّورت على مدى العصور وتمدّنت بينما الرجل ما زال قابعًا في العصر الحجري، ينظر إليها النظرة الدونيّة التي تعكس خلاعة تفكيره وسوء نيّته. أما المجتمع فيسلط الضوء على أفعال المرأة ولباسها ويتهمها بالخلاعة في حال ارتدت ما يحلو لها في حين يبقى الرجل حرًّا، طليقًا في حركاته وأفعاله وأفكاره، لا أحد يحاكمه أو يعطيه ملاحظة على أفعاله أو نظراته، وعلى المرأة أن تأخذ الحيطة والحذر في كل أفعالها حتّى لا تثير شهوة الرجل وتثير نزواته. ولهذا نجد أن العنوان يكشف عن النظرة المشوهة التي ينظر بها المجتمع الذكوري برمّته إلى المرأة، وبما أن المرأة هي مستضعفة فعليها أن تتصرف وترتدي بما يتلاءم مع الفكر الرجولي الرجعي حتى تتقي شرهم وتسلم من أفعالهم.
تهتم بعض الكاتبات بالتعبير عن الرفض للعنف الممارَس ضدهن، والنهوض ضد تسلط الرجل سواء كان زوجًا أو أبًا وتسعى إلى تسليط الضوء على دور النساء في عملية الإسكات وإحباط أية ثورة نسائية. ومثال على ذلك قصّة ""حواء تغش الحكاية"" للكاتبة النحفاوية أنوار الأنوار
حواء تغش الحكاية
حكا يّة-1: كانت أمي جائعةً وموجوعةً، قبل أن يفجعها نبأ كوني أنثى. انكفأت على حبل السرّة تقضمه فغمر وجهَها دمي. بينما قفزت الدايّة التي أجفلتها البغتة وراحت تهيم في شوارع بلدتنا تقسم أننا سلالة متوحشة، تاركةً نصف الحبل منطلقًا من بطني كذكر عجوزٍ خانته رجولته. ظلّت أمي تعلك ما ابتلعت من القطعة المعضوضة. وعبثًا راح أبي يضربها، لعلّها تقتنع بتناول وجباتٍ بديلة. كانت تحلف أنّها لن تغفر لذاتها إنجاب من تحمل كلّ هذه الأوزار. فيما قضيتُ أنا سنوات عمري أعيد محاولاتي بقطع الحبل الذي تعفّن. كلما تخلصتُ من بعضه سالت منه دماءٌ جديدة.
ما زال صوت الدايّة يصفعني بصداه. وضربات أبي المنهالة على فم أمّي لم تمنع مني الصراخ. فيما أسناني التي كلما نبتت تكسّرَت، تظلّ تسخر من مساعيّ الفاشلة..
(الأنوار، https://www.facebook.com/profile.php?id=100010207990224)
تصف الكاتبة في قصتها الواقع المشوّه للعائلة العربيّة التي تفرز أمهات متوحشات، وشريرات فعوضًا عن الحب، الاهتمام والرعاية التي يجب أن توفرها لمولودتها الجديدة تسعى الأم بكل قواها أن تتخلص من ابنتها مستخدمة كل الوسائل المتاحة للتخلّص من ""الفاجعة"" التي ألمّت بها، فولادة البنت بالنسبة إليها هي مأساة كبيرة، ولذلك تحمُّل ألم الولادة بالنسبة إليها راح سدًى، لأنها كانت تنتظر ذكرًا لا أنثى يعوّضها جوعها ووجعها. ويصوّر الراوي لحظة انقضاض الأم على حبل السرة بلحظة وحشيّة، عنيفة، داميّة وهي تناقض مفاهيم الأمومة الاعتياديّة التي نشأنا عليها والتي تسعى فيها كل امرأة لحماية طفلها من أي أذى، ورعايته وتوفير كل ما يلزم لينشأ بطريقة سليمة. ونلحظ هنا مفارقة في الموقف واضحة حيث يتناقض الحدث الذي يتوقعه القارئ من أم تلد وتريد أن تضم مولودها إلى صدرها لتعطيه الحنان والرعاية ومع الموقف الفعلي المعبّر عنه في القصّة والذي يعكس وحشيّة الأم وانقضاضها على الحبل لتقطعه فتملأ المشهد دمًا لا حنانًا وعطفًا، فيتفاجأ القارئ ويحاول أن يحلّ اللغز الموجود في القصّة حتى تكتمل الصورة. الدور الثاني الذي تلعبه الأنثى في هذه القصّة هو دور الدايّة التي تُصعق بعد أن ترى الأم تنقضّ على حبل السرة فتقرر الهرب نتيجة صدمتها لتعبّر عن عدم تقبّلها لما حصل وعدم قدرتها على الاستيعاب، وأن ما فعلته الأم هو خارج حدود المنطق والإنسانيّة. وفي نهاية القصة نلحظ أن آثار صراخ الداية يلازم الراوية إلى الأبد ليعلن بذلك أن أوّل من يحبط عزيمة المرأة هي المرأة ذاتها.
أما قصّة الكاتبة الفلسطينيّة الأردنيّة بسمة النسور ""قضبان وحجارة"" فهي من القصّص القصيرة جدًّا القليلة التي تنهض المرأة فيها ضد الظلم الممارس إزاءها، فتقرّر الهروب من المؤسسة الزوجيّة وتحكم عليها بالفشل من بداية طريقها، لكن اختيارها للهروب جاء من باب عدم القدرة على المجابهة أو اتخاذ الحوار سبيلًا للتغيير.
قضبان وحجارة
حين خطوا أولى خطواتهما نحو عشّ الزوجيّة، صرخَ بسعادةٍ وهو يحملها: ها قد دخلنا القفص الذهبي..!
في اليوم الثاني شعرتْ بالضيق وهو يغلقُ النوافذ والأبواب والأباجورات.
في اليوم الثالث شعرتْ بالضيق يزداد في صدرها.
في اليوم الرابع شعرتْ بشيءٍ ما يكتمُ على أنفاسها. وحين أغلقَ بابَ الغرفةِ واقتربَ منها، بدأتْ الغرفةُ تصغر والجدران تضيق وتُطبقُ عليها.. لم تعدْ قادرة على استنشاقِ الهواء. فخرجتْ من البيت في قميص النوم، وحين التفتتْ وراءها، كان القفص الذهبي قد تحول إلى كومةٍ من قضبانٍ وحجارة
تعبّر القصّة عن مفهوم الزواج الخاطئ في مجتمعنا العربي والذي يقوم المجتمع بتسميته بـ""عش الزوجيّة"" وهذه التسمية هي كناية إيجابيّة وتعبّر عن الألفة والحب اللذين يجب أن ينعم بهما الزوجان. وكذلك بالنسبة للتسمية ""القفص الذهبي"" وهي تسمية تتضمن تناقضًا ومفارقة بين القفص والذهبي فالقفص مهما كان شكله ولونه وهيئته هو يعتبر قفصًا وذلك لأنه يتضمن مسؤوليات وواجبات ملقاة على الرجل والمرأة، أما بالنسبة للحريّة فهي تقلّ مقارنة بأيام العزوبيّة. ويوصف القفص بالذهبي للتعبير عن القدسيّة والأهمّية التي يحملها الزواج على صعيد المجتمع والدين. وفي قصّة ""قضبان وحجارة نرى أن هذا التعبير يتلفظ به الرجل لا المرأة في اليوم الأول، ونرى أن المرأة لم تعبّر عن رأيها في السطر الأول بينما الرجل عبّر بشكل كبير عن سعادته حين صرخ قائلا: ""ها قد دخلنا القفص الذهبي""، وصراخه هذا يعبّر عن انفعاله وإيمانه الشديد بجملته التي يقولها. أما المثير بالأمر أن المرأة باتت تشعر بما يمارسه الرجل من تسلط وفرض سيطرته على القفص الذي باتت تشعر أنها موجودة فيه، وهو يطبّق ما يؤمن به وليس مجرد كلمة عابرة. بهذه الطريقة تعبّر الكاتبة عن فشل مؤسسة الزواج بشكل عامّ، وعدم قدرة المرأة على تغيير عقليّة الرجل ونظرة المجتمع إزاء هذه المؤسسة. ونلحظ تصاعدًا في هذا الشعور يومًا بعد يوم، ويبدأ ذلك بأن يمنعها من التنفس حين يغلق النوافذ عليها، ويمنعها من الخروج حين يغلق الأبواب، ويمنعها أيضًا من الضوء حين يغلق الأباجورات ""مانعة النور""، ولذلك يتضح أنه يبالغ في تطبيق مفهوم القفص ويحدّها من الضوء، الهواء، الحريّة وهي مقومات الحياة لأي كائن حي، وانعدام هذه المقومات هو إعلان إلغاء المرأة عن الوجود وموتها المحتم. ولذلك يعلن جسدها تمردًا على هذا الموت البطيء الذي يحدثه الزوج، فتشعر بضيق في صدرها، وهذا يشير إلى كميّة الأوكسجين القليلة التي تدخل رئتيها. أما اللحظة الحاسمة والتي تحدث انعطافًا في الأحداث فهي حين يغلق الزوج باب الغرفة، وهنا يتبيّن أن اقتراب الزوج منها جسديًا هو بمثابة تنفيذ حكم إعدام على جسدها وكيانها فهو يرى أن دورها كزوجة يتمثل في كونها جسدًا يشبِع رغباته فقط وهذا الدور هو الذي جعلها تشعر أن لا قيمة لها في هذا الوجود وأن حياتها انحصرت في تنفيذ رغباته لا غير.
إذا قارنا ذلك بشخصية المرأة في الروايات والقصص النسوية في العقدين الأخيرين فإننا نجد المرأة في قصص النساء الفلسطينيات ما زالت تعاني لغاية الآن من كل أشكال العنف، لا تتحلى بأية قوة لتغيير الوضع الراهن كما في أغلب القصص القصيرة جدًّا التي يكتبها الرجال. فنرى أن أغلب الشخصيات في قصص الكاتبات والكتّاب الفلسطينيين بعيدة عن البطولة ولا تحرز أيّ تقدم أو تغيير.
ولا يسعنا إلّا أن نقول إن الكاتبة الفلسطينية للقصص القصيرة جدًّا تعكس شخصية المرأة في المجتمع العربي التي ما زالت بعيدة عن التمرّد والثورة على التقاليد الاجتماعية والنظام الأبوي الذي يتجلى بخرق الطابوهات والمحرّمات. وهناك محاولات ضئيلة لبعض الشخصيات القصصية النسائية الخروج عن هذا النظام، وهذه المحاولات تنحصر في التمرّد على المؤسسة الزوجية وتبعاتها من بيت، عائلة أولاد ومسؤوليات. كما أن الكاتبة الفلسطينية ابتعدت عن الأحداث السياسية والانتماءات الحزبية في كتاباتها، وأخذت تكتب عن الحرب والعنف المستشري في المجتمع والقضايا الاجتماعية التي تمسّها وتمسّ الشعب.