التعليم العالي في المدن المختلطة: واقع وتحديات!
قبل أكثر من أسبوعين افتتحت السنة الدراسية الأكاديمية الجديدة، والمعطيات المُحدَّثة التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية مؤخرًا حول السنة الدراسية الأكاديمية المنصرمة - 2020/2021 هي بمنزلة جرس إنذار إضافي للدولة عامةً وللمجتمع العربي على وجه الخصوص. أبرز ما جاء في هذه المعطيات هو الارتفاع الكبير نسبيًا في أعداد الطلاب والطالبات العرب الذين انخرطوا في مؤسسات التعليم الإسرائيلية في العقد الأخير. عمليًّا، يمكن اعتبار هذه الزيادة التي يشهدها العقد الأخير في نسبة الطلاب والطالبات من المجتمع العربي في جميع الألقاب الأكاديمية – من اللقب الأول وحتى الثالث - خطوة إيجابية؛ لكن في الوقت نفسه، وبموجب المعطيات إياها، هناك جوانب أخرى مقلقة وتستدعى متخذي القرار أن يمنحوها اهتمامًا كبيرًا لما لها من إسقاطات وتداعيات على المجتمع برمته. حيث أشارت المعطيات إلى أنه مقابل كل طالب عربي في مؤسسات التعليم العالي هناك طالبتان عربيتان. بما معناه، لم يُحرز الرجال العرب تقدمًا ملحوظًا مقارنةً بالمرأة العربية خلال الأعوام 2010-2020، وفي كل عام عدد النساء العربيات الأكاديميات يتضاعف مقارنة بالرجال العرب. وفي سياقٍ متصل، تشير إحدى الدراسات التي أجريناها في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، حول السنوات 2008 – 2018، إلى أن هذا التوجه أكثر بروزًا في المدن المختلطة وتوضّح آثاره وانعكاساته على المجتمع العربي كما على الاقتصاد الإسرائيلي.
فيما تُسجل زيادة ملحوظة في معدل الأكاديميات العربيات من المدن المختلطة خلال الأعوام 2008 - 2018 بأكثر من سبع نقاط مئوية (من 10.9٪ إلى 18.1٪) ارتفع معدل الأكاديميين العرب في هذه المدن بشكل أكثر اعتدالًا، وبأقل من ثلاث نقاط مئوية (من 8.4٪ إلى 11.2٪). مما يعني أنه في حين تمكنت النساء العربيات من تقليص الفجوة في التعليم العالي مقارنة بالنساء اليهوديات، لا تزال الفجوات عالقة في أوساط الرجال في المدن المختلطة، بل واتسعت إلى حدٍّ ما. يشار أيضًا إلى أنه حتى العام 2018 بلغ معدل الأكاديميات العربيات في المدن المختلطة أقل من نصف معدل الأكاديميات اليهوديات، وبلغ معدل الأكاديميين العرب حوالي الثلث مقارنة بالأكاديميين اليهود.
ومن الأهمية بمكان أيضًا الإشارة إلى التباينات الداخلية بين المدن المختلطة، حيث أنه حتى العام 2018، سجلت مدن نوف هجليل ومعلوت ترشيحا - المدن التي يتميّز سكانها العرب بكونهم من الطبقة المتوسطة- معدلًا مرتفعًا نسبيًا من النساء العربيات الأكاديميات ونسبة منخفضة نسبيًا من النساء العربيات الحاصلات على تعليم لا يتجاوز المرحلة الثانوية. في المقابل، معدّل النساء العربيات المتعلمات في اللد والرملة منخفض بشكلٍ خاص - نحو 70٪ منهن حاصلات على تعليم لا يتجاوز المرحلة الثانوية وحوالي 10٪ فقط حاصلات على لقب أكاديمي. مقابل ذلك، نسبة الأكاديميين العرب في هذه المدن أكثر سوءًا حيث تصل إلى 5.7٪ في الرملة و3.7٪ في اللد. عمليًا، وبعد فحص الاتجاه السائد في اللد خلال العشر سنوات الأخيرة يمكننا أن نفهم واقع التعليم في المدن المختلطة خلال العقد الأخير: تضاعف معدل النساء العربيات الأكاديميات تقريبًا، بينما سجل معدل الأكاديميين العرب ارتفاعًا طفيفًا. بطبيعة الحال ونظرًا للعلاقة المتبادلة بين مستويات التعليم ومعدلات الأجور فإن لهذه المعطيات دلالات، وتداعيات وإسقاطات على الحالة الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، سيما بالنظر إلى الفجوات الكبيرة في معدل الأجور (أكثر من ضعف متوسط الأجور) بين الرجال والنساء من المجتمع العربي في المدن المختلطة لصالح الحاصلين على لقب أكاديمي.
إن الارتفاع في مستوى ومعدلات التعليم لدى النساء العربيات في المدن المختلطة هو جزء من ظاهرة عامة تشير إلى ارتفاع مستمر في مستويات التعليم لدى النساء العربيات في البلاد، والذي يأتي كنتيجة مباشرة للتحسن المستمر في إنجازات الطالبات العربيات مقارنةً بالطلاب العرب منذ مراحل الدراسة المبكرة - كما تُظهر نتائج امتحانات الميتساف- وتستمر حتى نتائج امتحانات البجروت. كل هذه العوامل مجتمعةً تَمنح المرأة العربية أفضلية ""نسبية"" بالقبول إلى مؤسسات التعليم العالي والانخراط بها مقارنةً بالرجال العرب. من جهةٍ أخرى، فإن كون المجتمع العربي في إسرائيل ""مجتمع هجين"" وموجود في خضم مرحلة انتقالية تتسم بالابتعاد عن أنماط الحياة التقليدية ويتبنى أنماط حياة أكثر حداثية؛ ساهم في خلق ظروف سهلت على النساء العربيات الخروج من إسار المحدوديات التي فرضها المجتمع التقليدي سابقًا وحثها على تلقي التعليم الأكاديمي.
إن ارتفاع معدل تعليم النساء العربيات في المدن المختلطة هو أمرٌ إيجابي ويحمل في جعبته آثارًا وتداعياتٍ في غاية الأهمية على واقع المواطنين العرب في المدن المختلطة، إلا أنه قد يتراجع ويتقهقر إذا لم يتم تسجيل اتجاه مماثل في صفوف الرجال العرب في المدن المختلطة. يمكن لمثل هذه الفجوات في مستويات التعليم بين الرجل والمرأة أن تخلق صراعات وتزيد من حدة التوترات والشروخ الداخلية، سيما في المجتمعات التقليدية أو التي تمر بمرحلة انتقالية. وعليه، قد يقيّد الرجال - خاصة غير المتعلمين- إمكانات زوجاتهم أو نساء أخريات في عائلتهم ويمنعنهن من دخول سوق العمل أو تضييق الخناق عليهن لأنهم يتوقعون أن تلتزم المرأة أولًا وقبل كل شيء بأدوارها الوظيفية التي تفرضها المنظومة الذكورية وتقوم بحصرها بالنساء، مثل: عنايتهن بالبيت ورعاية وتربية الأطفال أولًا وقبل كل شيء. أما بالنسبة للنساء غير المتزوجات، قد يُصعّب التعليم العالي في بعض الأحيان العثور على شريك حياة بسبب المفاهيم الأبوية والذكورية السائدة التي تفرض بأن أداءها لدورها كزوجة، كأم وكربة منزل كما أشرت أعلاه سيكون ضعيفًا وستمنح المرأة جل وقتها من أجل تطوير مساراتها المهنية وهذا سيأتي بالضرورة على حساب دورها الأسري من جهة، أو بسبب رغبة المرأة في العثور على شريك بمستوى تعليمي مماثل لها وبموجب توقعاتها الاجتماعية والقيمية أيضًا بينما يكون عدد هؤلاء الرجال قليل.
في ضوء كل ما سبق ذكره، وإلى جانب الجهود المبذولة لمواصلة دمج النساء العربيات في التعليم العالي، ينبغي عدم التخلي عن الرجال العرب أبدًا. يجب تعزيز برامج التوجيه للتعليم العالي خلال المرحلة الثانوية لتوضيح أهمية الأمر للرجال العرب في المدن المختلطة وفوائد التعليم العالي وانعكاساته المجتمعية والأسرية. يجب الانتباه بشكلٍ خاص إلى المدن التي تكون فيها نسبة الأكاديميين العرب منخفضة، خاصة المدن المختلطة التي لم تشهد اتجاهًا تصاعديًّا كافيًا في هذا المجال في السنوات الأخيرة.
ومن نافل القول، إنَّ المجتمع العربي في المدن المختلطة التي عانت على مدار سنوات طويلة من إهمال وهامشية مضاعفة. تمثيلها في المؤسسات السياسية التمثيلية للمجتمع العربي ضئيل جدًا مقارنةً بوزنها وحضورها الديموغرافي من جهة، ومن جهةٍ أخرى تم إقصاؤها من جميع الخطط والبرامج الحكومية المخصصة للمجتمع العربي. فضلًا عن ذلك، فإن تأثير هذه المجموعة على السياسات البلدية المحلية في كل مدينة محدودة للغاية وتكاد تكون معدومة. إزاء هذا الواقع المأزوم ونتيجة لمبادرات عديدة قادتها مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني، خصوصًا في أعقاب هبة أيار الأخيرة، حصلت المدن المختلطة على اهتمام منقطع النظير إعلاميًا، وسياسيًا وجماهيريًا. أمسى واقع العرب في المدن المختلطة والحاجة الماسة إلى الاستثمار بهم ضرورة ملحة لدى قطاعات واسعة من السياسيين ومتخذي القرارات مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل مدينة والتباينات الداخلية فيما بينهم.
على الرغم من أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي للسكان العرب في بعض هذه المدن المختلطة أفضل من واقع الحال لدى سائر المجتمع العربي، إلّا أنه علينا أن نذكر دائمًا بأن مجموعة المقارنة المباشرة للسكان العرب في المدن المختلطة هي المجموعة السكانية اليهودية التي تعيش معها في نفس المدينة. إن مجرد النظر إلى واقع الأحياء العربية والمؤسسات التربوية والثقافية التابعة لها والخدمات البلدية التي تحظى بها مقارنةً بتلك اليهودية فإن النتيجة التي لا تقبل مجالًا للتأويل هي أن الأحياء اليهودية والسكان اليهود يحصلون على امتيازات في الجانب الخدماتي، كما أن حالة المؤسسات التربوية أفضل بكثير مقارنةً بتلك العربية، ناهيك عن الجوانب التخطيطية والإسكانية. إن استمرار هذا الواقع التمييزي واستفحاله يزيد من مشاعر الإحباط والغضب لدى المواطنين العرب عامةً ويجعل الكثير من الشباب بدون آفاق مستقبلية في الجوانب التعليمية والتشغيلية، ويحول دون تعزيز الشراكة في إدارة المدينة ولهذا الأمر آثار هدامة على المجتمع برمته.
د. نسرين حداد - حاج يحيى
مديرة برنامج المجتمع العربي بمعهد IDI شريكة بصندوق بورتلاند وشريكة في شركة الأبحاث NAS